د. أحمد مغربي
هناك تاريخ طويل من العلاقة بين الدول الفقيرة والنفايات السامة الآتية من الدول الأكثر غنىً. يندرج في سياق الأمثلة على ذلك، ما حدث في عام 1987، حين أثارت شركة إيطالية غضباً عالمياً بدفنها 8 آلاف برميل من النفايات السامة في قرية كوكو بنيجيريا. في مطلع السنة الجارية، غرّمت حكومة نيجيريا شركات غربيّة نحو مليون دولار، لمحاولة الأخيرة دفن 24 حاوية ضخمة تضم أجهزة إلكترونية تالفة، تشمل تلفازات وحواسيب وهواتف محمولة وأجهزة مايكروويف ومُضخّمات صوت (ستيريو)، كانت محمّلة على متن سفينة قادمة من تيلبوري في بريطانيا. لم تكن تلك المرّة الأولى، بل كانت الثالثة من هذا النوع، خلال السنوات الثلاث الماضية.
تعتبر نيجيريا نموذجاً لإشكالية النفايات الإلكترونية (إي وايست – e- waste)، وهو مصطلح يستخدم في الإشارة إلى التراكم المستمّر في الأجهزة الإلكترونية التي يُستغنى عنها، لأسباب متنوعة، فتُرمى كنفايات. ومن المعلوم أن المصدر الرئيسي لتلك النفايات هو الدول الصناعية المتقدمة التي تستهلك أعداداً هائلة من تلك الأجهزة سنوياً، خصوصاً أن ارتفاع القدرة الشرائية فيها يتيح للجمهور تبديل ما يستعمله من أجهزة إلكترونية بسرعة كبيرة. ويعني ذلك أن قسماً من تلك النفايات هو أجهزة لا تزال صالحة للاستخدام، ما يؤدّي إلى تداخل نشاطات التجارة بالأدوات الإلكترونية المستعملة ونفاياتها، خصوصاً أن جمهور العالم الثالث يملك قدرة شرائية أقل من نظيره في الدول الصناعية، لذا فإنه أكثر إقبالاً على اقتناء الأجهزة المتقادمة.
وتقدم نيجيريا، خصوصاً عاصمتها الاقتصادية لاغوس، نموذجاً عن تحوّل مدن العالم الثالث إلى مكبّات ضخمة تستقبل النفايات الإلكترونية القادمة من العالم المتقدم. ويستقبل ميناء لاغوس 500 حاوية ضخمة شهرياً، يعادل مجموع حمولتها 400 ألف شاشة حاسوب أو 175 ألف جهاز تلفزيون ضخم. وبحسب تقارير لمنظمات بيئية دولية، يُصنّف نحو %75 من تلك الحمولة بوصفها نفايات إلكترونية.
ثمن باهظ
في المقابل، تعاني بيئة لاغوس بشدة الثمن الباهظ الذي تدفعه لقاء تدفّق هذه السلع الرخيصة، إذ أكّدت مصلحة إدارة النفايات فيها أنَّ النفايات الإلكترونية أصبحت «مشكلة ضخمة وتحدّياً جباراً»، خصوصاً أنَّ المدينة تفتقر إلى مرافق لإعادة تدوير هذه النفايات بطريقة كفؤة، فترمى في الضواحي الأكثر فقراً، في حين يُحرَق بعضها.
وفي سياق متّصل، ذكرت جمعية البيئة الوطنية في نيجيريا أن «هذا الوضع مثير للقلق الشديد، لأنَّ بعض مكوّنات هذه الأجهزة الإلكترونية مُضرّ جداً»، ويسبب مشكلات صحيّة متعدّدة. وأوضحت هذه الجمعية أن خردة الأجهزة تحرق في أمكنة مفتوحة، وبعضها ينفث كميات كبيرة من الجسيمات المؤذيّة صحيّاً. ويعاني سكان المناطق المحيطة بأمكنة حرق النفايات الإلكترونية أمراضاً صدرية من جراء استنشاق كميات كبيرة من المواد المرتفعة السُميّة.
وأخيراً، يشار إلى أن لاغوس (التي قدر عدد سكانها عام 2010 بنحو 20 مليون نسمة) تواجه مشكلة نفايات ضخمة، إذ تتناثر مئات الآلاف من الأكياس البلاستيكية في الشوارع، وتسدّ فتحات قنوات الصرف الصحي، فتطفو مياه الأمطار وتغمر الطرق والبيوت. ويقدّر الخبراء أن هذا الضغط السكاني يساهم في تفاقم الوضع، إذ توّلد لاغوس 9000 طن مكعب من النفايات يومياً. وفي المقابل، تُشدّد السلطات الرسميّة على أهمية إعادة التدوير، بل شرعت في تنفيذ برنامج لإعادة تدوير النفايات العضوية التي تمثل %60 من مجموع النفايات في المدينة، لاستخدامها في تسميد الأشجار والزهور. وساهم برنامج إدارة النفايات في إتاحة فرص عمل جديدة، إذ يعمل فيه مباشرة 350 شخصاً. ويقدّر أن 3000 شخص آخر يحصلون على قوت يومهم بصورة غير مباشرة من جمع المعادن والورق والبلاستيك وغيرها في المكبات، لإعادة تدويرها.
ويؤكد الخبراء في صناعة التقانات المتطورة أن مكافحة النفايات الإلكترونية لابد أن تتجاوز مجرد توعية الناس بمضارها، لتتمكن من وضع نظام متكامل لإدارتها أيضاً.
شره تقني للطبقة الوسطى
تتنامى كمية النفايات الإلكترونية بثلاثة أضعاف نمو الأنواع الأخرى من النفايات. ويأتي هذا النمو المُتسارِع نتيجة تقاصر مدّة استعمال الأدوات الإلكترونية، وازدياد استهلاك الطبقات الوسطى في الدول الصاعدة (بل عالمياً) لهذا النوع من الأدوات. وعلى سبيل المقارنة، استغنت الولايات المتحدة في عام 1998 عن20 مليون حاسوب. وارتفع هذا العدد إلى 47.4 مليون في 2009. وأحالت الصين إلى التقاعد نحو 160 مليون أداة إلكترونية في 2011، ما مثّل %40 من نظيراتها في الولايات المتحدة. وتوقّع تقرير صدر في 2011 عن «معهد بايك للأبحاث، تضاعف حجم النفايات الإلكترونية ووزنها، خلال السنوات الـ15 المقبلة.
تتمحوّر الجهود الدولية لتنظيم تجارة النفايات الإلكترونية حول مقرّرات «ميثاق بازل»، الذي أقرّ في عام 1989، بعد خلافات حوله شهدتها قمّة «كيوتو». ويهدف الميثاق إلى منع العالم الصناعي المتقدّم من طمر نفاياته المؤذية في الدول الفقيرة. في المقابل، تحتوي النفايات الإلكترونية على مواد معدنية نادرة؛ إذ تحتوي الرقاقات الإلكترونية على خطوط من الفضّة والذهب والبلاديوم. وتفوق نسبة هذه المعادن النسبة التي تظهر في كثير من مناجمها بنحو 50 ضعفاً، بحسب دراسة أنجزتها «جامعة الأمم المتحدة». وتضم هذه النفايات أيضاً كميات أقل قيمة، لكنها أشد سميّة، من مواد مثل الكادميوم والرصاص والزئبق.
في هذا الإطار، تستطيع شركات متطوّرة في تقنيات التعامل مع النفايات الإلكترونية، كـ«يوميكور» البلجيكية و«إكزستراتا» الكنديّة، استخلاص نحو %95 من هذه المعادن، بفضل توسّعها في استخدام الأفران والمُذيبات. في المقابل، ثمة طُرُق أكثر ربحية، لكنها متوحّشة في الأذى. ففي منطقة «غوييو» يعمل نحو 100 ألف شخص في إعادة تدوير النفايات الإلكترونية. ويشبهها بعض الناشطين البيئيين، من المجموعة المُسماة «شبكة عمل بازل» Basel Action Network، بأنها أرض مُدمّرة كليّاً. ويتمثّل العمل الروتيني في تلك المنطقة الصينية بفصل البلاستيك عبر غلي القطع الإلكترونية على المواقد، ثم تنظيفها بالأحماض القوية. ويتعرّض العمّال لخطر الإصابة بالحروق، وتنشّق الأبخرة الكيميائية، والتسمّم بالرصاص، والتأذي بمواد مُسرطِنَة. ولاحظت دراسة أنجزتها جامعة «شانتو» القريبة من تلك المنطقة، ارتفاع نسبة الإجهاض لدى عائلات هؤلاء العمّال.
ويرى الناشطون ضرورة فرض حظر على تصدير الدول الغنيّة نفاياتها الإلكترونية إلى الدول الفقيرة. هناك ما هو أسوأ؛ إذ إن كثيراً من النفايات الإلكترونية لا يُعاد تدويرها، بل إنها تطمر، بكل بساطة، مع ما يحمله هذا الأمر من دمار للتربة والمياه والزراعة، وبالتالي البشر. ينطبق هذا الأمر على نيجــــيريا. فــــفي ذلك البلد يطمر معظم ما يصل إليه من نفايات إلكترونية. وهناك من يسعى لإقناع البرلمان النيجيري بسن تشريع يحظر نقل النفايات الإلكترونية كليّاً، بغض النظر عن مسألة إعادة التدوير. ربما حمل هذا الأمر أرباحاً إلى «أثرياء النفايات» في الصين! ومع توسّع نفوذ هذه الأخيرة في إفريقيا، يصبح من الصعب تجاهل الشبكة المترابطة بين السياسة والنفايات الإلكترونية.