د. نادية رتيب
الذاكرة هي ذلك الجزء من الدماغ البشري الذي تتجمع فيه المعلومات التي نكتسبها خلال حياتنا، وهي سجل مفصل بالمعلومات التي نكتسبها عن طريق الحواس، وهي أيضاً مكان معالجة المعلومات وتنسيقها وتحويلها إلى أنماط يمكن تمييزها وإدراكها، ومن ثم فهمها، وهي التي تساعدنا على تفسير الأشياء وتصنيفها، كما أنها مكان التحكم في هذه المعلومات وضبطها وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهي المكان الذي نحل فيه مشكلاتنا ونتخذ فيه قراراتنا ونوجه فيه سلوكنا، فالذاكرة تتضمن جميع خبراتنا التي اختبرناها في حياتنا. إنها وعينا بالحاضر وتذكرنا لخبرات الماضي.
والذاكرة نشاط عقلي معرفي يعكس القدرة على ترميز وتخزين وتجهيز أو معالجة البيانات المستدخلة أو المنتجة واسترجاعها. وهي الوسيلة التي من خلالها نطل على الخبرات الماضية من أجل استخدام هذه الخبرات في الوقت الراهن. وهي تشير إلى آليات استبقاء واسترجاع المعلومات الخاصة بما اكتسبناه خلال التعلم، ثم في مرحلة تالية استرجاعه أو إعادة إنتاجه للاستفادة من ذلك في مواقف مختلفة من الحياة اليومية.
قوانين الذاكرة
ثمة قوانين عدة للذاكرة منها (قانون أهمية المعلومات)؛ إذ إنه كلما كانت المعلومات أكثر أهمية لنشاط الإنسان الحياتي تم حفظها بصورة أكثر رسوخاً وسهل استرجاعها. وهناك (قانون النشاط) الذي يرتبط بقانون أهمية المعلومات بصورة وثيقة؛ فكلما زادت نسبة المعلومات التي يستخدمها الإنسان في نشاطه اليومي زاد رسوخها في الذاكرة. ويعتبر هذان القانونان أساسيين لعمل الذاكرة. وهناك قانون (الفهم «الإدراك»)؛ فكلما كان الفهم عميقاً للمعلومات المراد حفظها كان تخزينها في الذاكرة أفضل، واستخدام هذا القانون يعني تقريب عملية الحفظ إلى عملية التفكير قدر الإمكان. وهناك أيضاً (قانون الاهتمام «الإثارة»)؛ فالمعلومات التي تثير الاهتمام تكون سهلة الحفظ. ومن القوانين أيضاً (قانون حجم المعلومات)؛ فكلما كان حجم المعلومات في موضوع محدد أكبر كانت عملية حفظ الجديد فيها أفضل. وهناك (قانون تقوية الانطباع الأول)؛ فكلما كان الانطباع الأول عن المعلومات المراد حفظها أقوى وكلما زاد عدد قنوات تقبلها كانت عملية حفظها أكثر رسوخاً، ومن قوانين الذاكرة أيضاً (قانون الفرملة التراجعية)؛ فكل عملية حفظ (أو انطباع) تالية تخمد العملية السابقة، وأخيراً (قانون الفرملة التقدمية)؛ فالمعلومات التي تم حفظها سابقاً تخمد التي تحفظ بعدها. ويعني استخدام القانونين الأخيرين القيام بالتنظيم العقلاني لترتيب عمليات الحفظ وتعلم كيفية زيادة مدة عمل الذاكرة القصيرة المدى.
أنماط الذاكرة
تحدث العلماء عن ثلاثة أنماط للذاكرة تمثل ثلاثة نظم في تخزين المعلومات. وهذه الأنماط هي: الذاكرة الحسية، والذاكرة القصيرة، والذاكرة الطويلة.
الذاكرة الحسية: يقوم العالم من حولنا بتزويدنا بآلاف المثيرات الصوتية والبصرية والشمية والذوقية التي تدخل الحواس والتي تقوم بدورها بنقل هذه المعلومات إلى المرحلة التالية من التخزين وهي الذاكرة القصيرة. لكن بحكم الانتباه، فإن بعض هذه المعلومات يصل فقط إلى الذاكرة القصيرة في حين يتم نسيان بقية المعلومات التي لا نركز انتباهنا عليها.
إن مدة بقاء المعلومات الواردة للحواس تراوح عادة بين 0.1 و0.5 من الثانية. وسرعة استقبال الحواس للمعلومات تؤدي إلى استمرارية الصورة التي تتكون عن العالم الخارجي بما فيه من مثيرات، إذ تبين أن الموضوع المتحرك في العادة يمر أمام نظر الفرد نحو عشرين مرة في مدة خمس ثوان، أو أربع مرات كل ثانية واحدة. والأثر المرئي الذي يتركه هذا الموضوع يبقى في الذاكرة الحسية لفترة تقدر بـ 0.25 من الثانية. ويستغرق الفرد في استخلاص معنى المعلومات التي تستقبلها الحواس من المثيرات الخارجية فترة زمنية أطول من الفترة الزمنية التي يستغرقها ظهور المثير المرئي أمام الفرد.
الذاكرة القصيرة المدى: ثمة تكوين فرضي يطلق عليه الذاكرة القصيرة المدى يتوسط بين المستقبلات والمستودع الموسع للمعلومات والمعارف (الذاكرة الطويلة المدى)، وهذه الذاكرة ذات سعة محدودة، لكنها ذات أهمية كبيرة، وهي أكثر وضوحاً من أي جهاز آخر للذاكرة نبدأ فيه بمعالجة المنبهات الناشئة من البيئة، وتتناسب سعتها التخزينية الضئيلة مع وسعها المحدود على إجراء المعالجة. إن الذاكرة القصيرة المدى تستخدم كمستودع مؤقت يمكن أن يحتفظ بمقدار محدود من المعلومات، ويمكن أن يحول المعلومات ويستخدمها في إنتاج استجابات. وهذه الذاكرة هي ببساطة ديمومة النشاط العصبي في الدارات العاكسة المنطلقة من الأصوات أو الصور أو الأفكار، فهذا النمط الديناميكي، أي الفعال للذاكرة، يمكن أن يكون قائماً على دارة حلقية من العصبونات بحيث يبقى مصوناً بصورة تلقائية، وتقوم الآثار الديناميكية المنعكسة بدور المفكرة الدماغية فتعزل، في برهة معينة من التسرب المستمر للحاضر، الزمن الضروري فقط لاستعمال ما أو آخر.
يختلف نظام الذاكرة القصيرة المدى عن نظام تخزين المعلومات الحسي، إذ لا يتمكن الفرد في هذا النظام من إدراك الصورة الكاملة للأحداث أو للمثيرات التي تأخذ مكانها على المستوى الحسي، مما يجعل دور نظام الذاكرة القصيرة المدى يتحدد في التفسير أو الإدراك الفوري للأحداث التي يستقبلها الجهاز الحسي.
الذاكرة الطويلة المدى: هي ذلك الجزء الذي ينقل إليه المعلومات من الذاكرة القصيرة المدى، وتخزن على شكل أنماط يمكن تفسيرها وإعطاؤها معنى ويقوم بتحليل وتفسير المعلومات، وإدراك العلاقات التي تربط بينها وتنظيمها، وإعادة تنظيمها، والاحتفاظ بها لأطول فترة ممكنة، حيث تنتقل الشفرات من الذاكرة القصيرة المدى إلى الذاكرة الطويلة المدى. والعملية التي تسمح بانتقال الشفرات المعرفية بين المخزنين هي التسميع الذي يبدو له وظيفتان هما: الأولى هي تسميع محافظ نحافظ بها على حيوية الشفرات المعرفية في الذاكرة القصيرة المدى من خلال الترديد الذاتي للمعلومات. والوظيفة الثانية هي تسميع تفصيلي، وهو ممارسات تسمح بانتقال الشفرات المعرفية من الذاكرة القصيرة المدى إلى الذاكرة الطويلة المدى عن طريق ربطها بالمعلومات الموجودة فيها. وقد يرجع الفشل في استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة المدى إلى تداخل الشفرات المعرفية بعضها ببعض.
وتنقسم الذاكرة الطويلة المدى إلى نوعين هما: الذاكرة الضمنية، والذاكرة الصريحة. والأولى تتكون من الذاكرة الإجرائية، وذاكرة المهارات الحركية، والذاكرة الانفعالية.
أما الذاكرة الصريحة فهي تختص بتذكر الأسماء والحقائق والموسيقا والأشياء، وتعمل بواسطة المخيخ، وتنقسم إلى ذاكرة الأحداث وذاكرة المعاني.
نظرية المخططات
ترى هذه النظرية أن تنمية ما تم تخزينه في الذاكرة يتم عندما يحدث تفاعل بين ما تم تخزينه في الذاكرة من قبل وما يقرأ من معلومات جديدة، بشرط أن يرتبط ما سبق تخزينه بما تتم قراءته. وترى أن الفهم القرائي يعتمد على المعلومات المخزنة في الذاكرة والتي لا تخزن في صورة أجزاء منفصلة، بل في صورة متكاملة على صورة مخططات ليست ممتلئة، وأن الفرد عند قراءته لنص ما فإن المعلومات التي في النص تتفاعل مع المعلومات الموجودة في المخطط فيزداد المخطط امتلاء مما يؤدي إلى اكتساب القارىء مفاهيم جديدة، ومن ثم فإن الفرق بين الطفل والكبير والضعيف والجيد في القراءة والفهم يرجع إلى الفرق في كم ومحتوى المخططات التي لدى كل منهم؛ لأن هذه المخططات تساعد القارىء على تصنيف المعلومات التي يقرأها، وعلى بناء توقعات عن المعلومات الجديدة التي يمكن أن يجدها في النص. وهذه المخططات تمثل الحزم المتكاملة من المعرفة حول الأشياء والأحداث والناس والأفعال والمواقف، وهي تمتد من البسيط جداً إلى المعقد جداً، وتنتظم بشكل هرمي وتتسم بالدينامية في تفاعل بعضها مع بعض ومع ما هو موجود في النص.
وعندما يقرأ الشخص نصاً فإن ما يقرأه يؤدي إلى تنشيط المخططات المناسبة لما يقرأ، ومن ثم تنشيط المعلومات الموجودة في هذا المخطط المتعلقة بالموضوع، فتتفاعل المعلومات الجديدة والمعلومات المخزنة بالمخطط ليقوم القارىء خلالها ببناء توقعاته لما يقرأه. ومن خلال هذه العملية يتم إضافة ما توصل إليه من معلومات جديدة في الشقوق الفارغة في المخطط، وعند ذلك يكون الفرد قد اكتسب معنى ما يقرأه.