المستقبل غيرُ الجراحي لمراقبة الصحة: رحلة دينا القتابي في الهندسة والطب
كيف يعمل الذكاء الاصطناعي والإشارات اللاسلكية على تحويل الرعاية الصحية
“إن إنفيزيبلز Invisibles هي طريقة غير باضعةٍ لتتبُّع الصحة. تتمتع إي كيو-راديو EQ-Radio بالقدرة على تحويل البيئات بناءً على مزاج الشخص” دينا القتابي.
تستطيع المهندسة الكهربائية دينا القتابي أن تقول بحق إنها تُحدِث ثورة في الطب بصفتها أستاذة دكتورة ثوان ونيكول فام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. تعمل القتابي على دمج الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الحاسوب في تطبيقات تحويلية تستهدف الأمراض الخطيرة والرفاه العاطفي العام للسكان. يستخدم أحد مشاريعها البارزة، إنفيزيبلز “Invisibles”، إشارات لاسلكية لمراقبة العلامات الحيوية وحركات الشخص من دون الحاجة إلى أجهزة قابلة للارتداء. تساعد Invisibles المرضى الذين يعانون حالات تنكسية عصبية مثل مرض باركنسون وآلزهايمر (تنطق آلزايمر)، إضافةً إلى اضطرابات المناعة الذاتية مثل مرض كرون والذئبة، من خلال تتبُّع تطور الأعراض واكتشاف العلامات المبكرة. كما يُعد مشروع إى كيو-راديو EQ-Radio مشروعاً رائداً آخر من مشاريعها. يستخدم هذا المشروع إشارات لاسلكية للكشف عن مشاعر الشخص من خلال تحليل معدل ضربات قلبه وأنماط تنفسه – تخيل أليكسا متقدمة للرفاه العاطفية.
تقول القتابي، التي تشغل أيضاً منصب مدير مركز MIT للشبكات اللاسلكية والحوسبة المتنقلة في مختبر علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: “إن إنفيزيبلز Invisibles هي طريقة غير باضعة (جراحية) لتتبع الصحة. ويتمتع EQ-Radio بالقدرة على تحويل البيئات بناءً على مزاج الشخص. تخيل منزلك وهو يعزف الموسيقى المفضلة لديك عندما تكون متوتراً، أو يغير الإضاءة لتناسب مزاجك”.
في العام 1997 تقريباً، شرعت الأكاديمية السورية في الحصول على درجة الدكتوراه. كانت تحلم بجعل الإنترنت – الذي كان لا يزال في بداياته آنذاك – أكثر كفاءة، من خلال تحسين شبكات WiFi والشبكات اللاسلكية. قادها بحثها الأساسي إلى تطوير أجهزة استشعار لاسلكية مبتكَرة قادرة على استشعار الموقع والحركات لاسلكياً بالكامل. ومن هذا تطور بحث القتابي لإنشاء أجهزة استشعار بيولوجية يمكنها اكتشاف الإشارات البيولوجية والفسيولوجية، مما يمثل نشأة مشاريعها الرائدة التي تطرقنا إليها أعلاه. لكن اندماج الذكاء الاصطناعي والطب في المجال الطبي والعافية ليس فقط التقدم المنطقي لعمل القتابي في مرحلة ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ بل إنه جعل والديها، وخاصة والدها، طبيب القلب الذي عارض بشدة أن تصبح مهندسة “فخورَين جداً”، كما تقول.
عندما أخبرت القتابي والدَيها أنها تريد ترك كلية الطب والتحول إلى الهندسة بعد قضاء عام في كلية الطب في منتصف تسعينات القرن العشرين، “صُدم الجميع في البلاد”. نشأت القتابي وسط عائلة من الأطباء في دمشق، سوريا، وكان من المتوقع أن تتبع المسار نفسه. عادة ما يذهب أفضل الطلبة إلى كلية الطب في سوريا – كان طريقاً باتجاه واحد. قال الجميع: “ماذا، تريدين أن تكوني باحثة؟ هذه ليست حتى وظيفة”. كان ترك كلية الطب فجأة بعد أن كانت في المرتبة الأولى في الفصل في السنة الأولى والانتقال إلى شيء “أقل أهمية” قراراً جريئاً وربما متمرداً وغريباً تقريباً. لكن القتابي التي كانت تبلغ من العمر 18 عاماً آنذاك كانت عنيدة كما هي اليوم، وفضولية دائماً. كانت باحثة.
تقول القتابي: “لقد أحببت الرياضيات دائماً”. فالهندسة الكهربائية هي في الواقع عبارة عن رياضيات تطبيقية. وكان القرار سهلاً. ففي العام 1997، وبعد حصولها على شهادتها في الهندسة الكهربائية في دمشق، تقدمت القتابي للدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وتعترف قائلة: “عندما حصلت على القبول من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، شعرت بمفاجأة حقيقية. أعتقد أنهم ربما لم يروا قط شخصاً، على الأقل في قسمي، آتياً مباشرة من جامعة دمشق”.
تميَّز عصر شبكة الويب العالمية بالنمو السريع، مع دخول عديد من المستخدمين الجدد إلى الإنترنت والتقدم الكبير في تقنيات الإنترنت والبنية الأساسية، ولكن أيضاً بعديد من المشكلات. أدركت القتابي أن أحد أكبر التحديات كان التحكم في حركة المرور على الإنترنت لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة، فقررت التركيز في الدكتوراه على التحكم في ازدحام الإنترنت. طورت طرقاً أكثر ذكاءً لإدارة حركة مرور بيانات الإنترنت. على سبيل المثال أنشأت لاحقاً بروتوكول التحكم الصريح (XCP)، وهو بروتوكول للتحكم في الازدحام يوفر ملاحظات واضحة حول مستويات حركة المرور على الإنترنت، مما يسمح بتدفق البيانات بسلاسة أكبر. بعد الانتهاء من الدكتوراه، تقدمت بطلب للحصول على وظيفة أستاذة.
وتقول القتابي: “لقد تلقيت عروضاً من كل مكان أجريت فيه المقابلات تقريباً: بيركلي، وستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فضلاً عن عديد من الأماكن الأخرى”. وفي النهاية قررت البقاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: “كان قراراً عاطفياً إلى حد كبير. كنت شابة، وكان أصدقائي هناك طَوال حياتي”. وحتى الآن، كان الأمر مناسباً لها جيداً. تُظهر مشاريعها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تقاطعاً قوياً بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا اللاسلكية والرعاية الصحية، مما يترك وعداً كبيراً لإمكانات الذكاء الاصطناعي المستقبلية في الطب. حُلمها هو إنشاء نمذجات ذكاء اصطناعي تراقب باستمرار الإشارات الفسيولوجية، وتتنبأ بالمشكلات الصحية قبل أن تصبح حرجة. تقول القتابي: “تخيل لو كان في إمكاننا استخدام أساليب غير باضعة (جراحية) لمراقبة وتوقع الظروف الصحية، وتحسين حياة الناس بقدر كبير”. في المستقبل يمكن أن يكون لدينا حراس صحيون شخصيون. يمكن لجهاز مراقبة إشاراتنا الفسيولوجية باستمرار وإدخالها في نظام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمشكلات الصحية. تقول القتابي: “لإعطائك مثالاً، يمكن للتغييرات الدقيقة في البيانات الفسيولوجية للشخص أن تساعد الذكاء الاصطناعي على اكتشاف العلامات المبكرة لمرض آلزهايمر، مما يسمح بالتدخل في الوقت المناسب قبل أن يتطور المرض تطوراً كبيراً”.
وفي ولاية ماساتشوستس، وجدت مهندسة الكهرباء السورية طريقة لدمج خلفيتها في علوم الحاسوب مع تراث عائلتها الطبي. وتؤكد القتابي مراراً: “والداي سعيدان للغاية. والدي، وهو طبيب قلب، يحب أنني أربط بين الهندسة والطب”. غيرَ أن رحلتها لم تكن دائماً نزهة في حديقة.
“بصفتي امرأة في مجال الهندسة، وخاصة أنني آتيةٌ من سوريا، كان عليّ أن أثبت نفسي في كل خطوة”، كما تقول. “من ناحية، كان هناك سور حامٍ حولي من الأشخاص الداعمين من المؤمنين بالعلم. ومن ناحية أخرى، كان هناك قدر من الشدائد جعلني دائماً متحفزة لإثبات نفسي والاضطلاع بعمل أفضل”. وهي تعتقد أن البقاء في البيئة الأكبر، حيث تواجه تحديات طَوال الوقت، ولا تُمنح النساءُ فرصاً متساوية، يجعلك أقوى. إذ تقول: “الحياة ليست بسيطة أو سهلة”. وتقرّ القتابي بأن ما ترى أنه حقائق غير مريحة ربما سهل نجاحها. تتابع: “يعتقد معظم الناس أنني أوروبية، أو ينظرون إليّ كأنني كذلك. أنا لا أبدو مختلفة بشكل خاص عن الأشخاص في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أو في الولايات المتحدة. لكنني أعتقد أنه إذا كانت لشخص ما بشرة داكنة أو مظهر مختلف، فقد تكون تجربته مختلفة تماماً”. غيرَ أنها سرعان ما تضيف قائلة: “كما أن تصور ما يجب أن أفعله أو لا أفعله قد يكون مختلفاً تماماً إذا كنت طبيبة أعمل مع أشخاص عاديين في الشارع”. ولحسن الحظ فإن النظام الإيكولوجي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عملي ويركز على النتائج: “الناس هنا علماء. إنهم منطقيون، ولا يلقون بالاً لهذه الصور النمطية”. والإنجازات هي ما يهم.
في العام 2013، حصلت القتابي على زمالة ماك آرثر عن عملها المبتكر في مجال نقل البيانات اللاسلكية وإدارة الشبكات، وفي العام 2017 حصلت على جائزة ACM في الحوسبة عن مساهماتها الرائدة في التحكم في ازدحام الشبكة ومراقبة صحة الشبكات اللاسلكية، من بين جملة أخرى من المساهمات. وأخيراً علمت أنها حصلت على جائزة الكويت المرموقة للعلوم التطبيقية للعام 2023. تحمل هذه الجائزة ارتباطاً عاطفياً خاصاً بها. تقول: “أشعر بالسعادة لأنني أحظى بتقدير شعبي. إنه ليس مجرد شرف مهني، بل شرف عاطفي أيضاً”. كما يشعر والداها بالبهجة، كما تقول، فالعالم العربي يُكرِّم ابنتهما.
إن رحلة القتابي من دمشق إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تشكل مثالاً قوياً على كيف يمكن للإيمان بالعلم، إلى جانب الإصرار المحض والتصميم الجاد، أن يؤدي إلى ابتكارات رائدة قادرة على تحسين حياة الناس في مختلف أنحاء العالم. صحيح أن نجاحها ربما جاء على حساب وقت الفراغ، الذي لا تتمتع بأي منه، ولكن إذا فكرت في الأمر ملياً، فإن التضحية لم تكن كبيرة. تقول القتابي: “عملي هو هوايتي. إنه شيء أستمتع به، وما زلت أستمتع به كل يوم”.