د. عبدالله بدران
ثمة عدد من المحــركات الرئيســية التي ستقود العالم في الفترة المقبلة، أهمها الــذكاء الاصطناعي والروبوتــات والســيارات الذاتيــة القيــادة والطابعــات الثلاثية الأبعاد والبيانـات الضخمة والعمـلات الافتراضيـة وإنترنـت الأشـياء والتقانة النانوية والحيوية وتخزيــن الطاقــة والحوســبة الكموميــة. هذا ما يخلص إليه كتاب (الثورة الصناعية الرابعة) في أهم نتائجه التي خرج بها بعد استعراض شامل لواقع وآفاق العلوم والتكنولوجيا، والتأثيرات المستقبلية لهما في البشرية.
والنتائج التي خرج بها مؤلف الكتاب (الدكتور كلاوس شواب ) ليست صادرة عن تخيلات كاتب عادي، ولا عن خيال علمي لأديب بعيد عن العلم وتطوراته، ولا عن حالم يروي ما رآه في أحلامه، بل هي نتاج واقع عاشه ذلك المؤلف الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعد أكبر وأهم تجمع عالمي لرجال الاقتصاد وصناع القرار ومستشرفي المستقبل، خلال لقاءات وحوارات ومناقشات وجلسات عمل شهدها المنتدى خلال السنوات الماضية، وشارك فيها عدد كبير من الشخصيات العالمية.
والمحركات التي طرحها الكتاب ليست غريبة عنا، إذ عايشنا بدايتها وانطلاقتها في معظم دول العالم، ونشهد يوميا تطوراتها المتسارعة، وتطبيقاتها المتنوعة، وتطالعنا دراسات كثيرة عن آفاقها الواعدة، والآمال الكبيرة المعقودة عليها.
تسلسل الثورات الأربع
إذا كان العالم قد شهد الثورة الصناعية الأولى في عام 1787، والثانية في 1870، وكانت انطلاقة الثالثة في 1969 باستخدام الإلكترونيات وتقانة المعلومات، فإن الثورة الرابعة بدأت بوادرها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكنها تمتاز عن الثورات الثلاث بسرعتها الجامحة، ومجالها الواسع، وتأثيرها الهائل في كل المجالات. والمعروف أن الثورة الأولى استخدمت قوة الماء والبخار لمكننة الإنتاج، في حين استعملت الثانية الطاقة الكهربائية لتوليد الإنتاج الضخم، واستخدمت الثالثة الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لأتمتة الإنتاج، فيما تتميز الثورة الرابعة بمزيج من التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية.
ويرى شواب أننا نقف على حافة ثورة تكنولوجية من شأنها أن تغيِّر جذرياً الطريقة التي نعيش ونعمل بها، ونترابط ونتواصل مع بعضنا بعضا. إننا لا نعرف حتى الآن الكيفية التي ستتكشّف بها هذه الثورة، لكن هنالك شيئاً واحداً واضحا يتمثل في أن الاستجابة إليها يجب أن تكون متكاملة وشاملة، متضمنةً ومحتوية جميع أصحاب المصلحة في النظام السياسي العالمي، من القطاعين العام والخاص إلى الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني.
وسرعة الاختراقات الحالية ليست لها أي سابقة تاريخية عند مقارنتها بالثورات الصناعية السابقة؛ إذ تتطور الثورة الرابعة في وتيرة أسيّة رقمية بدلاً من وتيرة خطية، وستحدث تحولا كبيرا في مجالات نظم الإنتاج، والإدارة، والحكم. وهذه الثورة الأخيرة تعتمد على الثورة الرقمية، والإنترنت المتحرك، وتطور أجهزة الاستشعار لتصبح أكثر قوة وأقل سعراً، والذكاء الاصطناعي. ويشير إلى السرعة التي تتسم بها هذه الثورة مقارنة بما سبقها، فيقول: يكفي للدلالة على سرعة الثورة الصناعية الرابعة أن مغزل النسيج (السمة المميزة للثورة الصناعية الأولى) استغرق نحو 120 عاماً لينتشر خارج أوروبا. وعلى النقيض من ذلك، فقد تغلغلت الإنترنت في جميع أنحاء العالم في أقل من عقد من الزمان.
الشغف بالمستقبل الغامض
في مقدمة النسخة العربية للكتاب يقول حاكم إمارة دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: لقد كنا ومازلنا كبشرية مغرمين بالمستقبل، واستكشاف حدوده، والتعرف إلى متغيراته، يدفعنا فضولنا وشغفنا بالمعرفة لاستكشاف المساحات الغامضة في المستقبل المنظور، وأثر ذلك على أسلوب حياتنا وطريقتنا في أداء أعمالنا (…) وموجات التطورات التكنولوجية المتسارعة تعد بتغيير جوهري تلمسه البشرية كافة، بدءاً من مستقبل الصناعات وإنترنت الأشياء، مروراً بالقدرة على استرجاع وترميم الأنسجة التالفة باستخدام الخلايا الجذعية، وانتهاء بالنظر في الفجوات التكنولوجية بين الأجيال وأثرها في التعليم واكتساب المعرفة. وفي إطار قصصي ملهم تمكن الصديق كلاوس شواب من أن ينقلنا في رحلة إلى حدود المعرفة البشرية حول مستقبلها، ليقدم رؤية فريدة تستشرف المستقبل بشكل يتناسب مع تطلعات صناع القرار، والنخبة من رؤساء الشركات، والقيادات الحكومية، والمهتمين بالتغيرات المتسارعة في عالمنا».
وبالفعل، فإن شواب يرنو في كتابه إلى آفاق بعيدة، ليطل على المستقبل والقفزات المعرفية التي تنتظر البشرية، ويحاول استشراف نلك الآفاق التي تتشكل حاليا ، داعيا الجميع، أفرادا وحكومات ومعنيين، إلى الاستعداد للتغيرات النوعية، وتكييف الثورة التكنولوجية الشاملة لإسعاد البشر، وليس الاكتفاء بمجرد التعايش معها، أو بالأحرى تحدياتها.كما يدعوهم إلى إدراك المسؤوليات الجسيمة التي تنتظرهم، وإلى أن تكون الأنظمة التي نقوم ببنائها مصممة لإغناء الإنسان وتحريره، بدلاً من جعلنا كسالى أو ربما أسوأ من ذلك. «وإذا أردنا أن نكون ضمن هؤلاء الذين يحددون وجهة هذه التغيرات، فنحن بحاجة إلى منظور منهجي وشامل للتحول التكنولوجي الحاصل والابتكارات الجذرية المطلوبة».
تحولات تكنولوجية وتغير عميق
يناقش الكتاب في ثلاثة فصول سياقات وتحديات وآفاق الثورة الصناعية الرابعة وتأثيراتها في البشرية. ويستعرض في الفصل الأول المسيرة التاريخية للثورات الصناعية الثلاث التي شهدها العالم على مدار القرون الماضية. أما الفصل الثاني فيتناول العوامل المحركة لهذه الثورة والتحولات التكنولوجية الرئيسية لها، والمظاهر الرقمية والمادية والبيولوجية المصاحبة، والتغيرات الكبيرة التي ستحدثها في الحياة، لتحدث سياقا مستقبليا شديد الاختلاف للمجتمعات البشرية قبل نهاية القرن الحالي.
ويرى المؤلف بهذا الصدد أن لدى الثورة الصناعية الرابعة القدرة على رفع مستويات الدخل العالمية وتحسين نوعية الحياة للسكان في جميع أنحاء العالم. وعلى سبيل المثال فقد استطاعت التكنولوجيا أن تقدم المنتجات والخدمات التي تزيد من كفاءة ومتعة حياتنا الشخصية الجديدة المحتملة، كطلب سيارة أجرة، وحجز رحلات الطيران، وشراء المنتجات، ودفع الفواتير، والاستماع إلى الموسيقى، ومشاهدة الأفلام. وفي المستقبل، سيقود الابتكار التكنولوجي أيضاً إلى تطورات كبيرة في العرض والكفاءة والإنتاجية، وستنخفض تكاليف النقل والاتصالات، وستصبح الخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد العالمية أكثر فعالية، وستنخفض تكلفة التجارة، وسيصبح العالم أكثر ترابطا عبر الإنترنت وتطبيقاتها لاسيما إنترنت الأشياء، وسيقدم لنا الذكاء الاصطناعي منتجات غريبة لم يكن الإنسان ليراها إلا في أفلام الخيال العلمي الحالمة.
الفرص والتحديات
في الفصل الثالث يتطرق الكاتب إلى التحديات التي تصاحب هذه الثورة والفرص التي يمكن الاستفادة منها للتغلب على هذه التحديات وتجاوز تداعياتها، وهي تحديات قائمة لا محالة ولا تنحصر في مجال ضيق أو منطقة ما ، بل ستكون لها صفة الشمولية والامتداد والتأثير العميق. فهذه الثورة ستؤثر في هويتنا وجميع القضايا المرتبطة بها، كشعورنا بالخصوصية، وأفكارنا عن الملكية، وأنماط استهلاكنا، والوقت الذي نكرسه للعمل والترفيه، وعلاقاتنا بالآخرين. ويرى أن التكنولوجيا ستؤثر تأثيرا كبيرا في التواصل البشري وسلوكياته، فالاتصال المستمر قد يحرمنا من أحد أهم أصول الحياة: الوقت الضروري للاستراحة، والتفكير والتبصر، والانخراط في محادثات ذات معنى.
ومن التحديات التي سنواجهها أيضا مشكلة حلول الآلات محل الإنسان، وما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية. إضافة إلى مشكلة خصوصية البيانات وإمكان سرقتها والتحكم فيها وتعرضها للضياع أو الاستخدام السيىء من جهات حكومية أو خاصة لتوجيه الرأي العام أو الحصول على معلومات سرية جدا. كما أن التطورات الحاصلة في مجالي التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي ستسعى إلى إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون إنساناً من طريق زيادة العتبات الحالية للعمر، والصحة، والإدراك، والقدرات، وهي أمور ستدفعنا إلى إعادة تعريف حدودنا المعنوية والأخلاقية.
يمثل الكتاب نظرة شمولية إلى تطورات ومآلات وآفاق الثورة الصناعية الرابعة، والتحديات المصاحبة لها، والتأثيرات المحتملة في البشرية. وهو ينطلق من أرضية صلبة يمتلكها مؤلفه ذو الرصيد الكبير من المعرفة والاطلاع، وهو ما يستدعي النظر بجدية إلى التوصيات التي خرج بها، والرؤية الاستشرافية التي يتحدث عنها، للتعامل معها بطريقة أكثر حكمة وصوابا.