القدوة في أبحاث الأمراض الوراثية
الدكتور فوزان بن سامي الكريع، الحائز جائزة الكويت للعلوم الأساسية للعام 2022، من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وفريقه في قسم علم الجينوم التطبيقي بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، تدور أبحاثهم عند الحدود المتقدمة لعلم الوراثة، ويسعون إلى كشف العلاقة المُعقَّدة بين الجينات والحالة الصحية، وينصب اهتمامهم الأساسي على دراسة الأمراض الوراثية أحادية المنشأ.
على العكس من الأمراض الأكثر شيوعاً، مثل: داء السكري، وارتفاع ضغط الدم، والتي تنتج عن العديد من الجينات والعوامل البيئية المتباينة، يمكن إرجاع الأمراض الوراثية أحادية المنشأ (وتسمى أيضاً المندلية) إلى جين واحد، وهذا من شأنه – من الناحية النظرية – أن يجعل هذه الأمراض أسهل للدراسة، لكن الكريع يقول: «إننا لا نعرف سوى أقل من 5,000 جين مسبب لهذه الأمراض؛ لذلك من المحتمل أن تكون هناك عدة آلاف من الجينات الأخرى التي ينبغي اكتشافها، بالنظر إلى أن البشر لديهم نحو 20,000 جين».
وتحت قيادته، تمكن مختبر الكريع من تحديد أكثر من 400 جين جديد من الجينات المؤدية إلى نشوء «مرض مندلي»، ونشروا هذه النتائج في أكثر من 500 ورقة بحثية.
وأشار الكريع إلى أن التركيبة السكانية في الشرق الأوسط مثالية للبحث في الأمراض المندلية؛ وذلك بسبب المستويات العالية من قرابة الدم (زواج الأقرباء)؛ فهناك كثير من التجانس – وليس التنوع – في خريطة الجينوم. وبذا، يسمح «التماثل الزيغوتي» Homozygosity الناتج لبعض التنويعات (المتحورات) Variants التي نادراً ما تُوجَد في أي مكان آخر في العالم – بالوجود في وضعية فريدة.
من جانب آخر، ونظراً إلى هذه الوضعية الفريدة للخريطة الجينية، يَصعُب التشخيص باستخدام الاختبارات التجارية التي طورتها المختبرات في بقية أنحاء العالم؛ لأنها قد لا تكون محيطة بالضرورة بالتنويعاتِ الجينية المحلية.
لذا، ومن منطلق توفير الخدمات الضرورية للمرضى المحليين، ركز الكريع على مشروعات الجينوم التطبيقية لتحقيق اكتشافات رائدة لمصلحة سكان المملكة العربية السعودية وبقية البشرية.
يهدف علم الوراثة التطبيقي إلى تحسين صحة الإنسان، بالاستفادة من المعرفة المُتولِّدة من أبحاث علم الوراثة؛ إذ يقول الدكتور جيمس لوبسكي، أستاذ علم الوراثة البشرية في كلية بايلور للطب، وزميل الكريع منذ فترة طويلة، إنه من خلال الجمع بين اهتمامه الشديد بالبيولوجيا التطورية، والبيولوجيا الجزيئية، وعلم الوراثة، إضافة إلى تدريبه الإكلينيكي في علم الوراثة، وشروعه في علم الجينوميات، لم يبنِ الدكتور الكريع مختبر أبحاثه فقط، بل وضع أيضاً الأساس لبرنامج شامل في علم الوراثة؛ لتحقيق فائدة عالمية.
ويرغب الكريع في استثمار قدرات أحدث تقنيات الجينوم، خاصة في ضوء تكلفتها المتناقصة باستمرار، وتكريس ذلك لمصلحة سكان منطقة الشرق الأوسط ككل. ولهذا السبب، وبعد استكمال دراسته العليا في مجال الطب بجامعة هارفارد، وعلى الرغم من الفرص والموارد المتاحة في الولايات المتحدة، اختار العودة إلى وطنه؛ إذ كان مدفوعاً برؤية تسعى إلى تكريس معايير البحث العلمي والارتقاء به. يقول الكريع: «من المؤكد أنه من الأسهل العمل ضمن منظومة راسخة؛ حيث تجري الأمور بسلاسة فيما يتعلق بالبحث العلمي، ولكن إذا قال الجميع إن البيئة المحلية ليست في الوضع المثالي لإجراء الأبحاث، فمن الذي سيغير هذا الوضع؟ على المستوى العالمي، صار يُنظَر – بشكل متزايد – إلى البحث العلمي باعتباره جهداً تعاونياً». ولكن عندما عاد الكريع إلى المملكة العربية السعودية، في العام 2007، كانت العديد من المؤسسات الأكاديمية في الشرق الأوسط لاتزال تتمسك بممارسات تقليدية تشجع الأبحاث الفردية. وهكذا بدأ في تصحيح المسار على الفور.
ويرى الكريع أن هذا الجهد الذي يبذله سيُيسر الأمور على الجيل القادم من العلماء لإجراء الأبحاث هنا. لقد كان له دور فعال في إرساء مبدأ الجدارة في البحث العلمي؛ لتمكين الأبحاث العلمية التنافسية عالية الجودة من الازدهار في المنطقة. يقول إنه يبذل كثيراً من الجهد الإضافي؛ لأنه أراد أن يكون مشروعه قصة نجاح قادمة من هذا الجزء من العالم، وليست قصة نجاح أخرى قادمة من الولايات المتحدة.
وتحقيقاً لهذه الغاية، فإن أبوابه مشرّعة على مصاريعها لكل شغوف بالتعلم والتعاون معه. تقول لمى العبدي، الباحثة في مختبر الكريع، إنه «سواء كان طالب ماجستير، أو دكتوراه، أو أي شخص مهتم بالبحث، فإن الكريع يعمل معهم بلا كلل على تحقيق أفكارهم حتى ترى النور؛ ليستفيد منها المجتمع العلمي».
إن الكريع هو مصدر إلهام للجيل القادم من الباحثين، كما تعتقد مي الراشد (التي كانت طالبة دكتوراه تحت إشراف الكريع، في العام 2009، بعد وقت قصير من عودته إلى المملكة العربية السعودية) أن اكتشافاته الجديدة في مجال الأمراض، ومساهماته في الحد منها ملهمةٌ حقاً.
لقد كان الكريع – أيضاً – حريصاً على الجمع بين الأبحاث والممارسة الإكلينيكية، بهدف إفادة المرضى وعائلاتهم، سواء أولئك المشاركون في الأبحاث، أو أولئك الذين يتلقون العلاج الطبي؛ إذ يقضي نصف يوم في الأسبوع في الاضطلاع بالأعمال الإكلينيكية. يقول إنه في حين أن تحقيق الاكتشافات، ونشر نتائج الأبحاث أمران يبعثان على الرضى، فإن العمل المباشر مع المرضى وعائلاتهم، والتواصل معهم، هما كذلك أيضا. تذكره هذه اللقاءات – باستمرار – بالهدف الأسمى لعمله. إنهم يمدونه بالطاقة للاستمرار. لقد احتفظ بسجلات للمرضى منذ العام 2007، ومع كل اكتشاف جديد ينظر فيما إذا كان أيٌّ من هؤلاء المرضى سيستفيد من هذا الاكتشاف الجديد.
أُغرم الكريع بعلم الوراثة عندما كان طالباً، حينها اعتقد معظم زملائه أن ولعه في غير محله؛ لأن ذلك كان في تسعينات القرن العشرين، ولم تكن نتائج مشروع الجينوم البشري قد ظهرت بعد، ومع ذلك فإن شغفه بعلم الوراثة قاده إلى مساعدة الملايين من الناس على عيش حياة أفضل. ومن خلال نهجه المتفائل الذي لا هوادة فيه – متطلعاً دائماً إلى الأمام – فهو بلا شك سيؤثر في حياة الكثيرين في العقود المقبلة.
بقلم: شويتا