- اللقاحات القابلة للأكل تعد بديلا مناسبا للحصول على لقاحات آمنة وفعالة، وهي لقاحات تحتوي على مولد ضد صالح للتناول
- دول عدة تراهن على الطحالب الدقيقة المعدلة وراثيًا لتطوير لقاح لمرض كوفيد-19 صالح للأكل مستخدمة الهندسة الوراثية
د. طارق قابيل
أستاذ في كلية العلوم – جامعة القاهرة (مصر)
منذ استشراء جائحة فيروس كورونا المستجد المسبب لجائحة كوفيد-19، هرعت كثير من المؤسسات الطبية وحكومات بعض الدول إلى تكثيف البحوث ودعم الدراسات الهادفة إلى تطوير لقاحات للوقاية من المرض بعد أن أثر الوباء في جميع مجالات الحياة، وضرب اقتصادات الدول وحركة التجارة العالمية.
وتشهد حركة إنتاج لقاحات فعالة وآمنة تسارعا كبيرا تستثمر فيها الشركات العالمية بلايين الدولارات وتستخدم أحدث التقنيات، في حين أدرجت منظمة الصحة العالمية أكثر من 130 لقاحا مرشحا، وقسّمتها إلى مجموعتين تضم الأولى 17 لقاحاً مرشحاً في مرحلة التقييم السريري (الإكلينيكي) في مقدمتها اللقاح الذي تعكف جامعة أكسفورد على تطويره. أما المجموعة الثانية فتضم 132 لقاحاً مرشحاً في مرحلة التقييم قبل السريري. وعلى الرغم من أن بعض اللقاحات التجريبية أظهرت نتائج إيجابية، فإن شركات الأدوية لاحظت بعض المخاطر المرتبطة بها والآثار الجانبية التي تسببها، والتي تشمل بعض الآلالم والتعب وحمى خطيرة.
وفي محاولة لإحراز قصب السبق، تحاول العديد من الشركات استخدام طرائق حديثة جدا لإنتاج لقاحات قابلة للأكل أو لقاحات صالحة للتناول Edible Vaccines. وهي لقاحات واعدة إذا أثبتت فعاليتها. فهل ستفوق فوائد هذه اللقاحات –التي تعد إجراءً وقائيًا قد ينهي هذا الوباء – خطر الأوجاع والآلام وربما حتى الحمى السيئة؟
أسلحة فعالة ضد الأمراض المعدية
تعد اللقاحات من بين أكثر الأسلحة فعالية ضد الأمراض المعدية، وتمنع ما يصل إلى ثلاثة ملايين حالة وفاة سنويًا. واللقاحات هي عضيات ميتة أو مضعفة، أو منتجات منتقاة مشتقة منها، تقدم المناعة الفاعلة المكتسبة تجاه مرض معين. وعادة ما يحوي اللقاح وسيطا يشبه الكائن الحي الدقيق المسبب للمرض، ويصنع غالبا من أشكال مضعفة أو مقتولة منه أو من سمومه، أو أحد بروتيناته السطحية. يحرض هذا الوسيط الجهاز المناعي للجسم ليتعرف على الجرثومة المهددة له ويدمرها، ويستطيع الجهاز المناعي التعرف عليه ويحطمه بسهولة إذا هاجمه أي من هذه العضويات مرة أخرى.
واللقاحات مسؤولة بشكل كبير عن الاستئصال العالمي لمرض الجدري، والحد من أمراض أخرى كشلل الأطفال، والحصبة في معظم مناطق العالم. وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن اللقاحات المرخصة حالياً متاحة للوقاية أو للمساهمة في الوقاية وضبط 25 مرضا معديا.
وقد تكون اللقاحات وقائية، أو علاجية، لكن القليل منها فعال بنسبة 100%. فعلى سبيل المثال يعاني نحو 3% من الأشخاص الذين يحصلون على لقاح الحصبة بشكل خفيف من أعراض المرض، وربما ينقلونه إلى الآخرين. كما أن هناك لقاحا للحصبة والسعال الديكي لكنه لم يثبت فعالية بنسبة 100%.
مصانع صيدلانية حية
تعد اللقاحات القابلة للأكل أو الصالحة للتناول بديلا مناسبا للحصول على لقاحات آمنة وفعالة، وهي لقاحات تحتوي على مولد ضد صالح للتناول، وتنشط جهاز المناعة عن طريق الأنسجة الليمفاوية المرتبطة بالأحشاء. ويفضل استخدامها في المناطق التي تفتقر إلى البنية التحتية التكنولوجية اللازمة للمحافظة على الطعوم. ويتم تخليق اللقاح داخل الجسم بالنسبة للأجزاء الصالحة للأكل من النباتات القابلة للتحول الوراثي (مثل الحبوب، الدرنات، والثمار، أو البيض).
تعتمد هذه التقنية على أساليب الهندسة الوراثية. وبالفعل أصبح بالإمكان هندسة النباتات وراثيًّا لتعطي لقاحًا لمقاومة بعض الأمراض المعدية، ولتكون خطًّا مناعيًّا ودفاعيًّا للبعض الآخر. ولقد تمكن الباحثون من تحوير نباتات البطاطس والبرسيم والطماطم والموز فأصبحت “مصانع صيدلانية حية” قادرة على إنتاج لقاحات وأمصال لأمراض مميتة.
وهذه النباتات العالية القدرة التي تتضمن أطعمة مثل الموز والبطاطا والطماطم، وكذلك الخس والأرز والقمح وفول الصويا والذرة، التي يمكن تناولها بديلا عن اللقاحات التقليدية التي تعطى بالحقن، ربما تنقذ بلايين الأرواح بشكل خاص في الدول التي تفتقر إلى الكثير من الأمصال والطعوم الطبية وتعاني من تفشي الكثير من الأمراض المعدية لندرة الرعاية الصحية أو انعدامها.
بدأت هذه التقنية في أوائل التسعينات من القرن العشرين، بعد أن توصل تشارلز أرنتسين من جامعة تكساس “إيه آند إم” الأمريكية إلى طريقة حلت العديد من المشكلات التي تعيق وصول اللقاحات إلى العديد من الأطفال في البلدان النامية، معتمدا على طرائق ابتكرها علماء النبات لإدخال جينات منتقاة في النباتات، وحثّ هذه النباتات المعدّلة جينيّا على صنع البروتينات المطلوبة.
سعى العلماء إلى اكتشاف الجينات المسؤولة عن تكوين البروتينات (المستضدات التي تهاجمها الأضداد التي يصنعها الجهاز المناعي) في ميكروبٍ معينٍ، ودمجوها مع المادة الوراثية لنباتٍ ما مثل البطاطا، فكانت النتيجة قيام النبات بإنتاج هذه البروتينات في خلاياه. وبتناول هذا النبات يتعرف الجسم على هذا البروتين (المستضد) ويكوِّن أضدادًا له؛ فيكون الجسم قد كوَّن مناعةً ضد الميكروب الذي كان هذا البروتين جزءًا منه في الأصل. ونجح العديد من العلماء بعد ذلك في هندسة الأغذية وراثيّا (جينيّا)، بحيث تنتج لقاحات في أجزائها الصالحة للأكل التي يمكن أن تؤكل عندما يتطلب الأمر إعطاء لقاحات للبشر.
بحلول عام 1995، أثبت الباحثون أن النباتات يمكنها حقًا صنع مستضدات غريبة عنها، ونجح أرنتسين وزملاؤه في إيلاج الجين المشفر لبروتين مشتق من فيروس التهاب الكبد “بي” في نبات التبغ. ونجح المستضد الناتج في الفئران، حيث نشَّط نفس مكونات نظام المناعة التي تُنشَّط بواسطة الفيروس نفسه.
حصل أرنتسين ومعاونوه على نتائج مطمئنة في أول تجربة سريرية على البشر. وفي عام 1997 أظهر المتطوعون الذين أكلوا قطعة من البطاطا الخام مقشرة تحتوي على اللقاح كلا من الاستجابات المناعية المخاطية والجهازية. وبالمثل، بعد أن أطعمت هيلاري كوبروفسكي من جامعة توماس جيفرسون الخس المعدّل وراثيًا الذي يحمل مستضد التهاب الكبد البائي إلى ثلاثة متطوعين، أظهر اثنان منهم استجابة جهازية جيدة.
لقاحات لمرض كوفيد-19
تراهن دول عدة على الطحالب الدقيقة المعدلة وراثيًا لتطوير لقاح لمرض كوفيد-19 صالح للأكل، ويستخدم علماؤها أدوات الهندسة الوراثية لتطوير اللقاح. وتستخدم معظم هذه البحوث طحالب صغيرة أحادية الخلية وحقيقية النواة مثل طحلب “كلاميدوموناس ريينهاردتي” Chlamydomonas reinhardtii، كنموذج للبحث وإنتاج الأدوية واللقاحات الصالحة للأكل، مع نتائج ملحوظة حتى الآن. وبموجب هذا النهج، نُفذت سلسلة من التطورات التجريبية في اللقاحات الفموية ضد مسببات الأمراض مثل التهاب الكبد “بي”، الملاريا وفيروس الورم الحليمي البشري، وحمى الخنازير الكلاسيكية، والمكورات العنقودية الذهبية، مع بعض التجارب ما قبل السريرية الناجحة.
ويأتي العمل الأول لتطوير لقاح قابل للأكل من الطحالب من إيطاليا، ويتم تنفيذ البحث من قبل مختبر البناء الضوئي والطاقة الحيوية في قسم التكنولوجيا الحيوية بجامعة فيرونا، حيث طبق الفريق البحثي طريقتين لإدخال تسلسل الحمض النووي الذي يشفر لمستضد مشتق من فيروس كورونا المستجد في جينوم الطحالب الدقيقة.
من أهم مزايا الطحالب أنها تنمو وتتكاثر بسرعة كبيرة، وربما تنتج حتى 1 ملغ من المستضد لكل غرام من الكتلة الحيوية من الطحالب المجففة، ومن ثم يمكن تغليف الطحالب المجففة لتوليد “لقاح فموي” يحمي جدار الخلية الطحلبية المستضدات من بيئة المعدة الحمضية القاسية، مما يمكّن الجزيء النشط بيولوجيًا من الوصول إلى جهاز المناعة المعوي حيث يمكنه تحفيز الاستجابات الخلوية على أمل أن يؤدي إلى التحصين الفعال.
وفي الوقت نفسه، شرعت شركة “ترانس ألجي” (TransAlgae)، في تطبيق التكنولوجيا نفسها في إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا عبر زرع الطحالب في مخمرات أو مفاعلات ضوئية تزيد من معدل الإنتاج 30 مرة، مع إمكانية التحكم في جميع المدخلات بطريقة دقيقة.
وأعلنت روسيا أن علماءها يصنعون لقاحا غير عادي مضادا لـ “كوفيد-19” شكله شبيه باللبن الرائب، وذلك من تركيب ميكروبات-بروبيوتيك على زغب سطح البروتين “إس” الذي يعتبر الجزيء الأساسي الذي يستخدمه فيروس كورونا المستجد للدخول إلى الخلايا.
تحديات مستقبلية
إضافة إلى قدرة اللقاحات القابلة للأكل على تنشيط المناعة الجهازية (المجموعية)، فإنها أثبتت قدرتها على تنشيط مناعة الأغشية المخاطية التي تعتبر خط الدفاع الأول للجسم ضد الميكروبات (التي تدخل عن طريق الفم والأنف والأعضاء التناسلية)، وذلك بخلاف اللقاحات التقليدية التي تُعطى عن طريق الحقن ولا تمتلك هذه الخاصية.
وللقاحات القابلة للأكل مستقبل واعد؛ فهي اقتصادية بخلاف اللقاحات التقليدية التي تحتاج إلى معدات وتقنيات باهظة الكلفة في كل دورة إنتاج لها. وبمجرد إنتاج النباتات المعدلة وراثيًا فإن البذور الناتجة عنها تكفي لإنتاج اللقاحات مجددًا محليًا دون الحاجة إلى تكاليف النقل والتخزين العالية، كما تمتاز بسهولة التناول والتخزين، ومن ثم يسهل إيصالها للبلدان الفقيرة.
وأثبتت الدراسات التي تمت على اللقاحات القابلة للأكل صحة الفكرة من حيث المبدأ، لكن لايزال هناك تحديات يسعى العلماء إلى حلها، مثل قلة كمية اللقاحات الموجودة في الجزء القابل للأكل من النبات، ووضع طريقة لحساب الجرعة التي يجب أن يتناولها الشخص حتى تتشكل لديه المناعة المطلوبة ضد العامل الممرض. ولم تُظهرِ هذه اللقاحات حتى الآن أي آثار جانبية ملحوظة، عدا احتمال نشوء تفاعلات تحسسية ناتجة عن استعمالها، لكنها أقل من تلك الموجودة عند استخدام اللقاحات التقليدية.
وقبل دخول الأسواق العالمية سيواجه اللقاح الفموي القائم على الطحالب عقبات تنظيمية، لكن بالنظر إلى الضرورة الملحة التي يمليها الوضع الحالي، فمن الأهمية بمكان تطوير التقنيات التي توفر إنتاجًا سريعًا للقاحات والمستحضرات الصيدلانية البيولوجية الآمنة، لاسيما في المناطق التي لديها وصول محدود إلى البنية التحتية الطبية.
إن المعالجة الوراثية متعددة الاستخدامات وسرعة التكاثر والحد الأدنى من الموارد اللازمة لنمو الطحالب تجعلها بديلاً قابلاً للتطبيق ومستدامًا ومرشحة للحلول الطبية والبيئية التي تشتد الحاجة إليها في جميع أنحاء العالم.