م. سلطان إبراهيم الخلف
علم الإلكترونيات من العلوم الحديثة التي لها دور كبير في خدمة تقدم البشرية، ولعل خير دليل على ذلك هو أنه أساس انبثاق عصر المعلوماتية الذي يتميز به عالمنا المعاصر. وما أجهزة الحاسوب المحمول والهواتف الذكية إلاّ أمثلة على ذلك، إذ يستطيع الفرد بواسطتها التواصل مع الآخرين بالصوت والصورة والرسائل الإلكترونية، والوصول إلى المعلومة المطلوبة ببساطة، ومتابعة الأحداث ومشاهدتها أولاً فأولاً عن طريق الإنترنت.
ويرجع علم الإلكترونيات إلى بداية القرن العشرين، إذ كانت الصمامات المفرغة تشكل عناصره الإلكترونية الأساسية التي كان لها مساهمة كبيرة في تقدم علم الاتصالات اللاسلكية في ذلك الوقت. لكن مع نهاية منتصف القرن العشرين، دخل علم الإلكترونيات مرحلة جديدة عندما ظهرت عناصر إلكترونية جديدة مصنوعة من أشباه الموصلات، وأخذت بالانتشار في الأسواق حيث بدأت تحل محل الصمامات المفرغة، وذلك لكونها أخف وزناً وأقل استهلاكاً للطاقة وأصغر حجماً وأطول عمراً، مع ما تتمتع به من كفاءة تشغيلية عالية. ولم تمض فترة طويلة على تلك العناصر المفردة حتى انتشرت صناعة الدارات المتكاملة التي تحوي أعداداً كبيرة من العناصر الإلكترونية والكهربائية المحشورة في رقاقة سليكونية، تقارب مساحتها ظفر الإصبع، حيث أصبحت عنصراً أساسياً في مختلف التطبيقات المعاصرة.
توماس أديسون
خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وقبل استخدام المصباح الكهربائي اهتم المخترع الأمريكي الشهير توماس أديسون (1847 – 1931) بإجراء بعض التجارب على المصباح الكهربائي من أجل تحسين أدائه، وذلك بالتخلّص من الاسوداد المتخلف على السطح الداخلي لغلافه الزجاجي، كما حاول إيجاد فتيل طويل الأمد كبديل للفتيل الكربوني الذي يحترق بعد ساعات معدودة من توهجه إثر مرور التيار الكهربائي فيه.
لاحظ أديسون في إحدى تجاربه تلك تدفق تيار كهربائي بين الفتيل Filament والصفيحة المعدنية Plate التي ثبتها في أعلى المصباح من الداخل عندما أوصلهما ببطارية من الخارج، وسجل ملاحظته تلك، حيث عرفت فيما بعد باسم تأثير أديسون. وتردد علماء الفيزياء حينذاك في تقبل حدوث تدفق للتيار الكهربائي بين الصفيحة والفتيل داخل المصباح المفرغ قياساً على ما ثبت علمياً من أن الصوت لا ينتقل في الفراغ.
الفيزيائي تومسون
أثارت ظاهرة تأثير أديسون اهتمام الفيزيائي الإنجليزي ج.ج تومسون (1940-1856)، وحاول اكتشاف طبيعة التيار الكهربائي المتدفق داخل المصباح بين الفتيل الكربوني المتوهج والصفيحة المعدنية.
وأجرى تجاربه في عام 1897 على أنبوب أشعة الكاثود، وهو عبارة عن أنبوب زجاجي مفرّغ من الهواء، يحتوي أحد طرفيه من الداخل على فتيل ينبعث منه التيار الكهربائي، كما في مصباح أديسون، وينتهي طرفه الآخر على شكل كروي لاستقبال التيار الذي يتوهج عند ارتطامه به. وخلص في تجاربه إلى أن هذا الشعاع المنبعث من الفتيل هو تيار كهربائي يمكن التحكم في اتجاه انحرافه عن طريق التأثير عليه بالمجال الكهربائي أو المغنطيسي، وأنه يحتوي على جسيمات متناهية الصغر، أطلق عليها اسم كريات تحمل شحنة سالبة، حجم الواحدة منها أصغر من حجم ذرة الهدروجين، وسرعتها داخل الأنبوب تصل إلى 20 ألف ميل/ ثانية, بل أضاف إلى اكتشافه هذا فرضية وجود شحنات موجبة للذرة مقابل الشحنات السالبة للكريات، لكنه واجه معارضة من العلماء الذين رفضوا وجود جسيمات أصغر من الذرة لاعتقادهم أن الذرة هي أصغر جزء في المادة، ومع ذلك فقد ثبت فيما بعد أن هذه الكريات ما هي إلاّ إلكترونات، ليصبح بذلك تومسون أول من اكتشف الإلكترون وفسّر طبيعة التيار الكهربائي.
الفيزيائي فلمنغ
وكما حازت ظاهرة تأثير أديسون اهتمام تومسون؛ فقد لفتت انتباه الفيزيائي الإنكليزي أمبروز فلمنغ (1945-1849) أثناء عمله مستشاراً علمياً للمخترع ورائد اتصالات الراديو الإيطالي ماركوني، عندما طلب منه تصميم أداة بديلة للمكشاف التلغرافي coherer الذي كان سبباً في إخفاق تجربته في استقبال الإشارة التلغرافية المرسلة عبر المحيط الهادي من مدينة بولدو البريطانية إلى مدينة نوفا سكوتشا الكندية عام 1901.
وقام فلمنغ بإدخال إشارة ترددية AC على مصباح أديسون بين الصفيحة والفتيل، ولاحظ مرور تيار مستمر DC في الدارة. وبعد سلسلة من التعديلات على مصباح أديسون سجل براءة اختراع لأداته عام 1904، وأطلق عليها اسم صمام فلمنغ. وبذلك نجح فلمنغ في اختراع أداة تقوم بمهمة تقويم التيار الترددي في دارة الاستقبال، ما ساعد على سماع الإشارة اللاسلكية للبث التلغرافي من خلال سماعة الأذن. ويثني مؤرخو الاتصالات اللاسلكية على صمام فلمنغ لأهمية دوره في تقدّم التلغراف اللاسلكي والهاتف، كما أنه يعتبر أساس ظهور صمام (ترايود) فيما بعد.
مفاجأة كبرى
لم يكن هناك أدنى شك خلال النصف الأول من القرن العشرين في أن الصمامات المفرغة ستظل حجر الأساس في عالم الإلكترونيات، وكان من المستبعد أن يكون لها بديل بعد أن تربعت على عرش عالم الإلكترونيات. لكن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً؛ فقد حدثت مفاجأة كبرى في عام 1947 عندما تمكن الفيزيائيون الأمريكيون الثلاثة العاملون في مختبرات بل وهم وليم شوكلي ووالتر براتين وجون باردين من اختراع ترانزستور نوع Point Contact (التماس النقطي) من رقاقة (جرمانيوم)، وهي مادة شبه موصّلة تتألف من طبقة عليا موجبة وطبقة سفلى سالبة.
وترتكز فكرة عمل الترانزستور على أن التيار الذي يتدفق بين الباعث Emitter والقاعدة Base عبر الرقاقة، يؤدي إلى تدفق تيار أعلى منه عبر طرف المجمّع Collector والقاعدة. ومنح الثلاثة جائزة نوبل في الفيزياء على اختراعهم لهذا الترانزستور عام 1956، على الرغم من أن قدرته على التكبير كانت متواضعة جداً، كما أنه يصعب تصنيعه حيث المسافة بين نقطتي التماس Slit على سطح البلورة بين طرفي الباعث والمجمّع تبلغ سمك حد الشفرة، وهي مسافة يصعب تحقيقها من الناحية العملية. ومع ذلك؛ فقد كان لاختراع الترانزستور ذي التماس النقطي أثر كبير في تشجيع الباحثين نحو التوجه إلى عالم أشباه الموصّلات ودراسة إمكانية كونها عناصر بديلة للصمامات المفرغة.
ترانزستور ساندويتش
بدأ وليم شوكلي في عام 1948 بالتفكير في تصميم ترانزستور ساندويتش، أو الوصلة، يعمل بكفاءة أعلى من ترانزستور التماس النقطي، وعمل مع كل من مورغان سباركس وجوردن تيل، ونجح في اختراعه لترانزستور ثنائي القطبية BJT نوع NPN الذي تظهر فيه القاعدة محشورة بين منطقتي الباعث والمجمّع، حيث فاق ترانزستور، التماس النقطي من حيث سهولة التصنيع وقدرة التكبير وانخفاض مستوى التشويش، وأصبح الأساس في تصنيع العناصر الإلكترونية من المادة شبه الموصلة.
وتقوم نظرية عمل ترانزستور ثنائي القطبية على فكرة أن مرور تيار ضعيف في القاعدة يؤدي إلى مرور تيار مناظر وعال في المجمّع. وأعلنت مختبرات بل في مؤتمر صحفي في يوليو1951 عن الترانزستور الجديد من مادة الجرمانيوم.
وفي سبتمبر من العام نفسه أقامت ندوة حضرها نحو 300 من العلماء والمهندسين وتمت إحاطتهم بنظرية عمل الترانزستور، كما تم تقديم رخص صناعة الترانزستور مقابل رسم مقداره 25 ألف دولار. ومن بين الشركات التي حصلت على رخصة التصنيع IBM وGE وT.I. لكن نظراً لتردي أداء عمل الترانزستور عند ارتفاع درجة حرارته قامت شركة T.I في عام 1954 بجهود جوردن تيل بعد أن انضم إلى الشركة بتصنيع ترانزستور سيليكوني بديل يتميز بكفاءة وأداء عاليين. وفي العام نفسه قامت الشركة بتصنيع أول راديو جيب يعمل بالترانزستور، وكان جهازاً فريداً من نوعه ونال إعجاب الناس في ذلك الوقت نظراً لصغر حجمه وخفة وزنه، مقارنة بأجهزة الراديو الكبيرة والثقيلة التي تعمل بالصمامات المفرغة، والتي يصعب حملها والاستماع إليها خارج المنزل.
وادي السيليكون
في عام 1956 افتتح شوكلي مختبره لأشباه الموصلات، وكان أول مختبر يفتتح في بالو آلتو بكاليفورنيا، التي أصبحت فيما بعد تضم العديد من الشركات المصنعة للعناصر شبه الموصلة وشركات صناعة الحاسوب، والتي عرفت فيما بعد بوادي السيليكون الشهير.
ويمكن اعتبار اختراع ترانزستور ثنائي القطبية محطة فارقة في ازدهار صناعة عناصر أشباه الموصلات الإلكترونية، وعلى سبيل المثال لا الحصر كترانزستور تأثير المجال FET وMOSFET والصمامات (الدايود) المشعة للضوء LEDs بمختلف ألوانه والمجسّات Sensors والليزر والخلية الشمسية المصدر الأساسي في تزويد السواتل (الأقمار الصنعية) بالطاقة الكهربائية، والتي من دونها يستحيل التواصل مع الساتل وهو يدور حول الأرض لسنوات عدة.
ومع انتشار صناعة عناصر أشباه الموصّلات الإلكترونية بدأ نجم الصمامات المفرغة بالأفول مع بداية الستينيات من القرن الماضي، وتبع ذلك ظهور أجهزة الراديو والتلفاز وأجهزة القياس وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي تعتمد على عناصر المادة شبه الموصلة، لكن بقيت بعض التطبيقات المحدودة التي لا تستغني عن استخدام الترايود إلى وقتنا الحاضر كتطبيقات القدرة العالية في البث الإذاعي.
رهاب الأعداد
بقيت مشكلة تزايد كثافة العناصر الإلكترونية التي يتم تجميعها بطريقة اللحام على اللوح المطبوع PCB تؤرق المهندسين، وسميت هذه الحالة برهاب الأعداد Tyranny of Numbers. وكان حل هذه المشكلة يراود كلاً من جاك كيلبي وروبرت نويس، وكان الحل يقوم على فكرة تصنيع دارة كاملة بمختلف عناصرها من ترانزستورات وصمامات ومقاومات ومكثفات شبه موصلة، ضمن رقاقة سيليكونية واحدة.
واستطاع جاك كيلبي في الثاني من يونيو 1959 تسجيل براءة اختراعه لأول دارة متكاملة، وهي عبارة عن مذبذب إزاحـة الطور Phase Shift Oscillator. وأعقبه روبرت نويس في 30 يونيو نفسه بتسجيل براءة اختراعه لدارة منطقية قلابة Flip-Flops مستخدماً طريقة الطباعة الحجرية الضوئية Photolithography.
واعترفت المحكمة العليا الأمريكية ببراءة اختراع روبرت نويس في السادس من ديسمبر 1969، وذلك بفضل تفوقه على جاك كيلبي في تقنية توصيل المكونات بعضها ببعض باستخدام تقنية ترسيب المعدن Metallization، التي تعتبر أكثر عملية وسهولة في عملية الإنتاج من طريقة كيلبي الذي استخدم دبابيس وخيوطاً معدنية معلقة للتوصيل بين المكونات. لكن مع ذلك فقد منح الاثنان لقب مخترعين مشاركين Co-inventors للدارة المتكاملة، وحازا جائزة نوبل في عام 2000. وبدأ إنتاج الدارات المتكاملة من نوع البوابات المنطقية في عام 1961.
مشروع أبولو
وشجّع في تقدم صناعة الدارات المتكاملة مشروع أبولو (1961) الذي تبناه الرئيس الأمريكي جون كينيدي لمواجهة تفوق الاتحاد السوفييتي السابق في علم الفضاء، وكان المشروع يهدف إلى إطلاق مركبة فضائية تحط بروادها على سطح القمر قبل نهاية العقد. وفي تلك الفترة ظلت الحكومة الأمريكية من أكثر الزبائن شراء للدارات المتكاملة، كما كان هناك طلب كبير عليها من قبل شركة ICBM المصنعة للصواريخ الحاملة للرؤوس النووية.
وفي عام 1968 أسس روبرت نويس مع صديقه جوردن مور صاحب القانون الشهير (قانون مور) شركة Intel التي اشتهرت فيما بعد وحتى يومنا هذا بإنتاج معالجات Intel. وكان 4004 – 4bit CPU Intel أول معالج على مستوى العالم تصنعه الشركة وتطرحه في الأسواق في عام 1971، وكان تردده 740KHz، ويحتوي على 2300 ترانزستور مع ملحقاته. وكان يعمل بنفس القدرة الحسابية لأول حاسوب إلكتروني ENIAC في جامعة بنسلفانيا في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان يشغل قاعة كبيرة، ويحتوي على نحو 18500 صمام مفرغ، عدا عشرات الآلاف من المرحلات والمقاومات والمكثفات. وكان يستهلك 150 كيلو واط، وهي قدرة كافية لتشغيل قاطرة قطار.
وفي عام 2010 بلغ عدد الترانزستورات MOSFET في core) Intel) نحو نصف مليار ترانزستور، ما يدل على تقدم تكنولوجيا صناعة الدارات المتكاملة ذات الكثافة العالية جداً.
قانون مور
لا تزال زيادة كثافة ترانزستورات MOSFET مستمرة في رقاقة المعالج حسب قانون مور الذي ينص على أن عدد الترانزستورات في الرقاقة يزداد بمقدار الضعف كل سنتين. وعملية زيادة الكثافة تلك تتطلب تصغير حجم الترانزستور، لكن عندما تقترب أبعاد الترانزستور إلى أقل من 22 نانو متر في الرقاقة، ومن أجل استمرار قانون مور فإنه لا بد من اعتماد الطباعة الحجرية النانوية كبديل لتكنولوجيا الطباعة الحجرية الضوئية المستخدمة حالياً في تصنيع الدارات المتكاملة، إذ إن تقنيات الطباعة الحجرية الضوئية غير قادرة على تحقيق مثل تلك الأبعاد.
وتوصلت بعض الأبحاث الحديثة إلى تصنيع ترانزستور CNTFET ذي أبعاد أقل من 22 نانومتر باستخدام شبه موصّل أنبوب نانو كربوني Carbon Nano Tube أو CNT حيث يبلغ قطره عدة نانومترات، كقنال بين المصدر Source والمصرف Drain، بديلة للقناة السيليكونية لترانزستور MOSFET الحالي، كما نجحت في تصنيع أسلاك شبه موصلات نانوية، وهو إنجاز يبشر بمستقبل واعد في بناء الدارة المتكاملة باستخدام التقانة النانوية. وسيأتي اليوم الذي تنتشر فيه الدارات المتكاملة بتقنية الطباعة الحجرية النانوية، حيث المليارات من الترانزستورات في الرقاقة الواحدة. لكن يبقى السؤال الملح وهو: إلى أي حد يمكن أن ينتهي حينذاك حجم الترانزستور وفقاً لهذه التقنية؟