د. عبدالله بدران
لم يكن العالم بحاجة إلى مزيد من الدراسات والتقارير ليأخذ ظاهرة تغير المناخ على محمل من الجد والاهتمام، ولم يكن بحاجة إلى دعوات جديدة وصرخات تحذيرية ليبدأ بمعالجة هذه المشكلة المستعصية والحد من تفاقمها؛ فها هو يرى آثارها في كل القارات، ويرصد تداعياتها على الجو واليابسة والمحيطات، ويتلمس مظاهرها في كل الأوقات.
وإذا كان من جديد في هذا الأمر يؤكد كل ذلك، ويرفع من درجة التنبيه والتحذير، فهو التقرير الذي أصدرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الذي يحذر بصورة واضحة لا لبس فيها من الانتشار الواسع والسريع والمكثف لتغير المناخ إلى حد أصبحت معه بعض التحولات، مثل استمرار ارتفاع مستوى سطح البحر، لا رجعة فيها لقرون عدة بل آلاف السنين.
وجاء تعليق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على التقرير سريعا وحازما، فقد قال إن التقرير ليس أقل من “رمز أحمر للإنسانية، وجرس إنذار يصم الآذان”، مبينا أن عتبة 1.5 درجة مئوية المتفق عليها دوليا فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي للاحترار العالمي قريبة بشكل كبير.
وأضاف: “نحن في خطر وشيك للوصول إلى 1.5 درجة مئوية في المدى القريب. والطريقة الوحيدة لمنع تجاوز هذه العتبة هي من خلال تكثيف جهودنا بشكل عاجل، والمثابرة على المسار الأكثر طموحا.” ووفق غوتيريش، فإن الحلول كانت واضحة، وإن الاقتصادات الشاملة والخضراء، والازدهار والهواء النظيف والصحة الأفضل ممكنة للجميع “إذا استجبنا لهذه الأزمة بتضامن وشجاعة.” وطالب جميع الدول، لاسيما مجموعة العشرين المتقدمة، بالانضمام إلى صافي الانبعاثات الصفرية، وتعزيز وعودها بشأن إبطاء الاحتباس الحراري وعكس اتجاهه، بمساهمات ذات مصداقية وملموسة ومحسنة على الصعيد الوطني.
لكن هل استنفد العالم جميع فرصه بهذا الصدد؟ وهل من سبيل لإنقاذ الكوكب من الآثار الكارثية لتلك الظاهرة؟ يجيب التقرير بنعم، فلا يزال هناك وقت للحد من تغير المناخ، وربما تؤدي التخفيضات الكبيرة والمستمرة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى إلى تحسين جودة الهواء بسرعة، وربما تستقر درجات الحرارة العالمية خلال فترة تمتد من 20 إلى 30 عاما.
الاحترار العالمي والدور البشري
يسلط التقرير، الذي أعده 234 عالما من 66 دولة، الضوء على أن التأثير البشري أدى إلى تدفئة المناخ بمعدل غير مسبوق في آخر ألفي عام على الأقل. ففي عام 2019، كانت تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى من أي وقت مضى خلال ما لا يقل عن مليوني سنة، وكانت تركيزات الميثان وأكسيد النيتروس (أكسيد النيتروجين الثنائي) أعلى من أي وقت في آخر خلال الأعوام الـ 800,000 الأخيرة.
وزادت درجة حرارة سطح الأرض بشكل أسرع منذ عام 1970 مقارنة بأي فترة 50 عاما على مدار الألفي سنة الماضية على الأقل. وعلى سبيل المثال، فقد تجاوزت درجات الحرارة خلال العقد الأخير (2011-2020) تلك التي امتدت لقرون متعددة في الفترة الدافئة منذ نحو 6500 عام. وفي الوقت نفسه، ارتفع متوسط مستوى سطح البحر العالمي بشكل أسرع منذ عام 1900 مقارنة بأي قرن سابق في الأعوام الثلاثة آلاف الماضية على الأقل.
ووفق التقرير، فإن انبعاثات غازات الدفيئة من الأنشطة البشرية مسؤولة عن ما مقداره 1.1 درجة مئوية من الاحترار بين عامي 1850-1900، وأنه في المتوسط على مدار العشرين عاما المقبلة، من المتوقع أن تزيد درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية أو تتجاوزها.
ظواهر طبيعية متطرفة
يحذر التقرير من أن الاحترار العالمي بمقدار درجتين مئويتين سيتم تجاوزه خلال القرن الحادي والعشرين، ما لم تحدث تخفيضات سريعة وعميقة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى في العقود المقبلة، تحقيقا لأهداف اتفاق باريس الذي وقع في عام 2015 . ويعتمد تقييم التقرير في ذلك على بيانات محسنة عن الاحترار التاريخي، فضلا عن التقدم في الفهم العلمي لاستجابة نظام المناخ للانبعاثات التي يتسبب بها الإنسان.
ومن الواضح أن الأنشطة البشرية تؤثر في جميع مكونات النظام المناخي الرئيسية، مع استجابة بعضها على مدار عقود، والبعض الآخر على مدار قرون. وتم تعزيز الأدلة على التغيرات الملحوظة في الظواهر المتطرفة مثل موجات الحر والأمطار الغزيرة والجفاف والأعاصير المدارية، وإسنادها إلى التأثير البشري.
ومعظم التغيرات في النظام المناخي أصبحت أكبر في علاقتها المباشرة بزيادة الاحتباس الحراري، وهذا يشمل الزيادات في تواتر وشدة درجات الحرارة القصوى وموجات الحرارة البحرية وهطول الأمطار الغزيرة، والجفاف الزراعي والبيئي في بعض المناطق، ونسبة الأعاصير المدارية الشديدة، فضلا عن انخفاض الجليد البحري في القطب الشمالي والغطاء الثلجي والتربة الصقيعية. وبينما ستسهم الدوافع الطبيعية في تعديل التغييرات التي يتسبب بها الإنسان، لاسيما على المستويات الإقليمية وعلى المدى القريب، فإن تأثيرها سيكون ضئيلا في الاحترار العالمي على المدى البعيد.
عتبات حرجة لصحة البشرية
يتوقع التقرير أن تزداد التغيرات المناخية في العقود المقبلة في جميع القارات. وبالنسبة إلى الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية، ستكون هناك زيادة في موجات الحرارة، ومواسم دافئة أطول ومواسم برد أقصر. أما عند درجتين مئويتين من الاحتباس الحراري، فمن المرجح أن تصل درجات الحرارة القصوى إلى عتبات تحمّل حرجة للزراعة والصحة، لكن الأمر لن يقتصر على درجة الحرارة فقط.
وعلى سبيل المثال، يؤدي تغير المناخ إلى تكثيف الإنتاج الطبيعي للمياه – دورة المياه. وهذا يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة وما يرتبط بها من فيضانات، فضلا عن زيادة حدة الجفاف في العديد من المناطق. كما أنه يؤثر في أنماط هطول الأمطار. وفي مناطق خطوط العرض العليا، من المرجح أن يزداد هطول الأمطار، في حين يتوقع أن ينخفض في أجزاء كبيرة من المناطق شبه الاستوائية، كما يتوقع حدوث تغييرات في أنماط الأمطار الموسمية تختلف بحسب المنطقة.
وستشهد المناطق الساحلية ارتفاعا مستمرا في مستوى سطح البحر طوال القرن الحادي والعشرين، مما سيساهم في حدوث فيضانات ساحلية متكررة وشديدة في المناطق المنخفضة وتآكل السواحل. وأحداث مستوى سطح البحر المتطرفة التي حدثت سابقا مرة كل 100 عام، ربما تحدث كل عام بحلول نهاية هذا القرن.
ويرى التقرير أن المزيد من الاحترار سيؤدي إلى تضخيم ذوبان التربة الصقيعية، وفقدان الغطاء الثلجي الموسمي، وذوبان الأنهار الجليدية، والصفائح الجليدية، وفقدان الجليد البحري في القطب الشمالي في الصيف. وستؤثر التغييرات في المحيطات، بما في ذلك الاحترار، وموجات الحر البحرية الأكثر تواترا، وتحمض المحيطات، وانخفاض مستويات الأكسجين، في كل من النظم البيئية للمحيطات والأشخاص الذين يعتمدون عليها، وستسمر طوال بقية هذا القرن على الأقل.
الحد من تغير المناخ
لكن ما المطلوب من البشرية عمله للحد من تغير المناخ؟ الجواب يحدده بانماو تشاي، الرئيس المشارك لمجموعة من الخبراء المساهمين في التقرير بالقول: “سيتطلب استقرار المناخ تخفيضات كبيرة وسريعة ومستدامة في انبعاثات غازات الدفيئة، والوصول إلى صافي انبعاثات صفرية لغاز ثاني أكسيد الكربون. وربما يكون للحد من غازات الدفيئة وملوثات الهواء الأخرى وبخاصة الميثان فوائد للصحة والمناخ.”
ويوضح التقرير أنه من منظور العلوم الفيزيائية، فإن الحد من الاحتباس الحراري الذي يسببه الإنسان إلى مستوى معين يتطلب الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتراكمة، وصولا إلى ما لا يقل عن صافي صفري لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، إلى جانب تخفيضات كبيرة في انبعاثات غازات الدفيئة الأخرى. كما أن “التخفيضات الكبيرة والسريعة والمستدامة في انبعاثات الميثان ستحد أيضا من تأثير الاحترار الناتج عن انخفاض تلوث الهباء الجوي.”
الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ
هي هيئة تابعة للأمم المتحدة، معنية بتقييم العلوم المتعلقة بتغير المناخ، أنشأها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) في عام 1988، لتزويد القادة السياسيين بتقييمات علمية دورية بشأن تغير المناخ وآثاره ومخاطره، فضلا عن طرح استراتيجيات للتكيف والتخفيف.
وفي العام نفسه، أيدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإجراء المشترك الذي اتخذته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بشأن إنشاء تلك الهيئة التي تضم 195 عضوا.
ويساهم آلاف الأشخاص من جميع أنحاء العالم في عمل الهيئة. أما تقارير التقييم الصادرة عنها، فيتطوع علماء الهيئة بوقتهم لتقييم آلاف الأوراق العلمية المنشورة كل عام من أجل تقديم ملخص شامل لما هو معلوم عن محركات تغير المناخ وآثاره ومخاطره المستقبلية، والكيفية التي يمكن بها التكيف والتخفيف للحد من هذه المخاطر.