د. عبد الرحمن لطفي أمين
أخصائي الصحة العامة والوبائيات في وزارة الصحة (الكويت)
تتعارض الحجج ضد التطعيم مع الإجماع العلمي الساحق حول مأمونية اللقاحات وفعاليتها ضد الأمراض التي باتت معظمها نادرة بفضل هذا الاكتشاف العلمي المذهل.
لم يلق أي لقاح هجوماً شرساً مثل الهجوم الحالي الذي تشهده لقاحات فيروس كورونا المستجد المسبب لمرض كوفيد-19، ولم يواجه أي منها بانتقادات لاذعة مثل الانتقادات التي توجه إلى الشركات المصنعة لها أو الدول التي تستخدمها. وأدت هذه الانتقادات إلى عزوف عدد كبير في البداية عن التطعيم، مما كان له أثر واضح في زيادة معدلات انتشار الجائحة والوفيات الناجمة عنها.
والتردد في أخذ التطعيمات أو ما يسمى vaccine hesitancy، هو الإحجام عن التطعيم أو رفضه على الرغم من توافره. وحددت منظمة الصحة العالمية هذا الخطر الصحي باعتباره واحدا من أكبر عشرة تهديدات صحية عالمية لعام 2019. وهذا المصطلح يشمل الرفض التام للتطعيم، أو التأخير في أخذ اللقاحات، أو تقبل اللقاحات مع عدم التأكد من فعاليتها، أو استخدام لقاحات معينة دون غيرها. وتتعارض الحجج ضد التطعيم مع الإجماع العلمي الساحق حول مأمونية اللقاحات وفعاليتها ضد الأمراض التي باتت معظمها نادرة بفضل هذا الاكتشاف العلمي المذهل.
ويأتي التردد في أخذ اللقاح من عدة عوامل رئيسية، منها عدم ثقة الشخص في اللقاح أو في مقدم الرعاية الصحية، وعدم الرضا عن اللقاح. لقد كان هذا الرفض موجودًا منذ اكتشاف اللقاحات، وكانت الفرضيات المحددة التي أثارها دعاة مناهضة التطعيم تتغير بمرور الوقت. وتتزايد هذه الحملات الشرسة كلما ظهرت في الأفق ملامح لقاح جديد ضد مرض ما.
وبينما يعكف العلماء على اكتشاف لقاح جديد ينقذ البشرية من كوفيد-19، تحشد حركات صغيرة لكنها قوية ضد التطعيم حملات ضده. ويتبنى المدافعون عن تلك الحملات تأليف روايات غريبة، منها أن اللقاحات ستُستخدم لزرع رقائق ميكروية في الناس، وأنها ستسبب وفيات كثيرة وستؤدي إلى قتل الملايين.
وتنتشر الرسائل المناهضة للتطعيم عبر مجموعات أكثر على وسائل التواصل الاجتماعي من تلك الموجودة في المجموعات المؤيدة للقاحات، حيث يمكن لهؤلاء المتمردين على التطعيم في كثير من الأحيان دمج أنفسهم بعمق في الشبكات الاجتماعية القائمة. كما أن الناشطين المناهضين للقاحات يميلون إلى كسب المتحولين من خلال رسائل شخصية ومؤثرة. وهذه الرسائل ليست مبنية بالضرورة على التخويف “اللقاحات ستقتلك”، بقدر ما هي مبنية على دغدغة المشاعر “هل تحب أطفالك؟”، في حين يحاول العاملون في مجال الصحة إثبات أهمية اللقاحات بالدلائل العلمية.
حقائق لا تقبل الشك
قبل محاولة الرد على المشككين لابد من وضع حقائق علمية بالأرقام نشرتها وتؤيدها منظمة الصحة العالمية. تقول المنظمة إن اللقاحات تنقذ ملايين الأرواح كل عام، وتسهم من خلال تدريب وإعداد دفاعات الجسم الطبيعية (جهاز المناعة) في التعرف على الفيروسات والبكتيريا التي تستهدفها ومن ثم مكافحتها. وإذا تعرض الجسم لهذه الجراثيم المسببة للأمراض لاحقًا، يكون الجسم مستعدًا على الفور لتدميرها، والوقاية من المرض.
ولدى المجموعات المؤيدة للقاح رسالة بسيطة مفادها أن اللقاحات ناجحة وتنقذ الأرواح، فقط لرفع نسب التغطية بالتطعيمات. ولكن يجب أن يكون النهج مختلفًا تمامًا مع الأشخاص المترددين في أخذ اللقاح، بحيث يجب الاستماع إلى الأسئلة والاستفسارات والمخاوف والرد عليها بطريقة مقنعة.
ومن هذا المنطلق جمعنا أهم الأسئلة والمخاوف والإشاعات التي ترددها المجموعات المناهضة للتطعيم لنرد عليها.
الإشاعة الأولى:
اللقاحات تحتوي على مكونات سامة كالخلايا والمعادن والمواد الكيميائية.
الحقيقة: تظهر الأدلة العلمية أن مكونات اللقاح ليست ضارة بالإنسان أو الحيوان، باستثناء رد الفعل التحسسي النادر جدًا لبعض مكونات اللقاحات من الجيلاتين أو بروتينات البيض. وتسعى الشركات المُصَنِعة للقاحات إلى تكوين أقوى استجابة مناعية باستخدام أقل عدد من المستضدات وأقل كمية من المكونات الإضافية.
كما أن اللقاحات لا تحتوي على أنسجة الأجنة أو مانعات التجمد أو الأسمدة أو المبيدات الحشرية. ولا تحتوي على أي مكونات بكميات تبعث على القلق بشأن السمية العصبية أو المسرطنة.
الإشاعة الثانية:
تحتوي اللقاحات على الألمنيوم السام الذي ربما يسبب تلف العظام والمخ، وأمراض الزهايمر عند الكبر ومرض التوحد.
الحقيقة: الألمنيوم متوفر بكثرة في الطبيعة وفي مياهنا وطعامنا. ويتناول البالغون ما بين 7 و 9 مليغرامات من الألمنيوم يوميًا. والطفل الذي يرضع رضاعة طبيعية يتناول 7-10 مليغرامات من الألمنيوم من حليب الأم في الأشهر الستة الأولى من عمره.
أما الألمنيوم الموجود في اللقاحات فهو ليس عنصر الألمنيوم ولكن في شكل أملاح الألمنيوم (على سبيل المثال، هيدروكسيد الألمنيوم). ويستخدم كعامل مساعد على تعزيز الاستجابة المناعية في اللقاحات التي لا تحتوي على فيروس حي، ومن ثم يساعد على تقليل الكمية المحقونة من الميكروب وتقليل العدد الإجمالي لجرعات اللقاح اللازمة لإحداث المناعة. وتم اختبار سلامة الألمنيوم كمواد مساعدة على نطاق واسع لمدة 75 عامًا في الطعوم، ووجد أنها آمنة.
الإشاعة الثالثة:
تحتوي اللقاحات على زئبق سام (مادة الثيميرسال) ضار بالبشر وربما يسبب مرض التوحد.
الحقيقة: مادة الثيميرسال هي مادة حافظة من مشتقات الزئبق وتستخدم في اللقاحات متعددة الجرعات. وباتخاذ مبدأ الأمان، ومن أجل زيادة ثقة الجمهور في سلامة اللقاحات، قررت الجهات الصحية الأمريكية، ومراكز السيطرة على الأمراض CDC، والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، إزالة الثيميرسال من جميع لقاحات الأطفال.
وبناءً عليه فقد تمت إزالة مادة الثيميرسال من جميع لقاحات الطفولة الروتينية في الولايات المتحدة منذ عام 2001 في ظل غياب البيانات التي تظهر الضرر تلافياً للهجوم، باستثناء لقاحات الأنفلونزا متعددة الجرعات، وهي غير موجودة في دول مجلس التعاون الخليجي.
الإشاعة الرابعة:
اللقاحات تحتوي على الفورمالدهايد السام الذي يسبب السرطان، فلماذا نحقنه في أطفالنا؟
الحقيقة: يعمل الفورمالدهايد على تثبيط السموم البكتيرية والفيروسات في بعض (وليس كل) اللقاحات. وأثناء عملية التصنيع يتم إزالة معظم الفورمالدهايد من اللقاح وتتبقى منه آثار بسيطة. وكمية الفورمالدهايد الموجودة في بعض اللقاحات صغيرة جدًا مقارنة بالتركيز الذي يحدث بشكل طبيعي في الجسم بحيث لا يشكل مصدر قلق.
لا يتراكم الفورمالدهايد في جسم الإنسان بعد التطعيم، حيث يختفي من العضلات في موقع الحقن في غضون 30 دقيقة، ولا يتبقى منه سوى أقل من 1٪ من المستوى الطبيعي الموجود في الجسم.
الإشاعة الخامسة:
أصبحت الأمراض التي يمكن منعها بالتطعيم خفيفة، ونحن لم نسمع عن أشخاص يموتون من الحصبة والنكاف مثلاً، لذا فلا داعي للتطعيم ضدها.
الحقيقة: ما زالت الأمراض التي يمكن منعها باللقاحات خطرة جدا ولا توجد لقاحات ضد الأمراض البسيطة. وكثيرا ما تقتل الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات الأطفال والبالغين الأصحاء.
في كثير من الحالات، يكون الطب الحديث عاجزًا عن مواجهة مرض يمكن الوقاية منه بالتطعيم، حيث يكون خارجا عن السيطرة ويسبب تدمير جسم الإنسان. وربما لا تحدث الوفاة دائما على الفور لكن في بعض الأحيان يبدو أن الطفل قد “تعافى” مثلاً من مرض الحصبة، ليصاب بأحد مضاعفاته بعد سنوات. فقد يحدث التهاب الدماغ تحت الحاد (SSPE) بسبب فيروس الحصبة الذي يختبئ في الأنسجة العصبية، وهو مرض لا علاج له. وقد يتسبب الفيروس بعد ذلك في حدوث التهاب دماغي لا رجعة فيه ربما يؤدي إلى الوفاة بعد فترة قد تصل إلى عشر سنوات بعد المرض الأولي.
وهناك حقيقة يجب ألا نهملها وهي أنه عندما تنخفض معدلات التطعيم ترتفع معدلات المرض. وعلى سبيل المثال، وصل السعال الديكي إلى مستوى منخفض بلغ 1010 حالات و 7 وفيات في عام 1976 في أمريكا، ولكن عندما بدأ المناهضون للقاحات في تشويه سمعة لقاح السعال الديكي، ارتفع معدل الإصابة بالسعال الديكي ليصل إلى عشرات الآلاف من الحالات سنويًا.
الإشاعة السادسة:
تحتوي اللقاحات على أنسجة جنينية بشرية مجهضة تشمل خلايا ثنائية الصيغة الصبغية البشرية أو “مزارع رئة جنينية بشرية”، كما أن حقن الحمض النووي البشري من أنسجة الجنين المجهض يسبب أمراض المناعة الذاتية.
الحقيقة: لا تُصنع اللقاحات من – ولا تحتوي على – أنسجة جنينية بشرية أو خلايا جنينية أو حتى خيوط الحمض النووي البشري DNA.
وعندما يتحدث الناس عن أنسجة جنينية موجودة في مكونات اللقاح، فهذا يعني أن هناك طبقات من الجلد أو خلايا عضلية يتم حقنها في الأشخاص. ولكن في الواقع، كل البقايا الموجودة في اللقاح هي أجزاء من جزيئات الحمض النووي، إن وجدت.
وتتخذ معظم الأديان السماوية موقفًا مفاده أن هناك “التزامًا أخلاقيًا” لحماية الناس من الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات. وتدعم الأديان السماوية وتعزز مبدأ التحصين ضد الأمراض المعدية لما فيه من وقاية للبشرية وحماية لها. ولا تساهم اللقاحات بشكل مباشر في ممارسة الإجهاض. لكن في الواقع، تمنع اللقاحات الآلاف من حالات الإجهاض كل عام لاسيما المرتبطة بعدوى فيروس الحصبة الألمانية.
الإشاعة السابعة:
مناعة القطيع ليست ظاهرة حقيقية، ولا يشكل الطفل غير المحصن أي خطر على الطفل الذي تم تطعيمه.
الحقيقة: عندما يكون عدد كبير من السكان محصنين ضد مرض معدٍ ما – عادة عن طريق التطعيم- فإن ذلك يقلل من انتقال هذا المرض. وتتمتع معظم اللقاحات بمعدل نجاح مرتفع جدًا في منح المناعة، وهو ما يُعرف باسم الفعالية.
أما مناعة القطيع – المعروفة أيضًا باسم مناعة المجتمع – فهي قدرة السكان الذين تلقحوا على حماية الصغار جدًا أو الذين يعانون من ضعف المناعة بحيث لا يتم تطعيمهم. وفعالية اللقاح العالية ومعدل التطعيم المرتفع تساوي مناعة القطيع. وتحمي مناعة القطيع على مستوى المجموعة. وللحصول على أفضل ضمان للحماية، يجب أن يتم تطعيم كل فرد.
والتوسع في برامج تطعيم الأطفال له تأثير إيجابي حتى على البالغين. بعد إدخال لقاحات الطفولة ضد فيروس الكبد الوبائي والفيروس العجلي Rota والمكورات الرئويةPneumococcal، انخفض معدل الإصابة بتلك الأمراض لدى الأطفال كما انخفض معدل الإصابة بها لدى البالغين.
ويعتبر تفشي المرض مقلقا بشكل خاص للفئات التي لا يمكن تطعيمها كالأطفال الذين هم دون سن التطعيم للقاح ما، وكذلك مرضى نقص المناعة. ونظرًا لعدم وجود لقاح فعال بنسبة 100٪، فإنه حتى الأشخاص الذين تلقحوا يعتمدون على مناعة القطيع لتقليل انتشار المرض.
الإشاعة الثامنة:
للمرة الأولى في تاريخ التطعيم، يتدخل ما يسمى بلقاحات الجيل الأخير من RNA مباشرة في المادة الوراثية للمريض، وبالتالي يغير المادة الوراثية للشخص، بما يسمى التلاعب الجيني.
الحقيقة: ينزعج الكثير من الناس عندما يسمعون لفظ “المادة الوراثية أو الجينات” وهذا شيء طبيعي. لكن الحقيقة أن الحمض النووي الريبي يتفكك بسرعة كبيرة في الخلية، ويستمر فيها لمدة 72 ساعة تقريبًا، كما أنه لا يدخل نواة الخلية البشرية إطلاقاً حيث توجد الكروموسومات، ومن ثم ليس هناك أي فرصة لتغيير الجينات.
الإشاعة التاسعة:
كيف لهذه التقنيات الحديثة ( مثل تقنية mRNA) التي لم يمر عليها سوى شهور فقط أن ترى النور، ونحن نعلم أن اللقاح يستغرق سنوات وسنوات لتصنيعه، هل هو سلق بيض؟
الحقيقة: لم يبدأ العلماء بإعداد هذه التقنية بعد اكتشاف فيروس كورونا المستجد في نهاية 2019، بل تم البدء في تجارب اللقاح منذ عام 2002. وركز العلماء على بروتين البروز السطحي أو ما يسمى spike protein في الفيروس التاجي الجديد. وعرفوا منذ أكثر من عشر سنوات التعديلات الجينية التي من شأنها أن تثبِّت البروز في تكوين “التشكيل الأولي” – وهو أمر مهم لاستجابة قوية وآمنة للجسم المضاد – وتلك التي من شأنها أن تجعل mRNA أقل آثارا جانبية ومن ثم أكثر أمانًا. كما عرفوا كيفية تنقية mRNA لتخليصه من الملوثات وكيفية حمايته من التدهور السريع جدًا في الجسم عن طريق تغليفه بجزيئات حاملة للدهون، وهي التي تعتبر مركبات توصيل تساعد mRNA على عبور غشاء الخلية ولها أيضاً تأثير مساعد محفز للمناعة.
هذه الابتكارات لم يكن بالإمكان أن يتم اكتشافها خلال شهور لكنها كانت خلاصة عمل مضن على مدى السنوات العشر الماضية، حيث تغير علم اللقاحات خلال تلك الفترة بشكل جذري.
الإشاعة العاشرة:
لا يستغرق إنتاج لقاحات mRNA وقتاً في تصنيعها مما يثير الشكوك كونها لا تخضع لتجارب مكثفة.
الحقيقة: على عكس اللقاحات التقليدية، لا تتم زراعة لقاحات mRNA في البيض أو في خلايا حيوانات حية، وهي عملية تستغرق وقتًا طويلاً ومكلفة. أما هذه اللقاحات فهي مجرد مواد كيميائية يتم تحفيزها في أنابيب الاختبار أو في خزانات، مما يجعلها تنمو بسرعة على نطاق واسع.
الأكذوبة الحادية عشرة:
بعض التطعيمات تسبب التوحد.
الحقيقة: اللقاحات لا تسبب التوحد، ولا تسبب اضطرابات تؤدي بعد ذلك إلى التوحد. وخلصت أكثر من مئة دراسة إلى عدم وجود دليل على أي صلة بين اللقاحات والتوحد.
الإشاعة الثانية عشرة:
الأطفال يتلقون الكثير من اللقاحات في وقت مبكر جدًا، وهي تؤثر في جهاز المناعة غير الناضج أو تولد استجابة مناعية ذاتية مسببة للتوحد.
الحقيقة: هذه الفرضية خاطئة لعدة أسباب؛ فاللقاحات لا تسبب إرهاقا لجهاز المناعة، والتطعيمات المتعددة لا تضعفه، ومن ثم لا يختلف الأطفال الملقحون وغير الملقحين في قابليتهم للإصابة بعدوى بأمراض لا تمنعها اللقاحات. كما أن التوحد ليس مرضا مناعيا، ومن ثم فإن التكهنات بأن الاستجابة المناعية المبالغ فيها أو غير المناسبة للتلقيح تؤدي إلى حدوث التوحد تتعارض مع البيانات العلمية الحالية التي تعالج التسبب في مرض التوحد.