العلوم الطبيعية

الصحراء وخجل المعاني.. محاولة للفهم

«الملافظ سعد».. هذا ما قيل على هامش مؤتمر عقد حديثا عن مكافحة التصحر. لم يكن ذلك لأن أحداً قد قال ما يسيء – لا سمح الله- فجميع الحضور أساتذة أجلاء، وخبراء في مجالهم. لكنه كان تعقيباً على لفظة «التصحر» المتداولة في المجال العلمي والعام، والكيفية التي بات من الضروري تغييرها وتغيير الوعي الجمعي المتعلق بها.

معاني الألفاظ

حين يتعلق الأمر بما تعنيه بعض الكلمات، نجد أن بعض الألفاظ التي نستخدمها عادة ما تأتي محملة أو مثقلة بما نلقيه نحن عليها من معانٍ. وما يحدث مع كلمة «التصحر» بالذات أن معظم الناس تربطها بشكل واع أو غير واع بكلمة الصحراء. وهو ربط خاطئ بطبيعة الحال. فالصحراء منظومة بيئية كاملة متكاملة، فيها كل العناصر التي تشكل أي منظومة بيئية في العالم من ماء ونباتات وحيوانات وحشرات وغيرها.

أما التصحر فهو ما يحدث للأرض غالباً بسبب تدخل الإنسان، حين يقوم بتطهير عرقي للزرع والضرع في بقعة ما. هذا الارتباط الفج يجعل من الصحراء بالضرورة عيبا خلقيا على وجه الأرض نحتاج – كبشر – إلى أن نصلحه ونحيله.. إلى غابة!. وربما هذا الربط هو ما دعا أحد الأساتذة -بعد انتهاء المؤتمر- إلى أن يوضح للحضور الفرق في التعريف بين الصحراء والتصحر!. هذا والمؤتمر مختص بالحديث عن هذه القضية، وكل الحضور اختصاصيون في هذا المجال، فما بالنا برجل الشارع العادي؟ كيف سيفسر كلمة مثل هذه؟ لذلك بات من الضروري تغيير الكلمة والاستعاضة عنها بمصطلح تدهور الأراضي (لاسيما أنها تعتبر نوعاً من أنواع تدهور الأراضي بالفعل) أو مصطلح آخر، لا يكون له ذلك الارتباط السلبي بكلمة صحراء!.

زراعة الصحراء

لهذا السبب ولأسباب أخرى أيضاً (منها انقطاعنا عن موروثنا الطبيعي وما تعنيه الأرض لنا) تتزايد في بعض دول الخليج تلك الأصوات التي تنادي بزراعة مليون نخلة أو مليون سدرة أو مليون شجرة أو مليون من شيء ما! (غالباً زراعة نباتات غير فطرية* في المنطقة المطلوب زراعتها). حتى نتخلص من العار الذي يدعى صحراء!. دون أي اعتبار لأي أبعاد منطقية أخرى. ولا ننسى حقيقة أن «المنطق الدارج غير دارج على الإطلاق»

كما يقولون. ترى ما مدى تأثير تلك الغابات المفتعلة في صحة الإنسان؟ وفي صدر من سيدخل غبار طلعها؟ ما طبيعة تفاعل البيئة مع هذه الكميات من الأشجار الدخيلة؟ ينسى دعاة تغيير الصحراء إلى غابة أن الجزيرة العربية تعتبر من أفقر مناطق العالم بالمياه، وأن دول الخليج «تشرب من البحر»، وذلك بعد حرق النفط لتحيل طاقته إلى مصانع تحلية المياه. فمن أين سيكون لدول الخليج القدرة على ري هذا الكم من النباتات حتى لا تموت؟ أين الاستدامة؟ لا أحد يسأل هذه الأسئلة. يؤكد موقع المنظمة الأمريكية للمياه أن %97 من المياه على الأرض مالحة وأن الـ %3 المتبقية منها توجد غالباً على هيئة جليد أو تحت الأرض وغيره، وما يستطيع الإنسان أن يستهلكه للشرب يقل عن %1 فقط للعالم أجمع!

علمياً حين تحاول إدخال أي نبات إلى بيئة جديدة، فإن عليك أن تدرس هذا النبات وكل ما يحيط به من نباتات وحيوانات وكائنات دقيقة وحشرات وفطريات، وطبيعة تفاعله معها ومعنا كبشر. وذلك برصده مدة تراوح ما بين 15-10 سنة قبل أن تدخله إلى أي منطقة جديدة، خاصة في غياب العدو الطبيعي له، حتى تضمن أنه لن يؤثر سلباً على أي ممن ذكرتهم سابقاً. وتفادياً لحدوث أي مصائب بيئية لا تُعرف نتائجها إلا لاحقاً.

والأمر ذاته ينطبق على الأشجار أو النباتات التي تضمها حدود الجزيرة العربية، وذلك ببساطة لاختلاف النظم البيئية التي أتت منها كل شجرة عن التي ستُدخل لها. بمعنى، أن لا أُدخل- على سبيل المثال – شجرة لا توجد إلا في الحدود الجغرافية للمملكة العربية السعودية إلى الكويت أو العكس، فقط لأن الدولتين تقعان ضمن الحدود الجغرافية للجزيرة العربية، فما بالك لو أتيت بشجرة ليست من حدود الجزيرة العربية أساساً؟

كائنات غريبة غازية

لقد عانت الكثير من الدول مما يُعرف بالكائنات الغريبة الغازية، ببساطة لأن النباتات (أو أي كائنات أخرى) بإمكانها الهروب وإكثار نفسها بنفسها، وهو ما حدث في بعض دول الخليج مع شجرة غاف المسكيت Prosopis juliflora حين تم إدخالها لمحاربة “التصحر” والتي تسببت بإصابة أفراد المجتمع بالحساسية والربو، كما أن هذه الشجرة قادرة على الانتشار بشكل كبير وسريع، ومن الصعب إزالتها. واكتشفوا لاحقاً أنها تقضي على نباتات المنطقة، وتخترق أنابيب الصرف الصحي، وتؤدي ثمارها إلى تساقط أسنان الحيوانات ومن ثم إصابتها بالهزال، وغير ذلك من المشكلات التي تواجهها دول عدة بسبب هذه الشجرة.

وهناك أيضاً نوع آخر من الأشجار التي لم تستطع أن تهرب وأن تكاثر نفسها بنفسها، ولكنها سببت بعض المشكلات المذكورة سابقاً وهي شجرة الكونوكاربس Conocarpus lancifolius. ووفق علمي، فإنه لم تجر أي دراسة علمية على هذا النبات وأضراره علمياً، إلا أن التقارير الكثيرة عن الأضرار التي يلحقها بالبنى التحتية لبعض البيوت لا يمكن تجاهلها أبداً، كما أن الملاحظات الأولية تقول إنه نبات لا يسمح بنمو أي نبات آخر بجانبه، ولا تعشش عليه الطيور (لاحظت وجود عِشاً أو اثنين في الفترة الأخيرة). إنه نبات أحالته بعض دول الخليج قسراً إلى نبات غازي حين زُرع بكميات كبيرة في الشوارع والبيوت.

أهمية النباتات الفطرية

لذلك بات من الضروري أن ندرس ونحافظ على النباتات الفطرية الخاصة بكل منطقة. ومن هذا المنطلق فقد قام أحد الباحثين في معهد الكويت للأبحاث العلمية بدراسة كفاءة بعض النباتات الفطرية، وأثبت فيها قدرة بعضها على تماسك التربة بشكل فعال. فعلى سبيل المثال فإن نباتا مثل العوسج Lycium shawii قادر على تماسك 5.5 متر مكعب من التـراب، ونباتا آخر مثل العرفج Rhanterium epapposum قادر على تماسك 5 أمتار مكعبة منه، إضافة إلى أن لها شكلاً جميلاً كشجيرات، ولا تستهلك مياها كثيرة ولها أعداؤها الطبيعيون مما يحفظ لها توازنها الطبيعي، فضلا عن تأقلمها مع البيئة وأهلها. والأهم من كل هذا أن نباتات البيئة ذاتها هي الأقدر على مواجهة التغيرات المناخية التي تواجه العالم. ولعلنا بالحفاظ عليها نعجل في شفاء الجروح الموجودة على جلد الأرض. ولكن ما هو جلد الأرض؟.

جلد الأرض

جلد الأرض هو الاسم الذي أطلقه متحف التاريخ الطبيعي في الولايات المتحدة الأمريكية على طبقة التربة التي تحيط بالعالم. ولَك أن تتخيل إن جرحت ذلك الجلد متى سيشفى؟ واحتفلت منظمة الزراعة والغذاء في الأمم المتحدة (فاو) باعتبار عام 2015 سنة عالمية للتربة، وذلك لتوعية الناس بأهمية تلك الحبيبات الصغيرة التي تعج بالكائنات الدقيقة من فطريات وبكتيريا وغيرها. تلك الحبيبات القادرة أحياناً على تشكيل العواصف الترابية والغبارية.. تلك التي نشتكي منها جميعاً، ولا يعرف معظمنا قدرها. جميل أن يُذكر، ربما من باب التغيير، هذه الفوائد العظيمة لنا وللبيئة على حد سواء.

لقد اكتشف العلماء أن هذه العواصف الترابية “خصبت” غابات الأمازون لأنها كانت محملة بالحديد والفسفور، كما أن علماء من اليابان والصين وكوريا لاحظوا أن هذه العواصف تعمل على تحييد الأمطار الحمضية في المناطق المتضررة بهذه الأمطار. وأخيراً فقد لاحظ العلماء في أستراليا أنها تثري المحيطات، وتسهم في تكاثر الهوائم البحرية التي تتغذى الأسماك بها، خاصة تلك التي تحوي الحديد. وتلك الهوائم قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون الذي يسهم بشكل كبير في التغير المناخي، فإذا غاصت في أعماق المحيط فإن بإمكانها الاحتفاظ بالغاز لوقت طويل. ولو أنه من غير المعروف حتى الآن الكيفية التي سيؤثر بها ذلك في المحيط.

لكن دعونا نتوقف قليلاً لنتذكر أن أحد أسباب هبوب هذه العواصف في المقام الأول، هو إصابة هذا الجلد بجرح غائر! لقد بتنا كبشر نستهلك الطبقة العلوية top soil للتربة من 40-10 مرة أسرع من قدرة الطبيعة على التجديد، ومواكبة استهلاكنا الجشع لجهدها. يقدر العلماء الوقت الذي يستغرقه تكوّن تلك الطبقة التي لا يتعدى سمكها 5-3 سم، بما بين 100 سنة وعشرة آلاف سنة، بحيث إن الفترة الزمنية لتكونها تتناسب عكسياً مع نسبة المياه في المنطقة. فتزداد تلك الفترة كلما قلت نسبة المياه في المنطقة، والعكس بالعكس. ومن ثم قد يستغرق تكوّن الغابات بضع مئات من السنين، في حين أن الصحراء قد تستغرق آلاف السنوات. هذه الطبقة عادة ما تكون من التربة القادرة على حضن البذور، وذلك لاحتوائها على نسبة هواء ورطوبة وغذاء مناسبين. يقول الدكتور جون كروفورد من جامعة سيدني إن العالم خسر بالفعل أكثر من %40 من هذه التربة (وهناك من العلماء من يقول أكثر من %50) لقد تآكلت طبقة التربة تلك إلى الحد الذي سنفقد فيه القدرة على زراعة أي شيء بعد أقل من 60 سنة من الآن!. يقول ڤولكريت إنغلزمان الناشط في منظمة (فاو) بالأمم المتحدة “بسبب الزراعة المكثفة، بتنا نخسر تلك الطبقة بما يعادل مساحة 30 ملعب كرة قدم.. كل دقيقة!.

جريمة العصر

ومن المصائب الأخرى التي حلت بالعالم كانت فقد الكويت ما بين 1.5-1 بليون برميل نفط (راوحت الخسائر اليومية للنفط حينذاك بين مليون وستة ملايين برميل نفطي) على أرض الكويت، وما تم استرجاعه منها كان يعادل 20 مليون برميل نفطي فقط، أي ما يعادل 5-4 أيام من النفط المستنزف. وخسرت الكويت ما يعادل 40 مليون طن من التراب إثر التلوث النفطي. وأُطلق على هذه الجريمة اسم “جريمة العصر” لأسباب واضحة.

يقول المحامي والناشط البيئي الأمريكي جيمس غوستاف سبث، متحدثاً عن المصائب البيئية بشكل عام “كنت أظن أن أكبر المشكلات البيئية هي في ضياع التنوع الأحيائي والتغير المناخي وضياع المنظومات البيئية، كنت أظن أننا بعد 30 سنة من التقدم في هذا المجال بتنا نستطيع أن نصنع تغييراً، لكني كنت مخطئاً!. إن أكبر مشكلاتنا البيئية هي الأنانية والطمع واللامبالاة، نحن بحاجة لنقلة ثقافية وروحانية حتى نستطيع أن نواجه هذه المشكلات، ونحن كعلماء لا نعرف الكيفية التي ندفع بها هذا التحول”.

حقيقة ما قاله سبث يكشف مرة أخرى أصل المشكلة. المشكلة هي نحن!. إن نظرتنا الفوقية ومركزيتنا التي تحوم حولها الخلائق، إضافة إلى انفصاميتنا فيما يتعلق فيمن نكون وكيف نعيش، ينصب مباشرة في طبيعة علاقة بعضنا ببعض، وينعكس على البيئة وكيفية حفاظنا على تراثنا الطبيعي. ونحن جزء من منظومة بيئية متكاملة، لسنا في أعلاها أو أسفلها. وإن كنّا كمسلمين نؤمن بقضية التسخير. فهذه الكلمة لا تعني ولا تعادل كلمة التصغير أو التحقير.

نحن ننتهك الأرض وما عليها، ثم نزيد الأمر سوءا بتسميتها تسمية خاطئة، ثم نتهمها بالتقصير. أضعف الإيمان أن نسمي الأشياء بأسمائها. فإن كنت يا من تطالب بتغيير بيئتك تؤمن بالله، فالله خلقك هنا، وخلق بقعة الأرض هذه بهذه الطبيعة، وإن كنت لا تؤمن به، فالعلم يقول لك إن الجزيرة العربية لها موقع جغرافي معين من الأرض، يفرض عليها هذه الطبيعة. لذلك حاول أن تتفاعل مع أرضك وأن تحبها كما هي، وبالكيفية التي هي عليها لا بالكيفية التي تريدها أن تكون عليه.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى