د. وحيد محمد مفضل
على الرغم من أن ارتياد الإنسان للبحار والمحيطات واستفادته من المنافع والخدمات التي تقدمها النظم والموائل البيئية البحرية بدأ منذ ظهور الجنس البشري على وجه البسيطة، فإن هناك كثيرا من الأسرار والثروات تحت سطح البحار والمحيطات لم يستطع الإنسان الوصول لها أو الاستفادة منها بشكل عملي حتى الآن.
ومن هذه الثروات تجمعات المعادن والفلزات الثمينة في أعماق سحيقة تحت سطح البحار والمحيطات، التي تحظى بأهمية اقتصادية وقيمة سوقية عالية، نظرا لكثرة الطلب عليها والحاجة لاستخدامها في مجالات عدة مثل صناعة الأجهزة الإلكترونية وآلات التصوير الطبي وتوربينات الرياح والسيارات الهجينة.
وبحسب بعض التقديرات فإن إجمالي كمية الخامات المعدنية الاقتصادية الموجودة في أعماق البحار والمحيطات يقدر بنحو عشرة بلايين طن، يمثل المنغنيز نحو 30% منها، وكل من النيكل والنحاس 1.5% منها، والكوبالت نحو 0.3% منها. وتظهر تقديرات أخرى أن العائد المادي المتوقع من عمليات التنقيب عن المعادن في قاع البحار والمحيطات ربما يبلغ نحو 4.25 بليون دولار سنويا، مع توقعات بتزايده حال اتساع نطاق عمليات التنقيب ومساحتها.
نوعا المعادن الاقتصادية
يمكن تقسيم المعادن الاقتصادية الموجودة في البحار والمحيطات من حيث نمط وعمق وجودها تحت سطح البحر إلى نوعين؛ النوع الأول يضم المعادن الفلزية الثمينة مثل النحاس والزنك والذهب والفضة، وهي توجد عادة في هيئة رواسب حول الفتحات والمنافذ المائية الحارة Hydrothermal Vents الكثيرة المنتشرة في قاع المحيط. والنوع الثاني يضم ما يعرف باسم المعادن المتشكلة في هيئة عقد أو كريات صغيرة يلتصق بعضها ببعض، تسمى بالعقد المتعددة المعادن Polymetallic Nodules، وأكثرها انتشارا عقد الحديد والمنغنيز. وهذه توجد على أعماق كبيرة تراوح بين 400 متر وخمسة آلاف متر تحت سطح الماء.
وأول من نبه إلى وجود مثل هذه المعادن بصورة عامة، ومفهوم التعدين البحري بصورة خاصة، هو الجيولوجي الأمريكي ج. إل. ميرو في كتابه المعنون: (الموارد المعدنية في البحار)، وذلك في أوائل الستينيات من القرن الماضي.
وقد سعى في الكتاب إلى لفت الانتباه إلى وجود تجمعات معدنية هائلة خاصة من النيكل والمنغنيز في أجزاء كبيرة من قيعان البحار والمحيطات، لاسيما المحيط الهادي.
ومنذ ذلك الوقت، ازداد الاهتمام بهذه المعادن تدريجيا، كما ازدادت الجهود الرامية إلى استخراجها من مكامنها واستغلاها اقتصاديا لاسيما من الدول المتقدمة وشركات الحفر والاستكشاف العملاقة، مما أدى إلى بدء مرحلة جديدة من أنشطة التنقيب عن الثروات المعدنية التي كانت مقتصرة لفترة طويلة على عمليات استخراج النفط والغاز من أعماق ضحلة نسبيا.
كما أدى إلى ظهور مجال جديد للتنقيب عن الثروات المعدنية الاقتصادية في البحار والمحيطات، ألا وهو مجال التعدين البحري أو تعدين قاع البحر Deep Sea Mining. لكن، نظرا لارتفاع كلفة استخراج مثل هذه المعادن، وانخفاض أسعار المعادن خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فقد توقفت عملية التطوير في مجال التعدين البحري مدة طويلة، مما أدى إلى عدم تحقيق تقدم فعلي نحو استخراج تلك الثروات والاستفادة منها في التطبيقات المختلفة. بيد أن الاهتمام باستخراج هذه المعادن واستغلالها اقتصاديا، تجدد ثانية خلال السنوات العشر الماضية من قبل عدد من الشركات الكبرى وبعض الحكومات، وذلك بفضل التطور التكنولوجي، والتوقعات بزيادة الطلب على المعادن، نتيجة تنامي الإنتاج الصناعي عالميا، وازدياد الحاجة إلى موارد معدنية جديدة لتغطية الطلب المتزايد عليها.
وقد تعدى مجال التعدين البحري مرحلة التجريب إلى مرحلة التطبيق الفعلي حديثا، مما حدا بالهيئة الدولية لقاع البحار – وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة ومعنية بتنظيم عملية التعدين في أعالي البحار والمحيطات وتحديد القواعد التي تحكم وتنظم عملية التنقيب عن المعادن واستخراجها بما يتوافق مع قانون البحار الدولي – إلى منح العشرات من عقود ورخص التنقيب لشركات عالمية من أجل البحث عن المعادن في عدة مواقع لاسيما وسط المحيط الهادي والبحر الأحمر.
حظوظ البحار العربية
يمكن القول بصفة عامة إن طبيعة القاع والخصائص الجيولوجية الخاصة بكل البحار العربية – باستثناء البحر الأحمر – لا تساعد على نمو العقد المتعددة المعادن أو تكون رواسب المعادن الثمينة، لذا فإن نصيب هذه البحار من المعادن النادرة أو الفلزات الاقتصادية محدود جدا.
وإذا نظرنا إلى الخليج العربي – على سبيل المثال – نجد أن العمق فيه ضحل جدا (36 مترا في المتوسط) مقارنة ببقية البحار الإقليمية الأخرى، كما أن طبيعة القاع لا تساعد على تكون ينابيع مائية حارة أو شقوق صخرية عميقة أو خروج حمم بركانية أو غيرها مما يمثل بيئة ملائمة لتكون أو نمو الرواسب والعقد المعدنية.
أما خليج عمان، الذي يعتبره البعض امتدادا للمحيط الهندي وأكثر عمقا من الخليج العربي- فإن الظروف الجيولوجية الخاصة به وكون رواسب القاع السائدة فيه تتشكل في الأساس من طمي غريني وبقايا كائنات بحرية وأصداف وغيرها، لا تساعد على تكون ونمو العقد أو الرواسب المعدنية. والأمر لا يختلف كثيرا عن ذلك في كل من بحر العرب والبحر المتوسط.
أما البحر الأحمر، فهو الاستثناء الوحيد بين بقية البحار العربية؛ نظرا لطبيعته الجيولوجية الخاصة ووجود أكثر من عامل ملائم لظهور ونمو العقد المتعددة المعادن والرواسب المعدنية. ذلك أن البحر الأحمر يمتد على مساحة كبيرة (450 ألف كيلومتر مربع) وتبلغ فيه مناسيب الأعماق قيما كبيرة، تصل إلى أكثر من 2200 متر. كما أنه يتميز بوجود شقوق نشيطة بركانيا وأغوار وبحيرات ساخنة وفائقة الملوحة على أعماق سحيقة. وهذه الأغوار تنبعث منها كميات كبيرة من الغازات ومواد هيدروكربونية وكبريتية، لذا فإنها تحوي رواسب سميكة وغنية بالمعادن الثمينة مثل الذهب والفضة والنحاس. وتوجد معظم هذه الأغوار في المياه البحرية الإقليمية المشتركة الواقعة بين حدود السعودية والسودان، لذا فإن حق استغلالها الاقتصادي يقتصر على هاتين الدولتين بحسب قانون البحار الدولي.
وتشبه هذه الأغوار إلى حد كبير الينابيع والعيون المائية الحارة المألوفة لنا والموجودة على اليابسة، مع فارق جوهري واحد يتمثل في وجودها تحت سطح المياه عند عمق كبير. كما تختلف خصائصها الكيميائية والمعدنية عن خصائص الينابيع الحارة، نتيجة تباين المصدر الصخري المنبعثة منه والعوامل الحرارية المسببة.
أغوار البحر الأحمر
تعود قصة اكتشاف أغوار البحر الأحمر الملحية إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، حينما اكتشفت سفينة الأبحاث البريطانية الشهيرة (ديسكفري) وجود غور ملحي ساخن على عمق نحو 1500 متر، في المنطقة البحرية الواقعة أمام مدينة جدة في منتصف البحر الأحمر. وفي العام التالي قامت سفينة الأبحاث (أتلانتيس2) التابعة لمعهد وودز هول لأبحاث علوم البحار والمحيطات بالولايات المتحدة برحلة بحثية مماثلة، لتكتشف غورا آخر في منطقة مجاورة على عمق 2000 متر.
وألهم الاكتشافان اهتمام مراكز بحثية أمريكية أخرى، كالمؤسسة المؤسسة الأمريكية للعلوم التي أرسلت رحلة بحرية استكشافية عام 1966 لدراسة وجمع معلومات عن هذه الأغوار الضخمة والعجيبة، وكان ذلك بواسطة سفينة أبحاث تدعى (تشين).
وأطلقت أسماء السفن البحثية الثلاث (ديسكفري وأتلانتيس2 وتشين) على الأغوار الثلاثة المكتشفة تباعا. ثم اكتشف عدد آخر من الأغوار في البحر الأحمر، منها (كبريت) و(شعبان) في الشمال، و(سواكن) و(بورسودان) في منتصف البحر الأحمر، وإن بقيت الأغوار الثلاثة الأولى وبخاصة غور (أتلانتيس) هي الأكثر ثراء بالثروات المعدنية. ويعتبر غور (أتلانتيس) الواقع قبالة مدينتي جدة السعودية وبور سودان السودانية على امتداد 60 كيلومترا مربعا، هو الأشهر والأكثر ثراء من حيث المحتوى المعدني وكمية الرواسب المعدنية، حيث يقدر البعض إجمالي قيمة الثروات المعدنية المتاحة فيه بنحو ثمانية بلايين دولار.