عبدالواحد علواني
لا يشكل الاهتمام بالطفولة نوعاً من الترف أو التفضل، إنما هو اهتمام بالخيارات الكبرى لأي أمة . ولئن كانت هذه الطفولة محمية بعاطفة الوالدين واهتمام أولياء الأمور، فإن هذه العاطفة تأخذ اتجاهات ومناحي عدة بحسب وعيهم وإمكاناتهم، والقيم التي يؤمنون بها، والأولويات التي يرونها، والاتجاهات التي يعتقدون أنها الأصلح.
فالإنسان يولد كإنسان بعد ولادته الاجتماعية، أي تحوله إلى فرد يتسم بالسمات العامة للمجموعة التي ينتمي إليها، فالتربية أو عملية التنشئة هي في مجملها وعامّها عملية تنميط، وعملية التنميط هذه قد تكون شاملة وربما تصل إلى درجات عالية من التطابق والاستنساخ، وقد تكون فيها هوامش كافية للتحولات التي يمر بها المجتمع والتغييرات التي يوجبها تقدم الزمن والمعرفة والظروف.
ثمة جوانب مهملة في التنشئة، إذ إن الفكرة الوالدية تتجه نحو الصحة البدنية بصورة رئيسية، وبعض الطمأنة الحسية واللغوية، وبخاصة في المراحل العمرية المبكرة، حيث يفتقد الوالدان غالباً الثقافة الكافية، وحتى على مستوى المؤسسات الخاصة والعامة، قلما تحفل بالأمور الأكثر خطورة، والتي هي في معظمها أمور يمكن تداركها أو تخفيف أثرها، إذا لوحظت في وقت مبكر، ويصعب التعامل معها، إلى درجة الاستحالة أحياناً، إذا أهملت. فالصحة في مرحلة التنشئة لها أبواب عدة، ولا تقتصر على الصحة البدنية أو العقلية فقط.
وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد الذي تحظى به الصحة النفسية فإن هذا الاهتمام لا يرقى إلى الدرجة التي تناسب أهميتها، ولعل أهم عوامل الاهتمام يتعلق بما يسمى بـ (تاريخ الحالة) وهي القاعدة الأساسية التي يبني عليها اختصاصيو العلاج النفسي تشخصيهم للاضطرابات الشخصية، أي التاريخ (النمائي) للفرد. بمعنى آخر، جذور الاضطرابات في المراحل العمرية المبكرة، ابتداء من الصحة النفسية للطفل، ثم المراهقة فالشباب.. وهكذا.
ويجمع اختصاصيو العلاج النفسي على أن المعالجات تكون مجدية أكثر حينما تتم في مراحل مبكرة؛ لأن جذور الاضطرابات قابلة للعلاج التام في معظمها، وما هو غير قابل للعلاج التام يكون قابلاً للعلاج الجزئي. كما أن العلاج المبكر يكون أقل كلفة وتطلباً، ويهيئ الفرد للمساهمة في بناء مجتمعه بدلاً من أن يكون عالة عليه.
إنجازات الصحة النفسية
في الإطار النظري حققت الصحة النفسية إنجازات علمية كبيرة، لكنها في الإطار العملي تتفاوت بين ثقافة وأخرى، وبين طبقة وغيرها، وبين مستوى ثقافي وآخر، فالأمر منوط على المستوى الفردي بالوعي والحالة المادية، وعلى المستوى المؤسسي بالإخلاص والتخطيط، إلا أن الخطوة الأهم تتمثل في نشر الوعي بضرورة المراقبة المبكرة للاضطرابات النفسية ومعالجتها. فالاضطرابات النفسية هي تلك الصعوبات التي تكتنفها علاقة الفرد بغيره من الأفراد أو المجتمع ومؤسساته ونواظمه وضوابطه، وهي اضطرابات تظهر بأشكال مختلفة، جسدية ونفسية واجتماعية، تمنع الفرد من التكيف مع محيطه، أو الاعتماد على نفسه، إضافة إلى الأخطار المختلفة التي يمكن أن يشكلها كل اضطراب بحد ذاته.
ثمة مؤشرات تدق ناقوس الخطر، قلما ينتبه إليها أولياء الأمور لأسباب متعددة، لعل أهمها صعوبة الاعتراف بالمشكلة أو الاضطراب، إضافة إلى الجهل بالمقاييس الدقيقة والمعيارية بخصوص الاستجابات السلوكية والإدراكية والحركية والانفعالية. وثمة اضطرابات منشؤها وراثي أو عضوي أو رضوض عميقة، وأخرى منشؤها اجتماعي أو تربوي أو ظرفي، وهي في مجملها تحتاج إلى عناية متضافرة من أجل لملمة نتائجها الوخيمة والحد منها. ولأنها اضطرابات تتعقد بمرور الزمن فإن الاكتشاف المبكر له أهميته القصوى، وإن كان التشخيص الدقيق هو المرحلة الأهم في أي علاج، فإنه أكثر أهمية في الجانب النفسي. فبعض الأمراض العضوية يتدارك الجسم آثارها ويحجمها ويحد منها لوجود مناعة ذاتية وترميم وتكيف بنيوي تلقائي، لكن الاضطرابات النفسية لا يمكن لها أن تخف من دون علاج، بل تتعمق باطراد وتصل إلى حدود مرعبة ومكلفة جداً مع تقادم الإهمال، مما يجعل نشر الوعي النفسي ضرورة حتمية من أجل التنظيم الأسري والاجتماعي.
مؤشرات عند الولادة
عادة ما تكون المؤشرات عند الولادة صعبة الاكتشاف إلا من خلال بعض الفحوص الدقيقة، ومع تقدم الأيام والأسابيع الأولى يكون اكتشاف بعض الاضطرابات ممكناً، ولكنه لا يتحقق غالباً بسبب صعوبة الاعتراف كما أسلفنا، وعندما يضطر الوالدان للاعتراف يكون كثير من الوقت قد انقضى، وتسبب في تعقيد الوضع أكثر فأكثر.
والأمراض النفسية هي في معظمها أمراض بيئية، وإن كانت الوراثة أحياناً توفر الاستعدادات الجسدية والحسية والإدراكية، على نحو ما نرى في الشخصية السيكوباتية، التي يسهل تحولها إلى شخصية منحرفة وربما إجرامية، لكن دون أن يعني ذلك حتمية هذا التحول. فبعض السيكوباتيين ربما تحولوا إلى شخصيات مصلحة وعظيمة عندما وفرت لهم بيئتهم ما يجنبهم إثارة هذه الاستعدادات في مسارب خطرة.
تصنيفات عالمية
وحتى اليوم ما زالت الأمراض النفسية تتسع وتصبح أكثر تفصيلاً ودقة واستقلالاً، وهذه الأمراض لم تستقل عن الأمراض النفسية العامة إلا في سنة 1992 في قائمة منظمة الصحة العالمية، ولها أكثر من تصنيف عالمي، ومنها:
1 – اضطرابات سلوكية: عادة ما تكون هذه الاضطرابات واضحة، ويشعر بها المربون والآباء بحسب ثقافاتهم وبيئتهم، وهي تتضمن الاختلالات التي تنتاب اليوميات الاعتيادية، إضافة إلى جوانب أخلاقية وقدرات شخصية عقلية وعضلية، مثل: اضطرابات النوم والطعام والكلام والإخراج والهوية الجنسية والحركة والجنوح والكذب والسرقة والغيرة والخجل والتمرد والعدوانية.
2 – اضطرابات عصابية: عادة ما تكون لها آثار أكبر وأضرار جسيمة إذا أهملت، وقد تعود إلى منشأ تربوي أو عضوي، إلا أنها تتحول إلى نمطية تفاعل تصاعدية إذا لم يتم تداركها، مثل: القلق، والهستريا، والوسواس القهري، وانفصام الشخصية.
3 – اضطرابات وجدانية اكتئابية: يمكن رصد الاكتئاب خلال الطفولة بسهولة؛ لأن الطفولة مرحلة مرحة لا هموم فيها، والاكتئاب المبكر قد ينذر باضطرابات عسيرة. و من هذه الاضطرابات: اكتئاب مصحوب بأعراض أخرى، كالخوف، والتبول اللاإرادي، والانعزال.
4 – اضطرابات ذهانية نفسية المنشأ: وهي اضطرابات تظهر من خلال الاختلال المنطقي في التفكير والإدراك الحسي، مع هلوسة وتوهم، وتأتي نتيجة تأثيرات تربوية وبيئية واجتماعية، وتكون على درجات، كالذهان المبكر، والمتوسط، والمتأخر.
5 – اضطرابات ذهانية عضوية المنشأ: تنشأ لأسباب وراثية، أو لأسباب تتعلق بالبيئة والتغذية والحوادث المفاجئة والأوضاع الشاذة حياتياً، ومنها: الهذيان، وتشويش الذاكرة، والنوبات الانفعالية، والاختلاطات العقلية، والحساسية المفرطة، والعصبية.
6 – اضطرابات التعلم والمهارات، ومنها: صعوبات القراءة والكتابة والحساب والتخيل والتركيز والتعبير.
7 – اضطرابات التواصل: كالتأتأة، واللجلجة، والارتباك، والحركات المفاجئة وغير المتسقة.
8 – الاضطرابات النمائية: كالتوحد، واضطراب أسبرغر، وتأخر البنية النمائية، وفرط النشاط الحركي.
وعادة يمكن الكشف عن هذه الاضطرابات النفسية من خلال أعراض معينة، منها أعراض واضحة وجلية يتم كشفها من خلال المعاينة المباشرة، ومنها أعراض لا يمكن الكشف عنها إلا بعلامات خاصة. لكن ثمة أعراض تستدعي التحرك فوراً لتشخيصها ومعالجتها. ومنها:
• العنف تجاه الذات، وجرح النفس، ومحاولة القتل الذاتي.
• الميل إلى المشاجرة والعراك، والتركيز على الألعاب العنيفة.
• عدم القدرة على التركيز، والشرود، والإخفاق الدراسي، والانعزال الاجتماعي.
• الحزن والاكتئاب الشديد والمديد (مدة شهر مثلاً).
• الرهاب، والجبن الشديد، والخوف المبالغ فيه (الفوبيا).
• فقدان السيطرة على الذات، والتسبب بالأذى لنفسه وللآخرين.
• هموم مبكرة تثقل عليه، وتفسد عليه محاولات المرح.
• تعاطي الممنوعات بشكل متكرر وبإصرار.
• الطابع المزاجي في العلاقات الاجتماعية، والذي يؤدي بالنتيجة إلى الوحدة والتوحش.
نتائج جيدة للمعالجة المبكرة
والعلاج النفسي للطفل يتسم بصعوبات جمة، لكنه غالباً ما يعطي نتائج جيدة تفوق علاج الكبار، وبخاصة فيما يتعلق بالاضطرابات الناجمة عن محيط الطفل، كالإخافة وأزمات الأسرة وظروف الحرب والحوادث والمواد الإعلامية والممارسات الخاطئة في المجتمع ومؤسساته الخاصة بالطفولة والتعليم، والمستوى المعيشي، وافتقاد السكن الصحي، والانتقال من بيئة إلى بيئة أخرى، ذلك أن نفسية الطفل في منتهى الحساسية وتتأثر بسرعة بما يفسدها، وكذلك تستجيب للعلاج السليم بمؤشرات واضحة.
والصحة النفسية للطفل مسؤولية الأسرة في المقام الأول، لأنها معنية بتوفير البيئة الصحية لنمو نفسي سليم، لكنها أيضاً من مهمة المجتمع، وبخاصة في ضوء التحولات الاجتماعية السريعة التي لم يواكبها وعي مواز، فالنمط التقليدي للأسرة كان نمطاً عائليا موسعاً، يعيش فيه الوالدان الحديثان في عائلة كبيرة تعتني بتربية البكور من الأبناء، ريثما تتراكم الخبرة عند الوالدين. أما حالياً، لأسباب عدة، فيستقل المتزوجان حديثاً في سكن خاص بهما، ويتحملان مسؤولية تربية أبنائهما دون المرور في مرحلة التهيئة الوالدية في العائلة أو الأسرة الكبيرة، مما يتطلب نشر المؤسسات التي تعنى بالوالدية، وتوعية المجتمع بدورها الكبير والأساسي من أجل بيئة أسرية سليمة، فعملية الإنجاب لا تقف عند حدود الإنجاب البيولوجي، إنما هي عملية إنجاب اجتماعية، يجب ألا يترك الطفل خلالها للمصادفات.
وتكثر العلل النفسية بين الأطفال حالياً لأسباب كثيرة، لكن عدم تهيئة الوالدين للوالدية يبقى العامل الأكثر أهمية؛ لأنه من جهة يوفر البيئة المناسبة، ومن جهة أخرى، يخفف من حدة الظروف الطارئة وتأثيرها. فقد اعتاد الوالدان – مثلاً- على أن يهرعا نحو العلاج عند إصابة الطفل بمرض بدني له علامات واضحة: كالحرارة، أو التقيؤ أو الإسهال، لكنهما قلما يعيران الأعراض الخاصة بأزمة أو خلل نفسي ذلك الاهتمام.
والإحصاءات التي تظهرها الدراسات العلمية من أجل المقارنة بين البيئات الثقافية المختلفة، لا تعطي مؤشرات حاسمة عن مدى انتشار هذه العلل بسبب الجهل العام في بعضها، وارتفاع عتبة الإحساس بالخطر في بعضها الآخر، إضافة إلى غياب الشفافية ولاسيما في المجتمعات التي تربط بين المعالجة النفسية والمعالجة من الآفات العقلية والجنون، حيث يخشى الفرد من نظرة المجتمع له، كما يخشى من فقدان الثقة بالمريض النفسي سواء كان هو ذاته أو أحد ذويه، وبخاصة في المجتمعات التقليدية.
في بيئتنا العربية، ثمة خطر أكبر يتمثل في كل الجوانب المعيقة التي ذكرناها آنفاً، وتضاف إليها القطاعات الشعبية الهائلة التي ترى في بحث الصحة النفسية ترفاً غير متاح، وكذلك الاضطرابات السياسية والحروب والصراعات التي تحفل المنطقة بها، ويكون معظم ضحاياها من الأطفال والمراهقين، حيث يتعرضون للعنف والمشاهد المدمرة والضائقات المعيشية والجوائح والأوبئة والرعب والتشرد واليتم، وكل جانب من هذه الجوانب كفيل بإحداث علل نفسية عميقة الأثر، تدمر الفرد والمجتمع وبخاصة مع غياب الجهود العلاجية التي تكون قادرة على احتواء الكوارث الضخمة. وقد عاينت شخصياً عينات ونماذج خلال أكثر من حرب وأزمة، وتابعت مع مؤسسات محدودة الإمكانات بعض الحالات، التي شهدت فيها مدى الدمار النفسي والبشري الذي يفوق الدمار العمراني بكثير.
حق للطفولة
إن الاهتمام بالصحة النفسية للطفولة حق من حقوقها الواجبة واللازمة، وهي في الآن نفسه ضرورة نهضوية وحضارية لا يمكن لإهمالها أن يمهد الطريق نحو مجتمع معافى ومستقر؛ ذلك أن الاضطرابات لا تشكل عائقاً نفسياً واجتماعياً وانفعالياً فحسب، إنما تشكل عائقاً معرفياً أيضاً، إذ لا يمكن لبنية مضطربة أن تتمتع بمعرفة سليمة وبناءة، وحري بأي مجتمع طموح أن يبذل الكثير من الجهد والمال من أجل نشر الوعي الصحي النفسي وبخاصة إزاء المراحل العمرية المبكرة.