د. ليلى الموسوي
تجولت أسماك القرش في محيطات العالم منذ أكثر من 400 مليون سنة، أي سبقت ظهور الديناصورات الأولى على الأرض بنحو 100 مليون سنة. لكن بعض أنواع أسماك القرش تتعرض حالياً لخطر الانقراض بسبب الصيد التجاري، والممارسات الجائرة لجشع الإنسان، إذ يُقتل أكثر من 100 مليون من أسماك القرش سنوياً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك عشرات الملايين من تلك الأسماك التي تُصطاد سنوياً من أجل زعانفها فقط، باعتبارها من المأكولات البحرية الأغلى ثمناً في العالم.
ومثلها مثل بقية الحيوانات المفترسة في قمة الهرم الغذائي، تساعد أسماك القرش على إدارة الأنظمة البيئية والمحافظة على صحة النظم الإيكولوجية في البحار والمحيطات، بما في ذلك أحواض الأعشاب البحرية والشعاب المرجانية. فأسماك القرش غالبا ما تكون «قمة» الهرم الغذائي في نظمها الإيكولوجية، وليس لها سوى عدد قليل من المفترسات الطبيعية. والحيوانات المفترسة في قمة الهرم الغذائي، مثل أسماك القرش، تتغذى على الحيوانات التي تليها مباشرة في الشبكة الغذائية، مما يساعد على تنظيم توازن النظم الإيكولوجية البحرية والحفاظ عليها.
وحيوانات القمة تحد بشكل مباشر أعداد فرائسها، مما يؤثر بدوره على الفرائس التي تصطادها الطبقة التالية من الهرم الغذائي. وتتكون معظم الشبكات الغذائية من العديد من الحلقات الضعيفة بدلاً من عدد قليل من الحلقات القوية. في هذه الشبكات يرتبط نوعان من الكائنات الحية ارتباطاً وثيقاً إذا كانا يتفاعلان معاً كثيراً، مثل حيوان مفترس يلتهم باستمرار أعداداً هائلة من فريسة واحدة.
أما الأنواع المرتبطة ببعضها بعضاً بروابط ضعيفة فلا تتفاعل إلا في بعض الأحيان فقط، مثلاً: حيوان مفترس يتناول وجبة خفيفة من الأنواع المختلفة بين الحين والآخر. وقد يسود في الشبكات الغذائية وجود العديد من الحلقات الضعيفة لأن هذا الترتيب هو الأكثر استقراراً على المدى الطويل. ففي العادة تتغذى معظم الحيوانات المفترسة على بضعة أنواع من الفرائس. وهذا يسمح للضواري العليا بالتبديل بين أنواع الفرائس عندما تنخفض أعداد أنواع معينة، مما يسمح للأنواع التي انخفضت أعدادها بالتعافي مجدداً. وإذا كان الحيوان المفترس يأكل أنواعاً عديدة، فإنه قد ينجو عند انقراض إحدى فرائسه. وهكذا قد تحمي الحلقات الضعيفة الأنواع من أن تدفع ببعضها بعضاً إلى الانقراض.
تأثر الشبكات الغذائية
أدرك الإيكولوجيون أن التغيرات في بعض الحيوانات المفترسة كان لها تأثيرات كبيرة – كما كان متوقعاً – في الشبكات الغذائية. مثلاً: أدى ذبح الذئاب في منتزه يلوستون الوطني إلى طفرة في أعداد الأيائل والحيوانات العاشبة الأخرى. والتهمت الأيائل أوراق شجر الصفصاف والحَوْر الرَّجراج، مما أسفر عن فناء العديد من الأشجار. وبالمثل، ففي قبالة السواحل الشرقية للولايات المتحدة، دَمَّر الصيادون مجاميع المحار حتى من دون أن يصطادوا واحدة منها. لكنهم في المقابل قتلوا أسماك القرش بأعداد هائلة، مما سمح للأسماك المفترسة الأصغر – التي كان القرش يتغذى بها – بأن تزدهر. وتضاعفت أعداد لخمة أنف البقرة، التي تتغذى على الصدفيات التي تعيش في القاع، ونتيجة لذلك، أدت الطفرة في أعدادها إلى انهيار مخزون المحار.
وهكذا، بمنع نوع واحد من الكائنات من احتكار مورد معين، والجور في استغلاله، فإن الحيوانات المفترسة في قمة الهرم الغذائي تحافظ على التنوع الإحيائي واستدامة النظام الإيكولوجي. وقد بينت الدراسات المقارنة بين المناطق التي تعيش فيها الضواري العليا، وتلك التي تخلو منها، أن النظم الأولى يكون فيها قدر أكبر من الحيوانات المفترسة توفر قدراً أكبر من التنوع البيولوجي وكثافة أعلى من الأفراد، في حين أن المناطق التي تخلو من مثل هذه الحيوانات المفترسة في قمة الهرم الغذائي، لا يوجد فيها ما يردع الطبقات التالية من الهرم – الأنواع العاشبة – من التهام قدر أكبر من الحشائش وزيادة المنافسة فيما بينها، مما يؤثر في نهاية المطاف على ثراء الأنواع ووفرتها.
بيئة صحية
ولا تؤثر الضواري العليا فقط في ديناميكيات السكان عن طريق استهلاك فريسة ما، لكنها أيضاً تتحكم في التوزيع المكاني للفرائس المحتملة من خلال الترهيب. فالخوف من سمك القرش يجبر بعض الأنواع على تغيير استخدام بيئتها وتعديل مستوى نشاطها، مما يؤدي إلى تحولات في وفرة الكائنات الأخرى من المستويات التالية من الهرم الغذائي، والتأثير في نهاية المطاف على بنية النظام الإيكولوجي ككل.
في عام 2009 قام العلماء بتجربة لإعادة تأهيل بحيرة (بيتر) في الولايات المتحدة الأمريكية. فأعادوا تقديم سمك القاروس (ذئب البحر) وهو من الضواري العليا في قمة الهرم الغذائي. ومرت شهور، ودارت البحيرة دورتها عبر المواسم المناخية، فتجمدت كليّة، ثم ذاب الجليد وازدهرت مرة أخرى بالحياة. وفي صيف عام 2010، تغيرت بحيرة (بيتر) تغيراً جذرياً. فقبل أن يبدأ العلماء بتجربتهم، كانت البحيرة تزخر بأسماك المِنَّوة وأسماك حبوب اليقطين وغيرها من الأسماك الصغيرة الأخرى. لكن تلك الأسماك المفترسة التي كانت سائدة في ذلك الوقت أصبحت حالياً نادرة، فقد التهمها القاروس. وصارت الأعداد القليلة الناجية منها تختبئ في المناطق الضحلة. وهكذا فإن براغيث الماء والحيوانات الصغيرة الأخرى التي كانت تلتهمها الأسماك الصغيرة المفترسة في السابق صارت حرة في أن تزدهر. ولأن هذه الحيوانات الضئيلة الحجم تتغذى بالطحالب، فقد أصبحت مياه البحيرة أكثر صفاء. وبعد ذلك بعامين، لا يزال النظام الإيكولوجي في حالته التي تحوّل إليها.
أسماك تجارية مستدامة
ومن المدهش أن وجود أسماك مفترسة مثل القرش هو أمر ضروري لاستدامة الأسماك التجارية. فقد أظهرت الدراسات أن لوجود المفترسات العليا تأثيراً مباشراً على توافر الأنواع المهمة تجارياً الشبيهة بالهامور والسبيطيّ. مثلاً، في شمال غربي المحيط الأطلسي انهارت مصايد أسماك القُدّ في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وأسماك القُدّ حيوانات مفترسة شرهة في قمة الهرم الغذائي، ومع اختفائها ظهرت طفرة في أعداد فرائسها، بما في ذلك أسماك الرَّنكة وأسماك الكابلين وصغار الكركند والسرطان الثلجي.
وفي محاولة لتعافي أعداد القُدّ، وضع مديرو المصايد قيوداً صارمة على صيد سمك القُدّ أو حتى حظروه تماماً. لكن لم تنتعش مصايد القد كما كان متوقعاً حتى بعد ست سنوات. فمع تدني أعداد أسماك القُدّ البالغة التي تتغذى على أسماك الرنكة والكابلين وفرائس أخرى تعرف جميعاً باسم الأسماك العلفية، تتكاثر الأسماك العلفية التي تأكل الحيوانات الصغيرة المعروفة باسم العوالق الحيوانية، بما في ذلك بيض ويرقات سمك القُدّ نفسه.
كذلك اعتقد الناس لعقود من الزمن أن أسماك القرش تمثل خطراً على الأسماك التجارية. لكن في دراسة أجرتها بعثة مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) في جزر (لاين) شرقي المحيط الهادي، قارنت البعثة الأسماك في هذه الجزر النائية بتلك التي في جزر بولينيزيا الفرنسية. وجاءت النتائج مفاجئة للجميع. فالجزر التي كان فيها أقل عدد من أسماك القرش كانت كذلك أقل عدداً من حيث الأنواع التجارية، أما الجزر التي كانت أقل تأثراً بصيد أسماك القرش، وجد فيها مجموعات ضخمة من الأسماك التجارية. فحينما اضمحلت أعداد القرش بفعل الصيد، تكاثرت هذه الأسماك بسرعة، واستنزفت مصادر غذائها ثم بدأت في التغذي على الأسماك الأصغر من نوعها نفسه. وفي نهاية الأمر أدى هذا إلى انهيار أعدادها في المناطق التي تحوي أعداداً أقل من أسماك القرش.
لقد رسخت الأدبيات التقليدية – من قصص وأفلام – الرعب من أسماك القرش، لكن العلماء يحذرون من أن ما ينبغي للعالم أن يخشاه حقاً هو عالم من دون أسماك القرش.