د. فيفيان حنّا الشويري
أستاذة الآثار وتاريخ الحضارات في الجامعة اللبنانية
في إطار البحث التاريخي والأنثروبولوجي والإثنولوجي، تُدرس طرق عيش الإنسان منذ وجوده الأول من خلال تتبّع خطواته في تطوير أساليب عيشه. والباحث المدقّق يكوّن فكرة واضحة عن طرق العيش القديمة إذا ما تابع تفاصيل مسيرة هذا الكائن البشري المتدرّج في تطوير نفسه. ومن هذا المنطلق، أعطينا صفة إضافية للإنسان “العاقل العاقل” وهي “الإنسان الملاحظ” أو “المراقب” أي “المجرّب”، الذي ورث التقنيات الأولى المتعلقة بمعاينة الطبيعة، وعلى أساسها طوّر قدرة التمييز بين ما هو صالح وضار، واعتمد الصالح وابتعد أو حذّر من الضار، واستعان بالحيوان الذي كان خير دليل له من خلال مراقبته الحثيثة، ما وضعه على سكة المعرفة الصحيحة. وحتى الآن ما زال الحيوان عنصر الاختبار الأساسي في كلّ الأبحاث العلمية وحتى التقنية.
وفي تعريف الطب والسموم ورد في كتاب (الطب النبوي) لابن قيّم الجوزية التعليم بالمراقبة: “فإنَّ ما عندهم من العلم بالطِّب منهم مَن يقول: هو “قياس”، ومنهم مَن يقول: هو “تجربة”، ومنهم مَن يقول: هو “إلهامات”، و”منامات”، و”حَدْسٌ صائب”، ومنهم مَن يقول: أُخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذواتِ السموم تَعْمِدُ إلى السِّرَاج، فَتَلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيَّاتُ إذا خرجت مِن بطون الأرض، وقد عَشيت أبصارُها تأتى إلى ورق الرازيانج، فتُمِرُّ عيونها عليها. وكما عُهد مِن الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذُكِرَ في مبادئ الطب”.
بيد أن الابتعاد عن العناصر الضارة لم يكن إلا من باب المعرفة وليس الخوف كما يحلو لبعض الأشخاص القول، من هنا الوجه الآخر الذي اكتشفه الإنسان في استخدام المواد الضارة وفي مقدمتها السامة، وهو ما يندرج في فئة “السموم” القاتلة. والتخصيص لهذه المواد هو الدليل على التعرّف عليها واستخدامها بذكاء حاد وكذلك بحذر شديد، فما كان محض صدفة أصبح فعلاً متعمّداً له أهدافه المحدّدة. ويسجّل للسمّ دور كبير في تقدّم الكثير من الفروع العلمية منها “علم السموم”. ومن بين التركيبات المتنوعة التي استحدثها البشر باتت هذه المواد تهمّ الباحث لتوسيع نطاق الأدوية وربما تصنيع عقاقير جديدة.
تراكم حضاري
لا شك أن الحديث عن موضوع السموم بشكل عام يتطلب صفحات، لكننا هنا نعرج على وجوده في بعض المجتمعات القديمة والوسيطة التي باتت السموم من ضمن ثقافاتها المميّزة لها. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة للخروج من هذا الإطار، لكن ما سجّله التاريخ يصعب محوه ويستعصي على المنقّح تغيير الفكرة التي طبعت في الأذهان عن هذا المجتمع أو ذاك. كما أن تسليط الضوء على هذا كفيل بإعطاء تصور عن وجود تلك السموم واستخداماتها.
في الحقيقة، لا شيء يتأتّى من عدم، وكلّ ظاهرة لها قاعدة انطلاق وأساس، فما هي أصول السموم في الحضارات؟ وكيف صنّعت أو استخرجت؟ كيف استخدمت وما الأهداف منها؟
لاحظ الإنسان الأول أن لبعض الكائنات سمّا ضروريا لبقائها على قيد الحياة ولمهاجمة الفرائس أو الدفاع عنها. واستخدم السموم منذ عصور ما قبل التاريخ، ابتداء من جرعات السحرة. وإضافة إلى استخدامها كأدوية علاجية، استغلت السموم كأداة ضغط وسيطرة واستحكام. وتتوقف فعالية السموم على كمّية جرعاتها وكيفية التحكم فيها، لأن “كلّ شيء سمّ، لا شيء سمّ، فقط الجرعة هي التي تصنع السم” كما قال الطبيب باراسيلسوس في القرن 16. فقد تكون السموم قاتلة قاضية أو لها تطبيقات علاجية بنسب معيّنة ما يعكس معرفة وخبرة لدى مصنّعها، وما يجعلها من أدق التركيبات الكيميائية وينظر اليها بعين الدهشة والإعجاب وعلى أنها تقنيات معتبرة ولا تؤخذ باستخفاف مطلقاً.
فهذا ابن وحشية الكلداني النبطي (القرن التاسع للميلاد) الذي ذكره ابن النديم في (الفهرست) بأنه كان الأول في عصره في علم السموم، يقول في كتابه (السموم): “لا تخشوا من تناول سمّ الثعابين عن طريق الفم لأن أغشية الجسم يمكن أن تتحمّلها، أما إذا اختلطت بالدم فلا يمكن للجسم أن يتحمّلها لأن السمّ أقوى من الدم”.
في حضارات الأمريكتين
لما كان البشر قد بدأوا باللقط والصيد قبل اكتشاف الزراعة والاستقرار، فقد أسهم ذلك في التعرّف على أنواع جمّة من النباتات والأحياء السامة؛ فاستعمل السمّ كأداة دفاع لتسريع إماتة العدو، وصنعت بعض القبائل البدائية أسلحة مصمّمة لزيادة فاعلية السم. وامتلك هنود أمريكا الجنوبية واحداً من السموم الأكثر شهرة وهو الكورار (Curare) الذي كان قبل كلّ شيء، بالنسبة لهنود الأمازون، سمّ صيد. وربما كانت التسمية من كلمة “أوراري” التي تعني “الموت الذي يقتل بنعومة”، أو من كلمة طائر (Uira) و( y ) للدلالة على “السائل الذي يقتل الطيور”. وهو سمّ آتٍ من العصور الغابرة، لذا ظلت روايات اكتشافه غامضة، وامتزج فيها السحر والألغاز والأساطير الأكثر غرابة.
وعندما قرّر كريستوفر كولومبس القيام برحلته المحفوفة بالمخاطر في المحيط، لم يكن لديه أي فكرة عن أنه سيتم الكشف عن أقدم وأخطر ما كان موجوداً على هذه الأرض من السموم. ومع اكتشاف العالم الجديد، تعرّف الغزاة الإسبان بسرعة كبيرة على سمّ الحرب هذا الذي يقال إن الهنود استعملوه للدفاع عن أنفسهم وقتل أعداد كبيرة من المعتدين. ما أثار بينهم الريبة من جراء التسمم بالكورار، بسبب سرعة مفعوله، والجانب المروّع من أعراضه، والنتيجة الحتمية القاضية له وغياب الترياق، لدرجة أنه ترك الرعب في نفوسهم في حين كان هناك سموم أخرى أشد خطورة.
وتؤكد إحدى الروايات التاريخية كيفية اكتشاف السموم من خلال معاينة البشر للطبيعة ومراقبة الحيوانات والطيور وتعلّمهم منها: “في السابق، كان الهنود القدماء، وهم يذهبون للصيد، يرون الصقور تخدش بمخالبها الشجرة السامة قبل أن تنقض على فرائسها، وبمجرد لمسها تموت. فقاموا بفرك رؤوس سهامهم بلحاء نفس الأشجار ورأوا أن الحيوانات المصابة بالسهام تصاب بالشلل على الفور. ووجدوا أنه من الجيد غلي هذا اللحاء وتصفيته لعمل عجينة منه، وحصلوا على سمّ جيد للصيد. ولجعلها أكثر فعالية وسميّة، راحوا يضيفون عدداً من المكونات شديدة السميّة مثل الثعابين، والخطاطيف، والضفادع، والنمل والعناكب والعقارب أو اليرقات اللاذعة. ونبتة “ستريكونوس توكسيفيرا” كان يستعمل رحيقها في تسميم الأسهم والخناجر للقتل الفوري”. وظلت تقنية تسميم رؤوس السهام سارية المفعول إبان الحروب ووسيلة للدفاع عن النفس، ففي ملحمة (الأوديسة)، يذكر هوميروس أن البطل أوديسيوس يبحث عن سمّ لرؤوس سهامه.
في الهند وأفريقيا
ظل المستعمرون الغربيّون مقتنعين بأن هناك فناً سريّاً خاصاً يمتلكه الزنوج، أفلت حتى ذلك الحين من كلّ ملاحظات العلم وكلّ تحقيقات العدالة، وأن هذا الفن ينتقل من جيل إلى آخر، حيث تُلقن التقنيات “الأكثر رعباً” في الاجتماعات الليلية السريّة، لذا كانت ردّة فعل الغزاة إيجاد مادة مضادة للسموم ودرء خطرها المميت ليتمكنوا من تحقيق أهدافهم الاستيطانية: ” لا يوجد شيء يثير اهتمامي أكثر من اكتشاف علاجات لسموم السهام تلك”، وهو ما دفع عجلة الاختبارات والاكتشافات بوتيرة عالية.
ومن أدوات الحرب في الأدب العسكري الهندي القديم، هناك العديد من الأوصاف التفصيلية للأسلحة المستخدمة قديماً في الحروب، والتي تحمل اسمي “أسترا” و”ساسترا”، إما وهمية يتم إلقاؤها من خلال التعويذات، أو حقيقية يتم إطلاقها بواسطة آلة أنبوبية أو بواسطة النيران، وذات نصل ولها حافة صلبة وحادّة. يرد في نصوص “الراجفيدا” السهم السماوي الذي غُمّس طرفه الحديدي في السمّ، ونقرأ عن التعويذات من أجل إبطال مفعول السهام المسمومة، أو إلقاء التعويذات لتدمير العدو وسهامه المسمومة. وثمة خاصية هنا مفادها أنه ينبغي ألا تستخدم السهام المسمومة ولا السهام ذات الأسلاك الشائكة، فهذه أدوات محجوزة فقط للأعداء الخبثاء وغير النزهاء؛ ما ينمّ عن أدب سلوكات الحرب قديماً. يُذكر أن الطبيب العربي الشهير الكندي (801م) شرَح كيفية جعل السيوف سامة عن طريق معالجتها بمحاليل مواد عضوية وأعشاب تحتوي على السيانيد، مثل نبات الدفلى.
ومن الممارسات القديمة التي تفضح بعضاً من ألاعيب السحرة الأفارقة في تأثيرهم النفسي على ضحاياهم، وتكشف زيف الادعاء أن السمّ قاتل؛ طقس يمارسه “أدينون” يحمل رتبة طبيب ساحر ويمتلك سرّ السمّ: يقف أمام صندوق صغير، وبالقرب منه يجلس مساعد، ويركع الشخص طالب السحر عند مدخل الكوخ، يعطي بعض المال ويقدم ديكاً. يطحن “أدينون” لحاءً أحمر، ويصبّ المسحوق في يقطينة صغيرة ذات رقبة ضيقة ويضيف الماء إليها، ثم يجعل الديك يبتلع كلّ الخليط. على الرغم من الادعاء بأن اللحاء الأحمر يحتوي على السمّ، فقد تبيّن أنه لا ينتج عنه أي آثار ضارة، بل يعمل فقط على التأثير على المخيّلة الساذجة، فكلّ الخدعة تكمن في تصرّفاته، إذ يفتح منقار الديك عن طريق الضغط بالإبهام على الفك السفلي، في نفس الوقت الذي يضع فيه السبابة على حلقه ما يمكّنه من أن يقلّص الحلق ويسبب الاختناق.
عند الفراعنة والرومان
ورد في الكتابات القديمة أن الفراعنة درسوا خصائص السميّة في النباتات والحيوانات وطوّروا السموم. يقول ابن أبي أصيبعة: “وممن اشتهر بالسموم هرمس الثالث، فإنه سكن مدينة مصر وكان بعد الطوفان. وكان طبيباً عالماً بطبائع الأدوية القاتلة والحيوانات المؤذية، وهو صاحب كتاب (الحيوانات ذات السموم). وأورد جالينوس في كتابه (السموم) أسماء بعض أشخاص ممن ورد اسمهم في الأساطير ممن اشتهروا بعلم السموم، مثل المدعو حورس، لكنه أضاف أنه ينبغي تحاشي الكلام عن السموم، خشية أن يستفيد منها البعض ويرتكبوا الجرائم”.
ونقرأ في (قَسَم أبوقراط) أنه امتنع عن البوح بأسماء السموم: “وأقسِمُ ألا أعطي إذا طٌلب مني دواء قاتلاً”! ويروى أن ملكة مصر، كليوبترا، أمرت أن تقام تجربة مادة “الستركنين” على السجناء والفقراء وأرسلت العديد من خادماتها كفئران تجارب لاختبار أنواع مختلفة من السموم، بما في ذلك “البلادونا” (نبتة ست الحسن)، “نبتة البنج الأسود”، وبذور شجرة الأستريشينين”، فيما هي نفسها قضت بسمّ الأفعى.
ومن الحيوانات السامة: الأرملة السوداء، السمكة الحجرية، الأفاعي والثعابين. وهناك الفطر السام المميت. وقد قضت “أغريبينا” على زوجها الإمبراطور الروماني “كلوديوس” بواسطة طبق من الفطر المسموم. ومن النباتات السامة الهينبان jusquiame، رغم أنها علاج للسعال، وهي مميتة بجرعات عالية، وقد تسبّبت في وفاة “هاملت” في مسرحية شكسبير الشهيرة. ورحلة قصيرة في عالم الأدب تكشف لنا أن السمّ كان مصدر إلهام لا ينضب للكتّاب، وأن كتاباتهم حفظت تقنيات قديمة كانت شائعة ونُسيت على مرّ الأيام. ومن المعادن السامة، الزئبق وهو عنصر سام جداً والراديوم والبولونيوم. وعاين العلماء مثل هذه المواد السامة في القبور الملكية المصرية القديمة التي لطالما أحيطت بنوع من الألغاز ووسمت بلعنة الفراعنة.
عند العرب والمغول
تعتبر السموم أداة السحرة والمشعوذين يستخدمونها وسيلة للاغتيال والمؤامرات التي تحاك ضد أصحاب السلطة والنفوذ. ومن الشخصيات التاريخية التي قضت بالسمّ، الملكة “شبعاد” (بو آبي)، كاهنة بلاد سومر (العراق القديم)، بحسب تحليلات بقايا قبرها ودُفن معها 61 من خدمها تجرّعوا السمّ.
وكان الملوك والعظماء يحتفظون بالسمّ في متناول يدهم بجرعات كافية لأن ينهوا حياتهم تجنّباً للأسر أو القتل في حال الهجوم المفاجئ أو التعرّض للتعذيب والذلّ، فالفيلسوف الإغريقي سقراط تجرّع السمّ (نبتة الشكران) في سجنه مفضّلاً الموت على الهروب، وكذلك القائد القرطاجي الكبير “حنا بعل” حتى لا يأسره عدّوه الروماني ذليلاً. وقضي على العديد من الأباطرة والملوك ورجال السلطة والحكام بالسموم، وما أشبه قصص التسميم المتلاحقة في البلاطات الرومانية بالبلاطات العربية. ويُنسب للعرب، في القرون الوسطى، تطوير سمّ الزرنيخ، وهو سمّ شفاف وعديم الرائحة، ما يجعله صعب الاكتشاف. لكن ميزة علم السموم عند العرب أنها تطغى عليها صفة العلاج، وهذا لا ينفي أن السموم دخلت البلاطات العربية وفعلت فعلها في المكائد والاغتيالات لدرجة أن بعض ملوك بني هشام لم يكونوا يتناولون شيئاً من أطعمتهم إلا بحضرة الطبيب يوحنا بن ماسويه (779م)، صاحب كتاب (السموم وعلاجها)، الذي كان يقف على رؤوسهم مراقباً ومعه العقاقير اللازمة في حال تضرّروا أو تسمّموا. وكذا حدث في بعض البلاطات العباسية والفاطمية والأيوبية.
ونقرأ في النصوص السنسكريتية الهندية عن استعمال السموم للمكائد السياسية خاصة زمن الحكم المغولي، وفي تسميم المياه أثناء الحروب. وكذلك في البلاطات العثمانية والأوروبية الغربية حيث قضى العديد مسموماً كعدد من ملوك فرنسا.
وفي الصين القديمة وصين العصور الوسطى، تجاوز استخدام المواد السامة للأغراض العلاجية إطار الممارسة الصارمة للفن الطبيّ، واستخدمت المنتجات السامة من نبات وحيوان. وهناك معادن ككبريتيد الزرنيخ والبيش استخدمت للصيد أو تسميم مياه الشرب، وهذا الأخير مصنّف نباتاً سحرياً مرتبطاً بممارسات السحر الأسود، أو في الاستهلاك المحموم للعديد من الخلطات الطبية التي كانت شائعة لفترة طويلة في وسط النخب السياسية والفكرية، حتى إن بعض الفلاسفة أخذوا السمّ، وهذا يعكس ما للسمّ من قيمة مجازية، وهو موضوع كثر الحديث حوله ويستند إلى النصوص القديمة وقد يبدو مفاجئاً اليوم، لكنه كفيل بأن يأخذنا إلى أعماق الكون الثقافي الصيني.
وأخيرا، هل طابخ السمّ آكله، وفق قول المثل؟ ليس دائماً، بل لعلّ العكس هو الأصح، لطالما طَبخ صاحب السرّ السموم وسيطر وبسطَ سلطته بفضل “إكسيره” السحري، وفي كلّ الثقافات القديمة. ولم ينته عمل الساحر المشعوذ. لا، ليس بعد! ولكن تحت ألف قناع وقناع.