د. سمير محمود
أستاذ الإعلام في عدد من الجامعات العربية (السعودية)
“رب ضارة نافعة”، هكذا يقولون؛ فمنذ مطلع العام الجاري 2020، حين أعلن عن ظهور فيروس كورونا المستجد ثم إعلان منظمة الصحة العالمية في مارس الماضي خروج الفيروس عن السيطرة وتحوله إلى جائحة وأنظار العالم ترقب هذا الفيروس التاجي الغامض بتحولاته الشرسة وتداعياته الكارثية التي أدت إلى إغلاق الكرة الأرضية وتعليق الأنشطة الاقتصادية وإغلاق الحدود وتجميد حركة الطيران. وهكذا أخذت أخبار الفيروس ومستجداته تتصدر وسائل الإعلام، وصار الطب والعلوم والفيروسات في بؤرة اهتمام الجمهور، ومعها تحول العلماء والباحثون ليتصدروا المشهد الإعلامي في التصريحات المتعلقة بهذه الجائحة التي عجز العالم حتى كتابة هذه السطور عن التوصل إلى علاج ناجع لها.
نجم محركات البحث
جميع محركات البحث تظهر أن التوجه العالمي لسكان الكرة الأرضية خلال الأشهر الماضية تركز حول متابعة الجائحة وانتشارها ومكافحتها والحد من تداعياتها، وتشير إلى مؤشرات إيجابية عالمية للإنصات لصوت العلماء والمتخصصين، ولصوت العلم والقضايا العلمية من مصادرها الرسمية المتخصصة وعبر وسائل الإعلام ومنصاته الأكثر موثوقية، فيما يبدو وكأن فيروس كورونا قد رد الاعتبار لبعض وسائل إعلامنا التقليدية، وكشف عن جماهيريتها المفقودة، كما كشف عن ميل جماهيري واضح لمتابعة كل ما يمثل تهديدًا لصحته وسلامته وحياته بالفناء، حتى لو ارتبط ذلك بمصطلحات طبية وعلمية بالغة الغموض والتعقيد.
في هذه الأجواء تجدد طرح السؤال القديم: هل تحظى العلوم والقضايا العلمية والطبية بالاهتمام الجماهيري الذي يليق بمكانتها في المجتمعات باعتبارها محور التقدم والتنمية؟ وهل تجد هذه القضايا من الإعلاميين العلميين المتخصصين من يستطيع أن ينقلها إلى دائرة الضوء؟ وهل تتحمس وسائل الإعلام لاسيما في الدول العربية والعالم النامي لهذا النوع من المحتوى المتخصص عبر منصاتها التقيلدية والجديدة؟
مبادرة علمية افتراضية
هذه الأسئلة وغيرها دفعت المنسق الإقليمي لشبكة العلوم والتنمية (سيديف نت) الدكتورة بثينة أسامة، ورئيس تحرير النسخة العربية من مجلة (بوبيلر ساينس) سعد لطفي بمبادرة شخصية منهما إلى التفكير في إقامة أول منتدى للصحافة العلمية يعقد افتراضيًا، ويستهدف متحدثين من مختلف قارات العالم، ويخاطب صحفيين ومحررين علميين من شتى دول العالم.
وهدف المنتدى الذي عقد ما بين 24 و26 أغسطس إلى الاستفادة من الخبرات الإعلامية العالمية، والاطلاع على التجارب الإعلامية العلمية المتميزة في العالم، والتغلب على عوائق التمويل وأعباء تكاليف السفر التي تواجه عادة الإعلاميين في دول العالم النامي.
وشكل المنتدى مجلسا استشاريا ضم 14 شخصية يمثلون نخبة من كبار الإعلاميين العلميين في قارات العالم، ودُعي الإعلاميون العلميون من هذه القارات إلى حضور برنامج المنتدى الذي تضمن 76 جلسة متنوعة شملت ورشات عمل تدريبية على مهارات الصحافة العلمية واستخدام الأدوات الحديثة مثل قواعد البيانات وتقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتوظيف تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز في تغطية قضايا العلوم، إضافة إلى جلسات علمية حول مشكلات الصحافة العلمية وتحدياتها لاسيما تحديات الممارسة في مناطق النزاع في سوريا والعراق واليمن والأردن ودول أخرى، وحوارات مفتوحة مع العلماء، وجلسات حول الأمراض الوبائية وتحديدًا جائحة كورونا.
وقُدم المحتوى والجلسات وورشات العمل بأربع لغات هي العربية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية، وحضرها على مدى ثلاثة أيام 900 مشارك، في حين شارك في تقديم محتوى الجلسات 25 شريكا دوليا، أبرزهم معهد ماساتشوستس للتقانة، والجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، وشبكة الصحفيين الدوليين، ومبادرات غوغل الإخبارية، ويوركا اليرت، إضافة إلى روابط الصحافة العلمية في العالم.
بناء قدرات الإعلاميين
بصفتي متحدثًا أمام هذا المنتدى الدولي، في جلسة حول الإعلام العالمي والعربي وكيفية تفاعله مع جائحة كورونا، إضافة إلى مشاركتي في ورشة لبناء قدرات الإعلاميين على المهارات الأساسية للصحافة العلمية، أستطيع أن أرصد خلاصات لهذا المنتدى المتميز.
حفل برنامج المنتدى بعدة محاور، فالأوبئة وتحديدًا كوفيد- 19 كان لها حضورها القوي في المنتدى، وبرز بوضوح السؤال: هل فشلت منظمة الصحة العالمية في إدارة أزمة الجائحة طبيًا وعلميًا دون التأثر بالتجاذبات السياسية بين الدول وأبرز مظاهره إعلان الانسحاب الأمريكي من المنظمة الأممية، كذلك أثير جدل بشأن الإعلان المتسرع لبعض الدول عن التوصل إلى لقاح ضد الفيروس، ومدى التزام هذه العلاجات بالضوابط العلمية المطلوبة في مثل هذه الحالات.
والجانب الأكثر إشراقا في المنتدى هو تسليط الضوء على تجارب الإعلام العلمي في الدول النامية ودول الجنوب؛ فعرضت تجارب ناجحة من تلك الدول في تأسيس منصات ومواقع علمية وإنشاء قنوات يوتيوب علمية. وناقش المنتدى مستقبل العلوم والتقنيات وتوظيفها في الإعلام العلمية، والمياه وصلاحيتها واقتصاديات تحليتها، ومؤشرات استخدام الجمهور لمحرك غوغل البحثي ومدى الاستفادة منها في صنع محتوى علمي تنافسي، إضافة إلى مبادرات التحقق من صحة الأخبار ومنها أخبار العلوم والتقنية.
قصص النجاح وتغطية الصراعات
اللافت هو قصص نجاح الجنوب النامي في ممارسة الإعلام العلمي، حيث حظيت الجلسات التي قدمها بعض ممثلي الإعلام العلمي في الدول النامية بإقبال لافت واهتمام بالغ من مراكز العلوم وجمعياته في أوروبا وأمريكا، وبرز خلال هذه الجلسات حزمة من التحديات التي تواجه ذلك الإعلام.
وقدم عدد من الإعلاميين العلميين لمحات عن الصعوبات البالغة التي تواجههم أثناء عملهم في ضوء الصراعات التي تعصف ببلدانهم، لاسيما اليمن وسوريا والعراق، وأهمها المخاطر الأمنية، وقيود الحركة والوصول إلى مصادر المعلومات، وضعف شبكات الإنترنت والاتصالات.
صحافة البيانات
في جلسة عقدت حول جائحة حول كوفيد-19، استعرضتُ نتائج دراسة علمية محكمة لي حول توظيف صحافة البيانات في تناول فيروس كورونا المستجد بالمواقع الإلكترونية العربية والعالمية. وكانت النتائج لافتة؛ إذ تبين وجود تفوق كمي ملحوظ للمواقع العالمية في حجم اهتمامها بصحافة البيانات بأشكالها المختلفة، مقابل اهتمام أقل في معظم المواقع العربية، إضافة إلى تفوق المواقع العالمية في حجم إنتاج القصص المدعومة بالبيانات حول فيروس كورونا، وتفوقها أيضا في توظيف أكثر من فن صحفي في إثراء محتواها المدعوم بالبيانات حول فيروس كورونا، بحيث لم تكتف بالسرد القصصي الخبري والتقريري كما هو الحال في المواقع العربية، وإنما تجاوزت ذلك إلى التوسع في التحقيقات المتعمقة والمقالات التحليلية والتدوينات التفاعلية المحدثة.
وكشفت الدراسة عن توسع المواقع العربية في الاعتماد على الوسائط المتعددة، في وقت توسعت فيه المواقع العالمية في إنتاج ونشر القصص العابرة للوسائط والمنصات Cross media& Trans Media ، فتعددت لديها أشكال القصص ما بين نصوص لفظية ومقاطع صوتية ومقاطع الفيديو ورسوم الإنفوغرافيك المعلوماتية، وربطها بمنصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وانفردت المواقع العربية بمعالجات إخراجية خاصة عبر الدمج بين النصوص اللفظية مع الرسوم بأنواعها وكذلك الصور في قالب واحد، في وقت غلب فيه توظيف اللون على جميع رسوم الإنفوغرافيك التي قدمتها جميع المواقع العربية والعالمية. وأظهرت الدراسة تفاوت مستويات التفاعلية في المواقع، فاحتفظت المواقع العالمية بأعلى مستوى تفاعلية عبر تعدد أدواتها وأشكال كصحافة البيانات، إضافة إلى تعدد قنوات ووسائط النشر، فيما كان مستوى التفاعلية متوسطًا أو ضعيفًا في المواقع العربية مما يعكس قلة استفادة تلك المواقع من ثراء الوسيلة.
ثراء المواقع الإلكترونية
على الرغم من أن طبيعة الموضوع الذي تدور حوله صحافة البيانات محدد من البداية، وهو فيروس كورونا المستجد والمرض المسبب له كوفيد-19، فإن المواقع اتفقت فيما بينها على تنوع زوايا الموضوعات التي تناولت من خلالها تلك الجائحة. واحتلت الإجراءات الوطنية التي اتخذتها الدول صدارة الموضوعات لاسيما في المواقع العربية، أعقبها التركيز على التداعيات الاقتصادية والاجتماعية. وكان من الطبيعي أن تركز المواقع العالمية على تطورات الفيروس عالميًا والإجراءات العالمية التي اتخذتها المنظمات الدولية وبخاصة منظمة الصحة العالمية في مواجهته، وكذلك التجارب على اللقاحات.
وعن الثراء المعلوماتي في محتوى صحافة البيانات بالمواقع، كشفت الدراسة عن الثراء الواضح للمواقع العالمية استنادًا إلى تنوع مصادرها ومدى تخصص تلك المصادر بموضوعات فيروس كورونا المستجد. وبينما برز بوضح اعتماد المواقع العالمية على الأطباء والطواقم الطبية والعلماء والباحثين ومراكز البحوث والمختبرات وشركات الأدوية والمستلزمات الطبية والاستعانة بالتقارير والدراسات والبحوث، فإن المواقع العربية توسعت في المقابل في الاعتماد على المسؤولين الحكوميين من وزراء ومحافظين وحكام ولايات ونواب برلمان وسياسيين ورجال أمن وأطباء، إضافة إلى تجارب الجمهور العام ومشاهير الفن والإعلام، ما أظهر الثراء المعلوماتي في محتوى القصص المدعومة بالبيانات في المواقع العالمية، مقابل الضعف في نظيرتها العربية.
التوعية الإعلامية
في خلاصة المنتدى والدراسة يمكن القول إن التوعية الإعلامية مطلوبة وكذلك التربية الإعلامية، ومحو الأمية الإعلامية أيضًا، في عالم تغيرت فيه بيئة الإعلام ووسائله وروافده ومنصاته، وأصبح هناك تداخل وتشويش وتنافس سلبي أحيانًا بما يؤدي إلى أن غياب الوعي وضياع الحقيقة وخداع الجمهور، ومن ثم السيطرة عليه.
لذا، فإن معركة الدول ليست في التضييق على المعلومات وخنق الإعلام وتقليص أسقف الحريات، بل زيادة درجات الوعي بالعلوم والتقدم العلمي لدى الجمهور لبناء قدراته على الفرز والتمييز بين ما هو معلومة وما هو خبر، وبين الخبر الصادق والخبر الكاذب المفبرك أو الملفق.