في جامعة الكويت، يحاول الأستاذ المساعد في علوم البحار وعلم المحيطات الفيزيائي الدكتور فهد السنافي فهم العمليات الفيزيائية التي تسهم في تشكل حركة المياه في الخليج العربي. وعن ذلك يقول: “إن كل ما يحدث في الخليج – من نفوق الأسماك وازدهار الطحالب Algal blooms، إلى حركة الملوثات أو المغذيات – مرتبط بالديناميات الفيزيائية لمياه الخليج”. كما يوفر التضافر بين المياه الضحلة في الخليج والصيف شديد الحرارة لعلماء المحيطات الفيزيائيين ’تجربة طبيعية’ فريدة يمكنهم من خلالها استكشاف هذه الديناميات.
بدأ السنافي مسيرته المهنية في مختبر الدكتور أيال أنيس Ayal Anis بجامعة تكساس إيه آند إم Texas A&M University في الولايات المتحدة. وخلال مرحلة الدكتوراه، درس الكيفية التي تؤثر بها العواصف الترابية ورياح الشمال الحارة والجافة في حركة المياه في شمال الخليج العربي. ومن خلال الجمع بين البيانات المستقاة من الملاحظات داخل عمود الماء، مثل درجة الحرارة والملوحة والكثافة، وبيانات الأرصاد الجوية، حرص على فهم الكيفية التي تنتشر عبرها أنظمة الطقس عبر الحدود الجوية-البحرية وتؤثر في ديناميات الماء.
أشارت البيانات التي جمعها الباحثون إلى ما هو غير متوقع. وعن ذلك يقول السنافي: “اكتشفنا إشارات ذات تردد معين في منتصف عمود الماء تشير إلى وجود أمواج داخلية هناك. … أردنا التوسع في ذلك ومعرفة إن كانت هناك بالفعل أمواج داخلية أم لا”.
تشكل الأمواج
تتشكل الأمواج الداخلية داخل عمود مائي مقسم إلى طبقات مختلفة. إذا كانت هناك قوة مثيرة للاضطراب تؤثر في عمود الماء، فإن الأمواج تتشكل عند السطح البيني حيث تلتقي هذه الطبقات، تمامًا كما تفعل عند السطح البيني الجوي-البحري على السطح. ولا يُتوقع عمومًا وجود أمواج داخلية في المياه الضحلة لأن الماء يكون عادة مختلطًا اختلاطا جيدًا بحيث لا تتشكل طبقات فيه.
لكن في الخليج، قد تؤدي درجات الحرارة المرتفعة في الصيف إلى تقسيم المياه إلى طبقة علوية دافئة وطبقة سفلية أكثر برودة. ويقول أنيس: “هذه هي الشروط التي تحتاج إليها لتشكل الأمواج الداخلية. … لذلك بعد أن أنهى [السنافي] الدكتوراه، أعددنا مقترحًا لدراسة الأمواج الداخلية في الخليج”.
ربما تؤدي الأمواج الداخلية دورًا مهمًا في النظم الإيكولوجية البحرية؛ إذ تطلق قدرًا كبيرًا من الطاقة عندما تتكسر على طول المنحدر الساحلي، الأمر الذي قد يؤدي إلى إنتاج العناصر الغذائية أو الملوثات وإلى نفوق الأسماك أو ازدهار الطحالب. ويقول السنافي: “من المهم جدًا فهم فيزياء وميكانيكا هذه الموجات الداخلية؛ إذ إن لها تأثيرًا في بيولوجيا النظام وكيميائه وحتى جيولوجيته”.
صمم السنافي وأنيس سلسلة من المراسي ونشراها لقياس المقاييس الفيزيائية لعمود المياه على أعماق ومسافات محددة من الساحل. وأمضيا خمسة أيام على متن قارب في حرارة صيفية تبلغ نحو 50 درجة، وأطلقا واستعادا مرارًا أداة متطورة لتحديد العمق للحصول على لقطات من مختلف المقاييس على طول عمود الماء. وانطلاقًا من هذه المعطيات، استطاع السنافي تأكيد حدوث أمواج داخلية في الخليج العربي والبدء بتوصيف سلوكها.
وحاليًا، هناك حاجة إلى مزيد من العمل لفهم هذه الأمواج الداخلية وكيفية تأثيرها في الديناميات الفيزيائية للخليج. ويقول السنافي: “بصفتي خبيرًا في علم المحيطات الفيزيائي، يتركز اهتمامي الرئيسي على معاينة هذه العمليات وإيجاد أفضل طريقة لنمذجتها من أجل فهم الكيفية التي تعمل بها والكيفية التي تؤثر بها في المنطقة”. لكنه حريص أيضًا على التعاون مع باحثين في مجالات أخرى لاستكشاف الكيفية التي تؤثر بها الأمواج الداخلية في ديناميات النظام الإيكولوجي أو التقلبات البيئية أو الظواهر الأخرى.
الغوص أعمق
شمل أحد أوجه التعاون هذه فحص المجتمعات الميكروبية على طول عمود الماء. ومن خلال عمله مع باحثين من سلطنة عُمان اكتشف السنافي أن المجتمع الميكروبي مقسم إلى طبقات عموديًا، مع تقسيم واضح في المنطقة البينية Interface حيث تتشكل الأمواج الداخلية. ويقول السنافي: “توقفت الرواسب المعلقة من قاع البحر إلى حد كبير عند المنطقة البينية، فكانت الطبقة العميقة عكرة والجزء العلوي صافيًا. … وقد عمل معنا أيضًا غواصون ينزلون لفحص الآلات وقالوا الشيء نفسه: كان الماء صافيًا وفجأة أصبح عكرًا”.
يؤثر تكوين المجتمع الميكروبي في المجتمعات الأكبر، مثل أصداف النو Barnacles والحيوانات البحرية الأخرى المتسببة في الترسبات الحيوية Biofouling، والتي تمثل مشكلة كبيرة لناقلات النفط وسفن النقل الأخرى في الخليج العربي. ومن هنا فإن من المهم معرفة دور ديناميات هذه النظم الإيكولوجية في العمليات الفيزيائية في عمود الماء لفهمها وتخفيف الضرر الذي تسببه.
ويعمل السنافي مع الهيئة العامة للبيئة في الكويت لتطوير نظام للتنبؤ بنفوق الأسماك وازدهار الطحالب في المنطقة. ونشرت الهيئة العامة للبيئة شبكة تحوي 15 عوامة لجمع البيانات، ويعمل السنافي معها لتطوير نمذجات عددية. وستكون التوقعات مفيدة في اتخاذ القرارات مثل تلك المتعلقة بوضع مصبات الصرف التي تقوم بتصريف المحلول الملحي من محطات التحلية أو مياه الصرف الصناعي المعالجة. ووضع هذه المصبات على النحو الصحيح أمر مهم جدا لتقليل تأثيرها في النظم الإيكولوجية لجون الكويت الذي هو موئل تكاثر صغار العديد من الأنواع السمكية.
وهناك العديد من مجالات البحث المحتملة الأخرى. ويعمل السنافي حاليًا على إعداد مقترح للحصول على منحة مع مختبرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology، ومعهد وودز هول لعلوم المحيطات Woods Hole Oceanographic Institute، وجامعة نيويورك أبوظبي New York University Abu Dhabi، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا King Abdullah University of Science and Technology ، وجامعة تكساس إيه آند إم لإجراء تحليل كامل للعمليات الأوقيانوغرافية الجارية في الخليج العربي، ومن ثم ربط تلك الديناميات بنمذجات المحيط الهندي.
ويقول أنيس: “للخليج العربي بالتأكيد أهمية اقتصادية، لكنه يمثل أيضًا مختبرًا طبيعيًا. … نظرًا لأنه محصور بعض الشيء، تحدث الأشياء فيه بسرعة، ومن ثم يمكننا بسرعة رؤية تأثير أي تغيير”. ويوفر هذا الأمر للباحثين فرصة مثالية للبحث وفهم العمليات الفيزيائية الجارية.
يخطو السنافي الخطوات الأولى نحو بناء نمذجة للديناميات الأوقيانوغرافية في الخليج العربي. وهو يعمل على تقييم النمذجات الحالية مقابل البيانات التجريبية من الخليج لمعرفة مكامن الخطأ والعمليات الإضافية التي يجب دمجها فيها، مثل الأمواج الداخلية. وعن ذلك يقول: “لفعل ذلك، نحتاج إلى فهم المعطيات الفيزيائية الحقيقية والحصول على بيانات ميدانية فعلية”.
على المدى الطويل، يهدف السنافي إلى فهم مياه الخليج العربي فهما متعمقا بما يكفي للتنبؤ بسلوكها في عالمنا سريع التغير. ويقول عن ذلك: “لكي نفعل ذلك على أفضل وجه، نحتاج إلى فهم كل عملية على حدة، بما في ذلك الأمواج الداخلية”.