د. محمد دياب
أستاذ جامعي متخصص في مجال الاقتصاد (لبنان)
شهد العالم ابتداءً من الربع الأخير من القرن العشرين أعظم تحول في تاريخ البشرية تجلى في ظهور ما يسمى “الاقتصاد المعرفي”، وذلك نتيجة التراكم النوعي للمعرفة وابتكار أنواع جديدة نوعيًا من التكنولوجيا وانتشارها على نطاق واسع. وفي الواقع، لقد ظهر مجتمع جديد يختلف جذريًا عن كل ما سبق، يعتمد على تطور العلوم وتحول المعرفة إلى عنصر الإنتاج الرئيسي وظهور التكنولوجيا الراقية المنتجة لسلعٍ ذات محتوى معرفي عالي التطور، مجتمع يتمتع بمستوى عالٍ من الإدارة والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، ويشهد تغيرات بنيوية جوهرية. هذه التحولات تشكل في مجملها الأساس لتكوُّن الاقتصاد الجديد الذي يتطوَّر بوتائر متسارعة وعلى نطاق
واسع، وتتجلَّى خصائصه ومبادئه وتتجذر في مواجهة الاقتصاد التقليدي.
تطور المعرفة عبر العصور
ليست “المعرفة” بحد ذاتها بالأمر الجديد، بل إن مسار تطور المجتمع البشري ارتبط على الدوام بتطور معارف الإنسان. فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتح وعيه، وارتقت معه من مستوياتها البدائية وتطورت باستمرار، إلى أن وصلت إلى ذراها الراهنة. وعلى مدار التاريخ نجد أن كل مجتمع امتلك في كل حقبة من حقب تطوره مستوى معينًا من المعرفة، بحيث يمكن القول إن تلك الحقب كانت في الواقع انعكاسًا لتطور المعرفة المرتبطة بمختلف جوانب حياته الروحية والمادية والاجتماعية. ويمكن الجزم بأن تلك المعرفة أدت دورًا محوريًا في تقدم المجتمع وفي دعم إنجازاته على مختلف الصعد. فكان اكتشاف النار محطة “معرفية” عظيمة حققت قفزة هائلة في تطور الإنسان القديم، ثم جاء ابتكار المحراث ليشكل دفعًا عظيمًا للإنتاجية في المجتمع الزراعي. أما اكتشاف الطاقة البخارية فكان بمثابة الخطوة الأولى الحاسمة في الثورة الصناعية وما رافقها وتلاها من ابتكارات. بيد أن الجديد اليوم هو المستويات التي لا مثيل لها في تطور تلك المعرفة وحجم تأثيرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي تبدل نمط حياة الإنسان المعاصر عمومًا، وفي تغير طبيعة الإنتاج والاستهلاك. لذا نرى أن مقاربة الاقتصاد المعرفي لا بد أن تبدأ بإلقاء نظرة سريعة على التحولات الكبرى في حياة المجتمع، والتي كانت انعكاسًا لمستوى تطور المعرفة في كل حقبة تاريخية.
الزراعة المستقرة
تمثل التحول الأول في قيام الزراعة المستقرة، التي نشأت في أحواض الأنهار الكبرى. لقد عرفت البيئات الخصبة تلك الأشكال الأولى للمجتمعات المستقرة والتبادل التجاري، وللدولة والسلطة والشرائع. وأدى قيام تجمعات سكانية كبيرة نسبيًا إلى بروز أشكال من التنظيم الإداري والسياسي، ملائمة لمستوى تطور المجتمع في تلك الحقبة. وعلى امتداد فترة زمنية طويلة تكرست الزراعة بوصفها العامل المحدِّد للنشاط الاقتصادي والمورد الرئيسي للإنتاج والثروة.
لقد قامت حضارات تلك الحقبة الطويلة على ما سُمي “المعرفة الزراعية”، واتسمت بتركز تطور المعرفة في مناطق محددة، وبما سمي سرية المعرفة واحتكارها، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ تطورها، وإلى ضياع الكثير من إنجازاتها. وقد عُرف ذلك المجتمع بالمجتمع ما قبل الصناعي.
الثورة الصناعية
أما التحول الثاني فتمثل بالثورة الصناعية التي شكلت بداية تقدم اقتصادي ومعرفي عظيم. وقد شمل هذا التقدم فروع النشاط الاقتصادي كافة، وشكل درجة أرقى في اتساع مدارك الإنسان ومعارفه. في ذاك العصر أصبحت الطاقة ورأس المال هما المورد الرئيسي للإنتاج. واتسمت المعرفة في تلك المرحلة بأنها كانت تستند إلى التطبيق، فكانت تُصاغ النظريات استنادًا إلى ابتكارات يتوصل إليها المبتكرون في الممارسة العملية. وأدت تلك الثورة، وما تلاها من تطور، إلى حدوث زيادة هائلة في الثروة، كما أحدثت تحولات لا مثيل لها في ميادين العلم والثقافة والسياسة والاجتماع. وانقسم العالم إلى معسكرين: أحدهما صناعي متقدم، وآخر يلهث بعضه للحاق بالأول من دون جدوى في معظم الأحيان. وتُعتبر الثورة الصناعية بداية الانتقال إلى العصر الصناعي.
ثورة المعلوماتية
أما التحول الثالث الذي حمل أعظم تغيير في تاريخ البشرية بكامله فتمثل في ثورة العلوم والتكنولوجيا فائقة التطور وما نجم عنها من ثورة في المعلوماتية والاتصالات، إذ باتت المعلومات والمعرفة المورد الاستراتيجي الجديد، والأساسي، في الحياة الاقتصادية، ما أدى إلى نشوء “الاقتصاد المعرفي”. وهكذا، بعدما كانت الأرض والعمل الجسدي هما المورد الرئيسي للثروة في العصر ما قبل الصناعي، ثم أصبح رأس المال والآلة هما المولِّد الرئيسي لهذه الثروة في العصر الصناعي، صارت المعرفة والمعلومات هي عنصر الإنتاج الرئيسي في العصر ما بعد الصناعي، حيث غدا إنتاج المعرفة واستثمارها واستخدامها وتداولها مصدر النمو والتنمية المستدامة الرئيسي. وأضحت المعرفة عبارة عن نوع جديد من رأس المال يقوم على الأفكار والابتكارات فائقة الفعالية. إنها تجسد رأس المال المعرفي الذي يُعتبر في الاقتصاد الجديد أكثر أهمية بما لا يقاس من رأس المال المادي. فالثروة الحقيقية للأمم تكمن اليوم في العقول ومخرجاتها المعرفية بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها الثروات المادية على أنواعها.
إن السمة الرئيسية لهذه المرحلة هي أن النظرية صارت تسبق التطبيق. فتسارعت بصورة هائلة عملية تجسيد الاكتشافات النظرية في سلع وخدمات ذات محتوى معرفي. وقصُرت إلى الحدود الدنيا دورة حياة السلعة، من الابتكار إلى الإنتاج والتسويق ثم الأفول، لتحل مكانها سلعة جديدة ذات محتوى معرفي أكثر حداثة. كل ذلك في فترة زمنية قياسية لا تزيد عن بضعة أشهر بالنسبة لبعض السلع. وتنفق الشركات أموالاً طائلة على البحث العلمي، الذي أصبح اليوم أشبه بمنجم ذهب غير قابل للنضوب، وغدت ربحيته وجدوى الاستثمار فيه لا تضاهى.
خصائص الاقتصاد المعرفي
إذا كان الاقتصاد بمفهومه التقليدي هو اقتصاد الندرة، أي ندرة الموارد مقابل التطوُّر اللامحدود لحاجات الناس ومتطلباتهم، فإن الاقتصاد المعرفي هو اقتصاد الوفرة. إنه ذاك الاقتصاد الذي تجري فيه عملية إنتاج المعرفة وتجديدها وتداولها ونشرها واستخدامها. فمع تطوُّر المعرفة، من حيث هي لا تُستهلك (بمعنى أنها لا تُستنفد) بل تتوالد ذاتيًا بالاستهلاك، أي عند تقاسمها وتشاركها من خلال نقلها إلى الآخرين، وبفضل التكنولوجيا الرقمية، فإن التكلفة الحدية لأي نسخة لاحقة على النسخة الأولية (التي تكون مكلفة جداً غالباً) تتضاءل تدريجًيا إلى أن تصبح أقرب إلى الصفر. وهذا ما يخلق الوفرة في الإنتاج بحيث يصبح مبدأ الوفرة هو السمة الأبرز للاقتصاد المعرفي. ولا بد من تناول هذا الاقتصاد بنظرة شمولية.
ففي الميدان الاقتصادي، فإن الاقتصاد المعرفي يعني خلق القدرة التنافسية المقترنة بوتائر نمو اقتصادي متسارعة؛ وفي الميدان الاجتماعي، يعني تكوين رأس المال البشري الحامل لرأس المال المعرفي وتحسين نوعية الحياة ورفع مؤشر رقي المجتمع؛ وفي المجال السياسي، يعني رفع مستوى الأمن القومي وتعزيز موقع البلد المعني بين الأمم؛ وفي المعنى القانوني، يفترض وضع القوانين العادلة والكاملة التي تضمن التطور المستقر لهذا البلد. علمًا أن كل المؤشرات والعناصر المذكورة متكاملة ومترابطة، بحيث إن البطء أو الخلل في واحد منها من شأنه أن يؤدي إلى إعاقة النمو في الجوانب الأخرى.
وثمة فوارق جوهرية بين الاقتصاد المعرفي والاقتصاد التقليدي تتجلى بالدرجة الأولى، في كون المعرفة والمعلومات، خلافًا للموارد الأخرى الكثيرة، لا تتناقص مع استخدامها، كما أنها لا تغير شكلها. إضافة إلى ذلك، فإن المعارف (عندما تكون على شكل معلومات) لا قيود على حركتها، فهي تنتقل بسهولة ومن دون عوائق عبر الحدود. ففي حال ظهور معرفة جديدة في منطقة ما، فإنها تنتشر خلال فترة وجيزة في مختلف أنحاء العالم، ويصبح استخدامها متاحًا في الوقت عينه في مختلف البلدان.
استناداً إلى ما تقدم يمكن القول بأن من أهم خصائص الاقتصاد المعرفي توظيف العلم والتكنولوجيا على نحو متعاظم ومستمر في ميادين الاقتصاد كافة، ودور المعرفة كعامل حاسم في عملية الإنتاج. فقد حلَّت هذه المعرفة في المكان الأول محل رأس المال، وغدت المصدر الرئيسي للنمو، وباتت تستثمر كعنصر أساسي لتعزيز الميزة التنافسية للشركات والبلدان.
الأصول المعرفية
والاقتصاد المعرفي هو اقتصاد اللاوزن واللاحجم. وتتمثل أصوله الأساسية في الأصول المعرفية. فصارت الملكية الفكرية هي محور هذا الاقتصاد، وصار من الضروري حماية هذه الملكية. وليس من قبيل الصدفة أن تكون مسألة حماية الملكية الفكرية واحدة من أهم المهمات التي تسعى منظمة التجارة العالمية إلى تحقيقها وتعميمها.
وعلى عكس قيمة الأصول المادية التي تتسم بالثبات النسبي، لا بل تحتفظ بجزء أساسي من قيمتها حتى في حال عدم استخدامها، فإن الأصول المعرفية تفقد قيمتها إن لم تُستخدم، كما أنها قابلة لأن تفقد قيمتها بسرعة حالما تظهر معرفة أو تكنولوجيا أكثر حداثة. وقد بدأ التغيُّر في القيمة من الأصول المادية إلى الأصول المعرفية يظهر جليًّا في مختلف جوانب الاقتصاد العالمي. فالملكية المادية تصبح أقل أهمية وقيمة، أما الملكية الفكرية فتعتبر الذهب الأثيري الجديد.
لقد كان الاقتصاد في العصر الصناعي هو اقتصاد الحركة البطيئة نسبيًا، حيث كان يعتمد وسائل النقل التقليدية. أما الاقتصاد المعرفي فهو اقتصاد الحركة فائقة السرعة، ويعتمد على الأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت. لقد أصبح من الممكن إنشاء شركات “رشيقة” وافتراضية، وكذلك أسواق افتراضية تُستثمر خلالها معايير السرعة وتُذلَّل العقبات التقليدية، حيث تقوم التجارة والأعمال على مدار الساعة وفي كل أنحاء العالم. وتعتبر التجارة الإلكترونية من أبرز تجليَّات ظاهرة كسر حاجزي الزمان والمكان في الاقتصاد الجديد.
لقد انعكس ذلك كله، ليس على طبيعة عمل الشركات فحسب، بل وعلى سلوك المستهلك أيضًا. فالمستهلك المعاصر صار أكثر تطلبًا وأكثر ولعًا بكل ما هو جديد. وإذا ما تأملنا عالم التجارة اليوم، فسنرى أن من يتصدر الأسواق في شتى المجالات هو تلك الشركات التي تنجح أكثر من غيرها في تلبية متطلبات المستهلكين، من خلال التجديد المتواصل والتنويع المتزايد لتشكيلة سلعها ذات المحتوى المعرفي، الشركات الأكثر سرعة في مجاراة التبدل في حاجات المستهلكين وأذواقهم. وأصبح التسارع الهائل في وتيرة الإنتاج والاستهلاك في ضوء الاقتصاد المعرفي سمة رئيسية من سمات الاقتصاد العالمي المعاصر.
بناء على كل ما تقدم يمكن تعريف الاقتصاد المعرفي بأنه ذاك “الاقتصاد الذي يشكل فيه إنتاج المعرفة وتسليعها وتوزيعها واستخدامها، المحرِّك الرئيسي لعملية النمو المستدام ولخلق الثروة وفرص التوظيف في كل المجالات وتعزيز القدرات التنافسية. إنه يقوم على أساس إنتاج المعرفة واستخدام ثمارها وإنجازاتها، بحيث تشكل مصدرًا رئيسيًا لثروة المجتمع ورفاهيته”.