د. أيمن الأحمد
في التاسع من أغسطس عام 2001، تحدّث الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى الشعب الأمريكي عن قضية وصفها بأنها «معقدة وصعبة، قضية من أعمق القضايا في زماننا (…) قضية الأبحاث التي تشمل الخلايا الجذعية المستمدّة من الأجنّة التي أصبحت على نحو متزايد موضوع نقاش وطني وموضوع الأحاديث على موائد العشاء. تواجَه هذه القضية يومياً من المختبرات عندما يفكّر العلماء في التشعبّات الأخلاقية لعملهم. ويعاني منها الآباء والعديد من الأزواج عندما يحاولون إنجاب الأطفال أو إنقاذ الأطفال المولودين حديثاً. وكان الرئيس بوش قد استشار العديد من الجهات في تلك القضية الخلافية، بمن في ذلك الخبراء العلميون والقانونيون والأخلاقيون والدينيون، والأطباء، وأعضاء من الكونغرس وحكومته، والأصدقاء.
بهذه العبارات بدأت جين ماينشتاين كتابها العلمي الذي نشر حديثا بعنوان (لمن الرأي في الحياة؟ الأجنة والاستنساخ والخلايا الجذعية) الذي تطرقت فيه إلى موضوع أخذ حيزا كبيرا من اهتمام العالم في العقد الأخير، ولا يزال، نظرا لأهميته البالغة، ولكونه محط آمال جهات عدة تأمل أن يمثل فتحا جديدا في ميدان الطب، وأملا للملايين من الأشخاص الذين يعانون أمراضا مزمنة يتلمسون لها علاجا شافيا.
وترى المؤلفة في مقدمة الكتاب، الذي نشرته مترجما إلى العربية مؤسسة الكويت للتقدم العلمي والمنظمة العربية للترجمة، أنه على الرغم من الإقرار بتعايش الآراء المتنافسة، فقد شعر الرئيس بوش بأنه مضطر لاتخاذ قرار بشأن السماح باستخدام أموال الضرائب في برنامج أبحاث مفعم بالأمل ومشحون بالخلاف معاً. وكان قد تعهّد في أثناء حملته الانتخابية بمعارضة أبحاث الأجنّة البشرية، وخضع لضغوط كبيرة من أجل الوفاء بتعهداته. وتضيف ماينشتاين: «سنتأمل لاحقاً في الأسباب التي دفعت هذا الرئيس لاتخاذ القرار وطريقة اتخاذه، ولماذا كان جورج دبليو بوش، وهو طالب متوسط وليس من هواة البحث الأكاديمي، كما أعلن شخصياً، في موقف اتخاذ قرار بشأن ما هي الأبحاث التي تسمح معاهد الصحة الوطنية بتمويلها. ولماذا وجد العديد من الحجج المختلفة وكثيراً ممن يدعون بأنهم خبراء يدلون بدلوهم في هذه القضية؟». وتحاول المؤلفة تقديم وجهة نظر حول هذه الأسئلة، وتستعرض الإجابات عنها.
آفاق جديدة لأمراض مزمنة
وفي مقدمة الترجمة يقول المترجم عمر الأيوبي: إن توفر الخلايا الجذعية الجنينية واستمرار الأبحاث الجنينية ربما يفتح آفاقاً جديدة لعلاج بعض الأمراض المزمنة. غير أن الحصول على هذا النوع من الخلايا يتطلب التدمير المبكر للأجنة البشرية، ما يطرح الآراء الأخلاقية والآراء المتعلّقة بالعلم، حيث يعتقد المؤيّدون للحياة (مناهضو الإجهاض) أن الحياة تبدأ عند الحمل وأن الجنين إنسان كامل له روح وله حقوق كتلك التي تجب لأي مواطن ومنها الحق بالحياة. ويرون أن إحداث أي اضطراب في تلك الحياة غير أخلاقي وغير قانوني، ويدعون إلى وجوب حظر الأبحاث التي تلحق الضرر بالحياة البشرية. في حين يصر آخرون على أن الحياة الجنينية تختلف بتقدّم المراحل التطوّرية، وأن بعض هذه المراحل تعدّ حياة بشرية تتطلّب الحماية وأن بعضها الآخر لا يسوّغ المعاملة نفسها.
في استعرض هذه المسألة تعود المؤلّفة إلى التاريخ بدءاً بأرسطو وتستعرض الآراء الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية في شأن مبدأ الحياة. ثم تنتقل إلى عصر النهضة والثورة العلمية وتوسّع فهمنا للجسم البشري وتشريحه، وتستعرض الصعوبات الناجمة عن قدرتنا المحدودة على رؤية الأجنّة. وتقدّم المؤلفة بحثاً وافياً عن النظريات بشأن بداية الحياة ومبدأي التشكّل المسبق والتخلّق المتوالي والصراع بينهما. ويجد القارئ معلومات مثيرة للاهتمام عن العلم التاريخي ومصاعبه ونظرياته عبر تقديم تفاصيل عن تجارب كل عالم وتقصياته واستنتاجاته.
ويتبين من الكتاب أن ماينشتاين تعتمد تفحّص القضايا الماضية والحاضرة المحيطة بالعلم والأخلاق عبر استعراض مفصل لتطوّر علم الأجنّة وعلم الوراثة والدنا المترابط والإخصاب في المختبر والإجهاض والاستنساخ وأبحاث الخلايا الجذعية. وتخلص إلى أن علينا تعلّم التسامح تجاه آراء بعضنا بعضا، وأن العلم والأخلاق يمكنهما التعايش جنباً إلى جنب، فضلاً عن أن هناك حاجة إلى تعليم الجمهور وتثقيفه عن العلم للمشاركة في النقاشات الدائرة وعدم ترك القرار بين العلماء. بيد أنها لا تقدّم بعد كل هذا العرض إجابة صريحة عن الفترة التي تبدأ فيها الحياة، ولا تتخذ موقفاً واضحاً بين موقفي العلم والأخلاق من استمرار أبحاث الأجنّة والخلايا الجذعية، مع أن القارئ يستشف أنها تؤيّد استمرار هذه الأبحاث لما فيها من فوائد تعود على الحياة البشرية في المستقبل.
بين البحث العلمي والحرية الفكرية
وترى المؤلفة أن أبحاث الأجنّة البشرية تتعلق بالعلم والأبحاث في المقام الأول بطبيعة الحال. وتتعلق بالحرية الفكرية وتشويق الاستقصاء العلمي. ومع ذلك فإنها تتعلّق أيضاً بالأجنة البشرية واتخاذ قرارات بشأن الكيفية التي نحدّد بها ما سنعتبره حياة. إننا نعيش في مجتمع نقدر فيه الحياة، ونقدّر العلوم. ونحن نقدّر حماية الحريات الفردية، ونقدّر التقدم الطبي. والأهم من ذلك، أن لدينا طائفة من الآراء الأخلاقية وطائفة من الآراء المتعلقة بالعلم. الأمر ليس منافسة بين الأخلاقي والعلمي، لكنه مجموعة عميقة من الصراعات بشأن كيفية التوفيق بين الآراء والقيم المتنافسة في مجتمع معيّن. كيف نقرّر على وجه الخصوص متى تبدأ الحياة، وما الحدود والقيود الملائمة التي يجب أن توضع لبحوث الأجنة البشرية؟
وتثير أبحاث الخلايا الجذعية، على غرار الاستنساخ ومجالات أبحاث الأجنة الأخرى، مشكلات عدة؛ إذ تبدو في جوهرها أنها تعرّف الحياة وتدافع عنها. ويعتقد بعض الباحثين أن الحياة تبدأ بالحمل (عندما تلقح الحيوانات المنوية البويضة وينتج من ذلك خلية جديدة تحمل مجموعة الصبغيات (الكروموسومات) الكاملة المكونة من مجموعتي الصبغيات المتممتين). ويرى المؤيدون الأشد تطرفا لهذا الرأي – من يعتقدون بالحقائق المطلقة وغير المنتهكة بأن الحمل يبدأ حياة جديدة وأن في كل حياة في أي مرحلة تطورية حياة صالحة – أن إحداث أي اضطراب في تلك الحياة أمر لا أخلاقي. كما يعتقد العديد من دعاة الأحكام المطلقة بعدم قانونية إحداث أي اضطراب، وبوجوب حظر أي بحث يلحق الضرر بالحياة البشرية الفردية، وفقا لرأي المؤلفة.
مناقشات عبر العصور
وتوضح ماينشتاين عملها في الكتاب مبينة أنه يتفحّص طريقة تكشّف المناقشات التي شهدتها القرون الماضية حول الموضوعات التي يتناولها، وكيف يمكن أن تسترشد نقاشاتنا الراهنة بمثل هذه الافتراضات والتفكير في ما يترتّب عليها. وما هي مواقف دعاة التشكل المسبق والتخلق المتوالي، وما التعليلات والأدلة التي يستند إليها كل منهما؟ وإلى أي حد تعتبر هذه أسئلة بيولوجية، أو علمية، وإلى أي حدٍّ يقودنا العلم في اتخاذ ما هو بالضرورة قرارات فلسفية وسياسية واجتماعية؟ كيف يمكننا أن ندرك كيف ومتى يُطّور العلم في بيئة متنازع فيها سياسياً، وكيف يجب أن نشرع في اتخاذ قرارات حكيمة ورشيدة فيما نتقدّم نحو مستقبل مثير للاهتمام ومخيف أحياناً تتعاظم فيه الفرص والتحديات باطراد؟ ويقدّم الكتاب على العموم مناقشة لدراسات البيولوجيا والمجتمع تجمع معاً أنواعاً متباينة من الخبرات ووجهات النظر التي تسترشد بالعلم والفلسفة والأخلاقيات البيولوجية والسياسة العامة. التحدّيات مهمة جداً بحيث لا يكون هنالك مجال لاعتماد هذا المنظور أو ذاك، فجميع وجهات النظر أساسية في توفير المعلومات للقرارات الخاصة بعلوم البيولوجيا التي تساعد على تحديد من نحن ويحدّدها من نحن في آن معاً. علينا أن نتعلّم التداول بحكمة في المواقف المتنافسة، ووضع سياسة ذكية وفعالة لعلوم البيولوجيا تجعلنا نتجاوز المواقف المتطرّفة العنيدة. وبخلاف ذلك يكون مصيرنا دورات من ردود الفعل الحدسية التي لا تستند إلى المعلومات ولا يتوقّع أن تؤدي إلى اتخاذ قرار صحي أو حكيم.
علم الخلايا الجذعية
قسمت المؤلفة الكتاب إلى سبعة فصول تناولت في أولها (بداية الحياة ونشأتها)، وفي الثاني (تفسير الأجنة وفهم الحياة )، وفي الثالث (علم الوراثة وعلم الأجنة واستنساخ الضفادع)، وفي الرابع (مترابطة الدنا والإخصاب في المختبر وسياسة الإجهاض)، وجاء الفصل الخامس بعنوان (من علم الوراثة إلى هوس الجينوم)، والسادس بعنوان (حقائق وأوهام عن الاستنساخ).
في الفصل السابع الذي حمل عنوان (الآمال المعلقة على الخلايا الجذعية والمغالاة فيها) توسعت المؤلفة في الكتابة في موضوع الخلايا الجذعية. وبينت أنه في سنة 1998، تحدّى باحثان ما اعتقدنا أننا نعرفه عن تطوّر البشر، و تلت اكتشافاتهما عن قدرات الخلايا الجذعية أبحاثاً سابقة، وكانت ستؤدي بالتأكيد إلى مزيد من الاكتشافات المهمة التي تحصل على تمويل عام وتحظى بإعلان عام، لو أن السياسة المناهضة للإجهاض لم تجبر الأبحاث على التوجه إلى القطاع الخاص والقطاع الذي يتوخى الربح. نشر جيمس تومسون الذي كان يعمل في جامعة وسكنسون دراسة في مجلة ساينس. وأوضح أنه ومساعديه نجحوا في زرع خلايا جذعية بشرية. ونظراً لعمله السابق على الرئيسيات، فقد عرف أن بعض الخلايا هي خلايا جذعية مميزة وتابع بحثها بطريقة لا يعرف العديد من الباحثين الكيفية التي يقومون بها. وبعيد ذلك الإعلان، أعلن جون غيرهارت من جامعة جونز هوبكنز أن فريقه نجح في عزل وزرع خلايا جسدية جنينية.
كانت النتائج الأولى في كل حالة إيجابية أكثر مما هي قطعية. أظهرت كل من الدراستين أنه يمكن المحافظة على الخلايا الجذعية في الزرع عبر عدة أجيال وإظهار جميع الإشارات إلى التمايز بعد ذلك. وظل هناك كثير من الأبحاث التي يجب إجراؤها بطبيعة الحال. لكن ما لفت انتباه الجمهور أولاً أن للخلايا على ما يبدو قوة شبه سحرية على أن تصبح ما نريدها أن تكونه. ثانياً، لاحظ الجمهور، لأن الصحافة وجماعات الضغط السياسي حرصت على إبلاغه، أنها جاءت من مصادر متنازع عليها.
الآمال السريرية والطب التجديدي
ترى المؤلفة أن من العقبات الرئيسية لاستخدام الخلايا المزروعة للعلاج رفضها من جهاز المناعة. إذا كان في وسعنا استخدام خلايا المريض نفسه للزراعة، فإن الجسم لن يرفض الخلايا المزروعة التي يمكن أن تحل محل الوظيفة أو المنتج الناقص. هذا هو الافتراض الدافع خلف جمع أبحاث الخلايا الجذعية والاستنساخ الذي سمي «الاستنساخ العلاجي».
ولما كان المريض البالغ لم يعد كيسة أريمية أو جنيناً، فإنه لا يمكننا الحصول على خلايا جذعية جنينية تظل غير متمايزة على الأرجح، ومن ثمّ متعدّدة الإمكانات. وهنا تتساءل: لماذا لا نحضر تكنولوجيا الاستنساخ إلى أبحاث الخلايا الجذعية؟ تكمن الفكرة في استنساخ خلية جذعية من المريض، والسماح لها بالانقسام إلى مرحلة الكيسة الأريمية أو الخلية الجذعية، ثم زرعها لإنتاج خلايا من النوع المنشود مع جينوم المريض. وبهذه الطريقة يتم تجنّب رفض الخلايا الأجنبية، إلى جانب تجنّب المشكلة الكبيرة للمعالجة بالجينات – تحديداً الحاجة إلى حقن جين «جيد» في خلايا المريض عن طريق ناقل، فيروس في الغالب، ما يسبّب أخطارا بحدّ ذاته. في حالة المعالجات بالخلايا الجذعية، يعتقد الباحثون أن الأخطار تتقلّص لأن الخلايا الجذعية مستمدة من دنا المريض نفسه وخطوطه الخلوية.
«عظيم، إلى العمل»، هذا هو الردّ المعقول على احتمال مساعدة أشخاص حقيقيين محتاجين. مع ذلك فإن هذا الردّ أيضاً يمكن أن يتوقف بناء على الآراء المطلقة للسياسة المناهضة للإجهاض ومعارضة أي أبحاث جينية. ويرى معظم الأشخاص على الأقل أن هناك أسئلة لابد من أخذها على محمل الجدّ.