د. أحمد مغربي
«من دون حدود» Limitless: من الذكاء الخارق المتجاوز لكل الحدود، جرى اشتقاق عنوان هذا الفيلم الهوليوودي، الذي حقّق أرقاماً كبيرة على شبابيك التذاكر قبل عامين.
يمكن عرض قصّة الفيلم بكلمات قليلة. ثمّة كاتب فاشل، وموظف غير كفء، ورجل يفشل في استمالة أي أنثى، يطرد من عمله، و تهجره حبيبته.
ثم يتعرف البطل مصادفة إلى عالِم يجري تجارب من نوع خاص. يقنع العالِم هذا الشخص الفاشل بأن يتناول دواءً مازال قيد التجربة، بدعوى قدرة هذا العقار على تحفيز الدماغ إلى الحدّ الأقصى، ما يعني استغلال مئات من البلايين التوصيلات العصبية الذكية في الدماغ.
ويرى العالِم أن البشر، حتى الأشد ذكاءً من آينشتاين، لا يستخدمون سوى جزء يسير من هذه البلايين الذكية، وأن تفجير طاقة الدماغ كاملة يجعل الإنسان أكثر تفوقاً من أشد الحواسيب الخارقة قوة وسرعة.
يقتنع الفاشل بتناول دواء الذكاء الخارق، وتتحقق المعجزة. فجأة، يصبح الفاشل سابقاً إنساناً بدماغ خارق الذكاء، يستطيع التفوّق على البشر وعلى جميع الحواسيب. يتمدّد من كان صفراً ليصبح لامتناهياً، لأنه امتلك ذكاء خارقاً.
لم يكن الفيلم سوى حلقة ضمن سلسلة ضخمة من الأشرطة السينمائية عن الذكاء المتفوق وقدرة العلم على التحكّم في المعطيات الفكرية والسلوكية والعاطفية للإنسان. الأرجح أنها سلسلة ابتدأت بشريط «دكتور جيكل ومستر هايد» (عن رواية خيال علمي مشهورة للكاتب روبرت لويس ستيفنسون) في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم تنته حتى الآن.
صفة عزيزة
يبدو أن الذكاء صفة عزيزة على البشر، بل إن بعض الأشخاص يضعه على قدم المساواة مع هوية الإنسان نفسه. ويميل البشر إلى إعلاء الذكاء على الصفات كافة. لم يقلق الإنسان لأن الحيوانات تفوقه قوة، أو لأنها أسرع منه ركضاً، أو تقفز بأعلى مما يستطيع، وتسير أضعاف ما يقدر. في المقابل، ارتجّ العالم عند هزيمة بطل الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف أمام الحاسوب «ديب بلو» Deep Blue في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وحينها، تجدد النقاش عن مصير البشرية حين تتفوق الآلات عليها في الصفة التي يعتبر البشر أنها لا تضاهى.
ثمة حلم عميق بالذكاء يعبّر عن نفسه في صور لا حصر لها. الأرجح أن عصر الحاسوب والإنسالة (الروبوت) جعل الحلم أشد قوة، بل قسوة. فعلى شاشات التلفزيون، حلّت لعبة الـ«أتاري» Atari (ثم تلتها الـ«نينتندو» Nintendo) ضيفاً في أواخر القرن الماضي. الأرجح أنها أبعد من مجرد مصادفة. إذ لا يتردّد نولان بوشنِل، أحد مؤسسي صناعة الألعاب الإلكترونية، عن القول إن «أتاري» وألعاب الفيديو، سعت أساساً إلى زيادة ذكاء الدماغ البشري، خصوصاً في مرحلة الطفولة، حين تكون مطواعية الدماغ Brain Plasticity في قمّتها.
وكذلك تتصدّر «نينتندو» قائمة الشركات التي تنتج ألعاباً توصف بأنها مخصصة لتدريب الدماغ البشري، وزيادة قدراته معرفياً وإدراكياً. وراهناً، يروج مصطلح تدريب الدماغ Brain Train، مترافقاً مع سلسلة برامج مختصة بهذا الأمر مثل «بوزيت ساينس» Posit Science، «داكيم» Dakim، «كوغميد» Cogmed، «فاست فور ورد» Fast For Word، «مايند فيت» Mind Fit ، «ليموزيتي» Lumosity، «هابي نيورون» Happy Neuron، «فيت براينز» Fit Brains ، «ماي برين ترينر» My Brain Trainer، إضافة الى برنامج «نينتندو برين إيج» Nintendo Brain Age الذائع الصيت.
مهارة «ملتبسة»
ثمة ما يقلق أيضاً، ففي ضوء التفاؤل بالعلم وقدراته، هناك من يجد في الأمر سانحة لاقتناص الفرصة، والتكسّب بقوة من الرغبة الجارفة لدى البشر في اكتساب الذكاء والمزيد منه، خصوصاً للأطفال. ويزيد الأمر التباساً وجود نوع من المدارس ظهر في الآونة الأخيرة، يتخصّص في استقبال الأطفال الفائقي الذكاء. وأتاحت هذه الأمور فرصة لأصحاب «الشطارة» للتحايل على العقول باسم العلم، وادعاء القدرة على إعطاء الذكاء لمن يرغب، مع تركيز خاص على الأطفال.
ومن لا يرغب في أن يرى طفله آينشتاين جديداً؟ استغل بعض الأشخاص مثل هذه الرغبة الجامحة، فأدخلوا الأشياء في التباس مقصود، ليروجوا لقدرتهم على منح ذكاء آينشتاين لمن يدفع!
تجارة متذاكية
وليس الوطن العربي بمنأى عن التجارة المتذاكية والمتلاعبة. حيث تنتشر إعلانات يختلط فيها الحابل بالنابل في هذا الشأن. وفي هذه التجارة، يجري خلط التقدّم العلمي مع مزاعم شتى، للحصول على أرباح كبرى. يوجب هذا الوضع محاولة توضيح الأشياء، والسعي إلى فصل القمح عن الزؤان.
و يبذل آلاف العلماء جهوداً جبارة لإيجاد طرق لتعزيز ذكاء البشر والارتقاء به، بداية من محاولة منع الخرف وتدهور القدرات العقلية للشيوخ، مروراً بالوقاية من مرض «ألزهايمر» بل الشفاء منه، وصولاً إلى تعزيز توقّد الذكاء عند الأصحاء العاديين، خصوصاً في مرحلة الطفولة. لا شك في التقدّم العلمي الهائل الذي حصل في التعرّف إلى خصائص الدماغ، وعلاقته بالفكر والسلوك والعواطف والتصرّفات وغيرها. لكن هذا أمر مختلف تماماً عن ادعاء القدرة على تحويل الطفل إلى آينشتاين!
مثلاً، أثبتت تجربة عملية شهيرة أن راهبات في الغرب دأبن على إشغال أذهانهن باستمرار في عمليات فكرية مركبة، حتى حين وصولهن إلى سني الشيخوخة. وبات معروفاً أن التحصيل العلمي المتقدم والاستمرار في النشاط الذهني المتنوّع، يعطي وقاية من شيخوخة الدماغ وتدهور وظائفه. لكن، هذا شيء، والمزاعم الواردة آنفاً شيء آخر.
دراسة واسعة
في ربيع 2012، دعمت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) دراسة واسعة شملت 11 ألف شخص لتقويم النتائج الفعلية لبرامج تدريب الدماغ. النتيجة: لا فارق فعلياً في قدرات الدماغ المعرفية بين من انخرطوا في التدريب ومن لم يمارسوه، بحسب ما أوضح الدكتور أدريان أوين الذي أشرف على الدراسة. وأرغمت هذه النتائج عدداً كبيراً من شركات صناعة برامج تدريب الدماغ على سحب مزاعمها عن قدرة برامجها على تحسين الذكاء المعرفي للدماغ، لتقتصرها على تنشيط الدماغ!
الفارق هائل بين الأمرين. المعروف أن ممارسة نشاطات فكرية متنوّعة، على نحو ما يفترض أن تفعله المدارس، يساهم في تنشيط الدماغ. وكذلك الحال بالنسبة لممارسة نشاطات لاصفيّة عند الأطفال، مثل تعلّم الموسيقا والمسرح والرسم والغناء. ويصعب أن يستثنى من قائمة التنشيط عناصر بيولوجية محضة، إذ تصح فيها الحكمة التقليدية التي تقول: «العقل السليم في الجسم السليم»، ما يعني أن للرياضة المدرسية دوراً كبيراً أيضاً في دعم نشاط الدماغ عند الأطفال والمراهقين، بل حتى عند البالغين وكبار السن أيضاً.
ولإعطاء فكرة أوضح عن صعوبة رفع مستوى الإدراك معرفياً في الدماغ، يكفي الإشارة الى أن وكالة «ناسا» تعاونت مع عدد كبير من مراكز الأبحاث الأكاديمية المتقدمة في بيولوجيا الأعصاب والسلوكيات المتصلة بها، لإنشاء ما اعتبر بأنه أول مركز للياقة الدماغ فعلياً. واعتمد عند انطلاقته على 17 ألف دراسة علمية موثّقة. واكتمل هذا المركز في بداية هذا العام. واللافت أن بوشنِل، مؤسس «أتاري»، شارك في إنشاء هذا المركز. وهو مخصّص لمن هم فوق الـ35 من العمر.
صرخة ضد سوق متحايل
ماذا عن الأطفال في البلدان المتقدمة، التي تنفق أموالاً طائلة في أبحاث تطوير الذكاء عند الأجيال الصاعدة؟
أولاً، يجدر التشديد على أن مدارس المتفوقين، التي تثير نقاشات خلافية ساخنة في الغرب، تضم في صفوفها من يسجلون مستويات متقدمة في اختبارات الذكاء وفي الامتحانات المدرسية. وبقول آخر، تتخصص مدارس المتفوقين في التعامل مع المتقدمين في الذكاء فعلياً، ولا تدعي أنها هي التي تجعلهم أصحاب ذكاء خارق، كما يفعل الأدعياء في هذه التجارة!
ثانياً، يمكن إعطاء فكرة عن التجارب الصعبة في مجال رفع أداء الدماغ وذكائه، بالنسبة للأبحاث العلمية الفعلية، وليس أصحاب الادعاءات على التلفزيونات ولوحات الطرق.
هناك نموذج أعلن عنه قبل أشهر قليلة في هذا المجال؛ إذ أعلن «مركز أبحاث الدماغ» في جامعة سيدني بأستراليا عن تجربة قادها الاختصاصيّان ريتشارد تشي وآلن سنايدر. وعرّض الباحثان مجموعة من المتطوعين إلى تيار كهربائي «قَصَفَ» أدمغتهم، مستهدفاً المنطقة الأمامية من الجزء الصدغي فيها.
وتبيّن أن معظم هؤلاء أظهروا ارتفاعاً في مستوى المؤشرات المرتبطة بالذكاء؛ إذ استطاع هؤلاء المتطوّعون إيجاد حلول مبتكرة لمسائل صعبة وغير مألوفة لديهم، بنسبة فاقت ثلاثة أضعاف مجموعة مماثلة استخدمت للمقارنة، ولم يجر تعريضها لتلك الصدمة الكهربائية الخطرة.
لكن.. هل تكفي هذه الكلمات؟ هل أبلغت بوجوب الحذر من «الشُطّار» في تجارة التلاعب بحلم الذكاء؟ ألا يجدر بالحكومات العربية أن تهتم بالتدقيق علمياً بهؤلاء «الشُطّار» المخادعين؟ إنها مجرد صرخة!