د. طارق قابيل
كاتب علمي، عضو هيئة التدريس في كلية العلوم بجامعة القاهرة (مصر)
عندما اكتشف فريق دولي من العلماء مؤخرا طفيليا يشبه قنديل البحر لا يمتلك جينوم الميتوكوندريا (المتقدرات)، وهو أول كائن متعدد الخلايا يشهد غياب هذا الجينوم ما يعني أنه لا يتنفس ويمكنه العيش دون الحاجة إلى الأكسجين، شعر الفريق بنوع من الدهشة والاستغراب، ولم يصدق أعضاؤه ما رأوه؛ ذلك أن هذا الاكتشاف لن يغير فهمنا لكيفية تطور الحياة على الأرض فحسب، بل ربما يكون له دور مهم في تطوير طرائق البحث عن حياة خارج كوكب الأرض.
ومن المعروف أن جميع أشكال الحياة الحيوانية تشترك في عدد من الأشياء، منها التنفس، لذا تشكل هذه النتيجة مفاجأة كبرى، فكيف تتنفس الخلايا الحيوانية من دون وجود بيت الطاقة المعروف باسم الميتوكوندريا؟ وهي السمة التي كان العلماء يعتقدون أنها مشتركة بين جميع أشكال الحياة الحيوانية.
وأظهرت دراسة الفريق الدولي الصادرة عن دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم ((PNAS في 24 فبراير 2020 أن هذه المزية المشتركة لكل المخلوقات الحيوانية غابت عند فحص الحمض النووي للكائن الطفيلي المعروف باسم “هينيغويا سالمينيكولا” الذي يصيب أسماك السلمون، وينتشر بمساعدة الديدان بعد نفوق الحيوان المضيف، حيث لاحظ الفريق الغياب التام للحمض النووي للميتوكوندريا.
وهذا الطفيلي “المخيف” الذي ينتمي إلى الشعاب المرجانية وقناديل البحر وشقائق النعمان يحدث خراجات في لحم سمك السلمون، بيد أنه من الطفيليات غير الضارة، ويعيش مع أسماك السلمون طوال دورة حياتها.
في البداية لم يصدق العلماء ما شاهدوه، لكنهم تأكدوا من عدم وجود هذا الحمض النووي الحيوي، الأمر الذي دفعهم إلى الاعتقاد أن هذه الكائنات الحية “تعود، بمرور الوقت، إلى شكلها البدائي بدلا من أن تتطور”، وهو أمر اعتبروه غريبًا تمامًا.
ودريس الفريق الطفيلي لفهم كيفية عيشه من دون أكسجين، ووجدوا أنه لا يحتوي على الحمض النووي للميتوكوندريا أو حتى الجينات الخاصة بإنتاجها، واستخدموا أساليب التسلسل العميق المدعومة بالمجاهر الفلورية لسلسة جينوم الكائن الطفيلي، ووجدوا أنه يفتقد إلى جينوم الميتوكوندريا، كما أنه لا يستطيع تنفس الهواء، وجينومه لا يحتوي على جميع الجينات النووية تقريبًا المشاركة في نسخ الميتوكوندريا وتضاعفها. ويرى الفريق أن اكتشافه يؤكد أن التكيف مع البيئة اللاهوائية ليس فريدًا في الكائنات ذات الخلية الواحدة، لكنه تطور أيضًا في حيوان طفيلي متعدد الخلايا.
وحتى الآن لا يعرف الفريق بالضبط الكيفية التي يعيش هذا الطفيلي وفقها من دون الميتوكوندريا، أو يحيا من دون أكسجين؟ والاحتمال الرئيسي هو أنه ربما يعتمد على المواد الكيميائية المنتجة للطاقة من السلمون.
الميتوكوندريا المدهشة
ظن العلماء سابقًا أن جميع الحيوانات والنباتات تستخدم الأكسجين لإنتاج مادة الوقود الحيوي التي تمدها بالطاقة، والتي تسمى الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (إيه تي بي) لإمداد العمليات الخلوية بالطاقة. وتضطلع الميتوكوندريا في الخلية بإنتاج هذا الوقود من الأكسجين، ولديها شريط وراثي «جينوم» منفصل عن الشريط الوراثي الرئيس لنواة الخلية.
والميتوكوندريا هي عضيات دقيقة توجد داخل سيتوبلازم الخلايا حقيقية النواة، وتعرف بأنها مركز توليد الطاقة، كما تحتوي على مجموعة خاصة من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين. وتعتبر الميتوكوندريا بمثابة “بطاريات” تعمل على تشغيل الوظائف المختلفة للخلية والكائن ككل، وعادة ما يكون لديها مادة وراثية مختلفة عن تلك الموجودة في نواة الخلية.
بدأت الحياة فى تطوير القدرة على استقلاب الأكسجين، أي التنفس، قبل نحو 1.45 بليون سنة. وتحتوي كل خلية فى جسم الانسان باستثناء خلايا الدم الحمراء، على أعداد كبيرة من الميتوكوندريا، وهي ضرورية لعملية التنفس، حيث يُحطّم الأكسجين لإنتاج جزيء أدينوسين ثلاثي الفوسفات الذي تستخدمه الكائنات متعددة الخلايا لتفعيل العمليات الخلوية.
وهناك تكيفات تسمح لبعض الكائنات الحية بالنمو في ظروف نقص الأكسجين، كما طورت بعض الكائنات أحادية الخلية عضيات مرتبطة بالميتوكوندريا من أجل التمثيل الغذائي اللاهوائي؛ لكن احتمال وجود كائنات لاهوائية متعددة الخلايا على وجه الحصر أثار نقاشا علميا كبيرا.
كائنات أخرى
على الرغم من أن هناك أنواعا أخرى أكثر بساطة قادرة على البقاء حية من دون الأكسجين تعتمد على آليات التمثيل الغذائي اللاهوائي، فإن هذا الطفيلي هو المثال الأول من الحياة المعقدة.
ويرى العلماء أن خسارة طفيلي “هينيغويا سالمينيكولا” لجينوم الميتوكوندريا تتفق إلى حد كبير مع الاتجاه العام للتبسيط الوراثي في هذه المخلوقات. فعلى مدار العديد من السنوات، تحول بشكل أساسي من أسلاف قنديل البحر الذي يعيش بحُرية إلى الطفيلي الأكثر بساطة الذي نراه حاليا.
لقد فقد معظم جينوم قنديل البحر الأصلي، لكنه احتفظ بشكل غريب ببنية معقدة تشبه خلايا اللدغ في قنديل البحر. ولا يستخدم الطفيلي هذه الخلايا للدغ لكن للتشبث بمضيفه، وهو ما يمكن اعتباره تكيفا تطوريا من احتياجات قناديل البحر الحية إلى احتياجات الطفيليات.
وهذا الاكتشاف قد يساعد علماء المصايد على تكييف استراتيجياتهم للتعامل مع هذا الطفيلي. وعلى الرغم من أن الطفيلي غير ضار بالبشر، فإنه يسبب مشكلة كبيرة لمربي الأسماك؛ لأنه يخلّف بقعًا بيضاء على لحوم الأسماك المصابة، ومن ثم تنعدم فرصة بيعها!
كوسليات في أعماق البحار
ربما لا يكون هذا الطفيلي الحيوان الوحيد الذي لا يتنفس الأكسجين، ولا يمتلك جينوم الميتوكوندريا، ففي عام 2010، ذكر باحثون من جامعة ماركي التقنية في إيطاليا أنهم لم يجدوا لدى مجموعة من الكائنات الدقيقة تدعى «كوسليات» ميتوكوندريا عندما فحصوها تحت المجهر، وهي تعتمد على مصادر أخرى للطاقة مثل كبريتيد الهيدروجين، وتعيش داخل الرسوبيات في أعماق البحار.
ومع ذلك، دعا علماء الأحياء إلى ضرورة إجراء مزيد من الدراسات الجينومية قبل تأكيد أن الكوسليات خسرت حقًا قدرتها على تنفس الأكسجين.
واكتشف فريق دولي من الباحثين أول كائن حي لا يمتلك جينات في الميتوكوندريا الخاصة به، ونشر هذا الكشف المثير في دورية ساينس أدفانسيس Science Advances في 24 أبريل 2019. واستخلص الفريق طفيلي الأميبوفريا، وهو أحد أنواع السوطيات الدوارة (كائنات وحيدة الخلية لها جدار خلوي سميك مكون من السليلوز)، من العوالق البحرية الموجودة في خليج ماين شمال الولايات المتحدة.
في البداية، اكتشف الباحثون نقصا جينيا في سلالة ألكساندريوم التي سميت في الستينات على اسم مدينة الإسكندرية المصرية، وهي تنتج سما عصبيا يمثل خطورة على الإنسان. وعندما ألقى العلماء نظرة فاحصة على التركيبة الجينية لطفيليات الأميبوفريا، وجدوا أنها نجحت في البقاء حية من دون جينات أساسية خاصة بالميتوكوندريا.
ووجد الفريق أن هذه الطحالب الطفيلية استغلت موادها الجينية بطريقة جديدة غير مسبوقة، حيث تحوي ميتوكوندريا وظيفية، وتملك قدرة على إنتاج الطاقة على الرغم من عدم وجود أي مادة وراثية داخلها، خلافا لمعظم الخلايا الحية.
وأجرى الفريق الدولي تحليلا للتسلسل الجيني لكامل جينوم الطفيلي (جميع موارده الوراثية)، واكتشفوا أن جينوم الطفيلي يتكون من نحو مئة مليون زوج من القواعد، وهو عدد منخفض جدا مقارنة بأنواع السوطيات الدوارة الأخرى التي لديها جينوم أكبر ألف مرة منه، وأكبر بكثير من الجينوم البشري.
مع ذلك، فإن الجينوم الصغير ليس غريبا بالنسبة لطفيلي، إذ إنه عادة لا ينتج جميع المنتجات الأيضية التي يحتاج إليها للبقاء على قيد الحياة؛ لأنه ببساطة يسرقها من مضيفه. وتأكد العلماء أن الطفيلي لا يحوي فعليا أي جينات في الميتوكوندريا، خلافا لباقي أفراد جنسه مما لديه ثلاثة جينات على الأقل داخل الميتوكوندريا الخاصة به.
ويرى الباحثون أن هذه الطفيليات توظف جينات محددة في نواة الخلية للحفاظ على وظيفة الميتوكوندريا الخاصة بها لإنتاج الطاقة.
تطبيقات واعدة
يرى فريق الدراسة أن لهذا الاكتشاف تأثيرا طبيا فيما يتعلق بالأمراض المرتبطة بالميتوكوندريا. ففي خلايا البشر يوجد حمض نووي في كل من النواة والميتوكوندريا. وفي النواة، يكون الحمض النووي أكثر حماية، وحتى لو تعرض لضرر، فهناك آلية تعمل على إصلاح التالف منه. كما أنه في الميتوكوندريا لا توجد آلية إصلاح من هذا القبيل، ومن ثم فإن تراكم الطفرات غير المعالجة في الحمض النووي للميتوكوندريا يؤدي إلى أمراض، بما في ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- الأمراض التنكسية العصبية واعتلال عضلة القلب والسرطان والاضطرابات المرتبطة بالشيخوخة.
لا تغير مثل هذه الاكتشافات من فهمنا لكيفية تطور الحياة على الأرض فحسب، لكنها أيضًا بمثابة بارقة أمل لمساعدتنا على فهم كيفية عمل الحياة بشكل عام، وقد يكون لهذه الاكتشافات تطبيقات أخرى في علوم الفضاء مثل البحث عن حياة خارج كوكب الأرض.