د. أبو بكر خالد سعد الله
المدرسة العليا للأساتذة، القبة، (الجزائر)
أحيت الاكتشافات الحديثة الجدل حول وجود الحياة في أمكنة أخرى غير كوكبنا، من خلال اكتشاف الماء بصور متنوعة داخل النظام الشمسي، ومن ثم يتوقع وجوده في أجرام سماوية لا حصر لها، مثل الكواكب والمذنبات والحلقات الكوكبية.
وربما كانت البداية في عام 1877م، حينما لاحظ الفلكي الإيطالي جيوفاني شياباريلّي Giovanni Schiaparelli (1835-1910)، مدير مرصد مدينة ميلانو، ما سماها “خطوطًا مستقيمة” على سطح المريخ، وأطلق عليها اسم “قنوات” (بالإيطالية canali). وهو مصطلح ترجم إلى الإنجليزية بلفظ “canals“ الذي يعني “قنوات اصطناعية” بدلاً من لفظ “channels” الذي يشير إلى “القنوات الطبيعية”.
وساعدت هذه الترجمة وما تكتسيه من لبس على نشر أسطورة ترى أن ثمة كائنات ذكية في كوكب المريخ تبني قنوات لنقل المياه من قطبيْ الكوكب إلى مناطقه الاستوائية! حتى إن عالم الفلك والرياضيات الأمريكي بيرسيفال لويل Percival Lowell (1855-1916) كتب في مطلع القرن العشرين: “لو لم يكن هذا النظام الخاص بالري قد شيّد [يعني ‘القنوات الاصطناعية’ في المريخ] لما كنا نشاهد مثل هذه المعالم الرياضياتية الرائعة … “. وخابت آمال هؤلاء عام 1965 عندما كشفت بعثة مارينر 4 Mariner 4 أن “الخطوط المستقيمة” التي لاحظها شياباريلي لم تكن سوى سلاسل من الحفر الصغيرة، وهذا بعد أن تم تصويرها على بعد بضعة آلاف الكيلومترات.
مسح أركان الكون
ومع ذلك، لم يتوقف البحث عن المياه الموجودة خارج كوكب الأرض بل ازداد حدة. فقد مسح علماء الفلك كل ركن من أركان النظام الشمسي، واكتشفوا فيه آثار الماء في أمكنة مختلفة: في أجواء المريخ والزهرة والمشتري. كما يعتقد بعض علماء الفلك أن الماء السائل متوفر تحت سطح بعض الأجرام في نظامنا الشمسي مثل المريخ. ومن المعلوم أن الماء موجود في شكل جليد في أجسام أصغر مثل المذنبات وحلقات الكواكب العملاقة. لذا استخلص الفلكيون وجود الماء في كل مكان من النظام الشمسي بكميات متفاوتة وبأشكال مختلفة.
لكن، كيف يمكن للمرء أن يفسر حضور الماء في كل مكان؟ هذا ليس مفاجئًا إذا أدركنا مدى وفرة الذرّات المكوّنة للماء في الكون. علينا في هذا السياق أن نتذكر نموذج الانفجار الأعظم؛ فقد أنشأ هذا الانفجار ذرّات هيدروجين وذرّات هيليوم (بنسبة 3 ذرّات هيدروجين مقابل ذرّة هيليوم واحدة). ثم تشكلت في صلب النجوم ذرّات الكربون والنيتروجين والأكسجين، ومعها جميع العناصر الأخرى أثناء التفاعلات النووية.
إن جزيئات الماء مستقرة جدًا لأنها تتكوّن من الأكسجين والهيدروجين علما أن ذرّات هذين العنصرين غير متنافرة، بل العكس هو الصحيح: يتطلّب فصلهما تسخينا يفوق 2500 درجة سيليزية. وليست هذه هي المزية الوحيدة في الأكسجين والهيدروجين، بل هناك جملة من الخصوصيات يتمتع بهما هذان العنصران تجعلهما بهذه الوفرة في الكون.
الحالة الأكثر إثارة للاهتمام هي حالة الكواكب الصخرية، وهي (من الأقرب إلى الأبعد من الشمس): الأرض وكواكب عطارد والزهرة والمريخ. فالماء في هذه الأجرام موجود في الجو أو التربة. غير أن الوضع يختلف من كوكب إلى آخر بسبب الفروق العديدة في تكوين الأغلفة الجوية لها واختلاف أحوال الطقس. فعلى سبيل المثال، نجد أن كثافة كوكب عطارد وقربه من الشمس لا يساعدانه على الحفاظ على جو مستقر.
واللافت أن الماء على الأرض يكون في حالاته الثلاث (المتجمدة والسائلة والبخارية)، أما في باقي مواقع النظام الشمسي فنجده في حالتين لا غير: إما ثلج وإما بخار. وبطبيعة الحال، فالإنسان يطلب الماء السائل! والسائل هو الذي يؤثر بقوة في تطوّر مناخ كوكبنا من خلال تفاعل نظام تشكل السحب وهطول الأمطار والتيارات البحرية، إلخ. يرى العلماء أن الماء السائل كان موجودا على سطح الأرض بوفرة منذ نشأتها (قبل 4.5 بليون سنة).
وهكذا نرى أن قرب الأرض من الشمس بمسافة مناسبة وغلافها الجوي يجعلان من الجائز وجود مياه بشكل مستقر في الحالة السائلة في كل مكان على سطح الكوكب. وهذه الظروف غير متوفرة في الأمكنة الأخرى من الكون، لذا يصعب فيها إيجاد الماء السائل.
الماء في الفضاء
على عكس حال سطح الأرض، يُعدّ الفضاء بيئة شديدة البرودة. إضافة إلى ذلك، فالضغط منخفض جدا مقارنة بالضغط الجوي الأرضي: ضغط الفضاء أقل من ضغط الأرض بعدة ملايين… بل حتى عدة بلايين من المرات، وهذا ما يجمّد الماء عموما في حالة وجوده.
نلاحظ بهذا الشأن أن درجة الحرارة ليست الخاصية الفيزيائية الوحيدة التي تؤثر في حالة المادة؛ ذلك أن الضغط مثلا يؤدي دورًا حاسما في هذا الموضوع، فإذا انخفض الضغط في بيئة تحتوي على ماء سائل فسيغلي الماء. وهذا ما نكتشفه في المرتفعات العالية حيث يغلي الماء في جبال الهيمالايا عند بلوغه 72 درجة سيليزية بدلا من 100 درجة على سطح الأرض.
اكتشف علماء الفلك في الفضاء السحيق خزانا كبيرا من المياه –في محيط الكوازار المسمى (APM 08279 + 5255)- لم يسبق أن عثر الباحثون على مثل حجمه في الكون. تبلغ كمية المياه الموجودة في هذا الخزان 140 بليون مرة حجم المياه الموجودة في جميع محيطات كوكب الأرض.
يقع هذا الكوازار، المغلف ببخار من الماء، على بعد 12 بليون سنة ضوئية من الأرض، ويتغذى من ثقب أسود ضخم، فينفث كميات هائلة من الطاقة، حتى إنه يعتبر أقوى مصدر للطاقة في الكون حتى الآن. أما إشعاعه فإنه يفوق بنحو 65 ألف مرة قوة مجرتنا. ومثل هذه الكميات الهائلة من الطاقة تنبعث نتيجة لسحب المادة من الثقب الأسود العملاق. وقدّر العلماء أن كتلة هذا الثقب الأسود تزيد عن كتلة الشمس بـنحو 20 بليون مرة.
بعد اكتشاف أكبر وأبعد خزان مياه في الكون، اقتنع علماء الفلك أن الماء موجود في كل مكان في الكون. نلاحظ أيضا أن هناك بخار ماء في درب التبانة بكمية أصغر (أقل مما يوجد في الكوازار بـأربعة أضعاف)، في حين أن معظم مياه هذه المجرة موجودة في شكل جليدي.
الأرض الفائقة
في سبتمبر 2019، اكتُشف بخار الماء مرة أخرى في جو الكواكب الخارجية (أي تلك التي لا تنتسب إلى نظامنا الشمسي). والجديد هذه المرة أن الكوكب يقع في منطقة مناسبة للسكن في محيط نجمه، مما يجعل هذا الاكتشاف مثيرًا أكثر من غيره. وهذا يعني أن الإنسان اكتشف وجود الماء في كوكب يمكن أن يسكنه البشر! عرّف الفلكيون هذا النجم بالرمز (K2-18)، وهو قزم أحمر يبعد عنا نحو 110 سنوات ضوئية، ويقع في كوكبة الأسد.
أما الكوكب فتم تعريفه بالرمز (K2-18b). ويعتبر هذا الكوكب أرضا ضخمة يسميها البعض “الأرض الفائقة”، في حين يفضل البعض الآخر تسمية هذا النوع من الكواكب بـاسم “الكواكب الهجينة”؛ لأنها ذات نوى صخرية وأغلفة هيدروجينية. وهي لا تشبه أرضنا التي تمثل صخرة عارية بغلاف جوي رقيق، ولا تشبه الكواكب العملاقة، مثل نبتون أو المشتري.
والمثير أن حجم هذه “الأرض الفائقة” يعادل ضعف حجم كوكبنا، بكتلة تساوي ثمانية أضعاف معمورتنا! أما اكتشاف الكوكب فحدث عام 2015 بفضل التلسكوب كبلر Kepler التابع للوكالة ناسا. ويتميز الكوكب المكتشف بأنه أقرب إلى نجمه مقارنة بقرب الأرض من الشمس، لذا يستكمل مداره حول النجم خلال 33 يوما، في حين يقضي كوكبنا 365 يوما للدوران حول الشمس. وكشف تحليل البيانات عن معلومات جديدة إذ تستطيع المعدات الحديثة تحديد عوامل أساسية، مثل الدقة في تعيين المسافات البعيدة والكتل ودرجة حرارة سطوح الكواكب.
وخلال عامي 2016 و2017، اعتمد فريقان من الباحثين على البيانات التي حصل عليها التلسكوب هابل، واستخدموا خوارزميات متطورة لتحليل الضوء العابر للغلاف الجوي المحيط بهذا الكوكب. وهكذا كشفت النتائج عن آثار لبخار الماء، وكذلك عن وجود جزيئات الهيدروجين والهيليوم. ومن ثمّ اقتنع العلماء بأن هناك جزيئات أخرى، بما في ذلك النيتروجين والميثان، لكن رصدها تعذّر حتى اليوم. والواقع أن هذا الاكتشاف المهم ما زال في بدايته بسبب عدم توفر نماذج أرصاد جوية أكثر تطورًا. لذا لا تسمح البيانات المتوفرة حاليا بتأكيد وجود ماء سائل على سطح هذا الكوكب، كما أنه يستحيل تحديد كميات المياه الموجودة في غلافه الجوي.
والواقع أن “الأرض الفائقة” لا تُعدّ أرضًا ثانية؛ ذلك أن تشكيل غلافها الجوي يختلف اختلافًا كبيرًا عن كوكبنا. إضافة إلى ذلك، فإن علو مستوى نشاط نجمها يعرضها لمستويات إشعاعية لا تتوافق مع نوع الحياة على الأرض. وعلى الرغم من أن هذا الكوكب قد يحتوي على مياه سائلة وأن درجات حرارته مواتية للحياة كما نتصورها، فإن حظوظ قدرة البشر على العيش فيه ضئيلة إن لم نقل منعدمة.
وإذا لم تكن الحياة ممكنة في “الأرض الفائقة” فقد تكون ممكنة في غيومها حيث نجد المياه السائلة، تمامًا كما يتصوّر العلماء حال غيوم كوكب الزهرة. لذا علينا أن نواصل التنقيب عن الماء في أعماق الكون!