أعجوبة الدورة المائية.. حكاية علمية أبطالها خصائص الماء الفريدة
لا يوجد في كل ما نعرفه من قصص العلوم شبيه لقصص الماء، لأن ذلك الجزيء الصغير يحوي صفات كثيرة ملائمة للحياة، وهو أمر لا يدانيه أي تصور في أكثر قصص الخيال العلمي غرابة وخيالاً
م. فداء الجندي
كاتب ومترجم متخصص بالموضوعات العلمية (تركيا)
العدد 113، إبريل، 2021
أدرك الإنسان منذ فجر التاريخ وجود دورة مائية على كوكب الأرض، تبدأ من تبخر مياه المحيطات والبحار، بحرارة الشمس، وتنتهي بعودتها إلى الأرض مطراً هاطلاً على اليابسة، ينتهي به المطاف في البحر من جديد، مروراً بتكوين السحب ونشوء العواصف.
لكن الذي لم يدركه الإنسان حتى العصر الحديث، أن ما بين تبخر الماء من البحار وعودته إليها، قصة رحلة طويلة مفعمة بالعجائب والغرائب، بل والمعجزات، تسطرها قطرات الماء بلغة غاية في البلاغة، أبطال هذه القصة هم الخصائص الفريدة العجيبة للماء.
وعن بعض تلك العجائب يقول العالم مايكل دينتون Michael Denton في كتابه عجائب الماء The Wonder of Wate: “لا يوجد في كل ما نعرفه من قصص وحكايا العلوم شبيه لحكايا الماء، لأن ذلك الجزيء الصغير (المؤلف من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين) يحتوي على عدد كبير من الصفات الملائمة للحياة، وهو أمر لا يدانيه أي تصور في أكثر قصص الخيال العلمي غرابة وخيالاً”.
سائل الأطوار الثلاثة
بداية فصول حكاية الدورة المائية هي عمليات التبخر من السطوح المائية: البحار والمحيطات والأنهار. وقد يبدو لنا حدث التبخر بسيطاً، لكن الأرقام تقول غير ذلك؛ إذ يبلغ حجم الماء الذي يتبخر من المحيطات سنوياً ما يعادل سماكة متر كامل من سطوحها، أي ما يعادل حجماً قدره 875 مليون متر مكعب يومياً. وبحسبة بسيطة نجد أن ما يتم نقله خلال 3100 سنة يعادل الحجم الكامل لكل البحار والمحيطات الموجودة على الكرة الأرضية.
وكلنا يعلم أن الماء المتبخر من البحار يتكثف ليصبح سحاباً، ثم يعود للأرض سائلاً على شكل أمطار، أو صلباً على شكل ثلج وبرد، فنرى الثلج يكسو المناطق القطبية ورؤوس الجبال، والماء يغمر الأرض وبشكل السيول في المناطق الأخرى. وهنا تصادفنا الخاصة الأولى من خصائص الماء العجيبة، وهي أنه المادة الوحيدة في الطبيعة التي قد توجد على شكل صلب أو سائل أو غاز (بخار) في بيئة الكرة الأرضية، فجميع العناصر والمواد الأخرى لا توجد في مجال درجات حرارة مناخ الأرض إلا في حالة واحدة: سائلة أو صلبة أو غازية، أما الماء فيوجد في الحالات الثلاث، فيحدث التبخر من المحيطات والبحار، وتبقى البحار على سيولتها، وتكتسي الجبال والمرتفعات في الشتاء بطبقات من الثلج، ولولا إمكانية وجود الماء بهذه الأطوار الثلاثة في بيئة الكرة الأرضية لما أمكن أن يكون هناك دورة مائية.
وسبب هذا الظاهرة هو إحدى العجائب التي يتفرد بها الماء عن غيره من المركبات التي تقارب أوزانها الذرية الوزن الذري للماء، ومقداره 18، إذ من المعلوم أن درجة حرارة غليان وتجمد أي مركب كيميائي لها علاقة بوزنه الذري، وأن المركبات ذوات الأوزان الذرية المتقاربة تتقارب أيضا في درجات حرارة غليانها وتجمدها، باستثناء الماء الذي تبتعد درجاته تلك بشكل كبير جداً عن مثيلاتها في المركبات المقاربة لوزنه الذري. فمثلاً، من أقرب المركبات للماء وزنا ذرياً النشادر والميثان، النشادر وزنه الذري 17، ودرجة حرارة تجمده هي (-78) ودرجة حرارة غليانه، أي تبخره ليتحول من سائل لغاز هي (-33). والميثان وزنه الذري 16، و درجة حرارة تجمده هي (-182) ودرجة حرارة غليانه، هي (-162). والبون شاسع بينهما وبين الماء الذي يغلي عند الدرجة (100) ويتجمد عند الدرجة (0).
ويقول العلماء إن الماء لو حذا حذو غيره من المركبات المتقاربة معه في الوزن الذري، لوجب أن تكون درجة تجمده (-100)، ودرجة غليانه (0)، ولما أمكنه آنذاك أن يوجد بأطواره الثلاثة: الصلبة والسائلة والغازية في المجال المناخي الأرضي، ولما كانت هناك دورة مائية، ولما كانت هناك حياة على وجه الأرض.
غذاء لإنبات الأرض
المرحلة التالية في الدورة المائية بعد التبخر هي تشكل السحب ثم هطول الأمطار والثلوج. وقد يتبادر إلى الذهن أن الدور الوحيد الذي تقوم به الأمطار هو سقاية الأرض من أجل إنبات النباتات والأشجار. وعلى الرغم من الأهمية الشديدة لهذا الدور، فإن هناك دوراً آخر لا يقل عنه أهمية يؤديه الماء، ومن دونه ما كانت الأرض لتنبت شجراً ولا كلأً، وهو تزويد الأرض بما يلزمها من فلزات ومعادن وأملاح، تشكل في مجموعها الغذاء الذي يحتاج إليه النبات لينمو.
كيف يقوم الماء بذلك؟ يقوم به بواسطة أبطال الفصل الثاني من حكاية الدورة المائية. وهؤلاء الأبطال هم مجموعة من خصائص الماء الفريدة التي تتعاون على أداء مهمة تزويد الأرض بالغذاء اللازم للنباتات. وأولى هذه الخصائص هي قدرة الماء الفائقة على الإذابة، فهو السائل الوحيد الذي تذوب فيه معظم عناصر الطبيعة، فعندما ترتطم حبات المطر بالصخور، يقوم الماء بعملية حت وتعرية لهذه الصخور بواسطة قدرته الفائفة على الإذابة، ويساعده على هذه العملية وجود جزيئات من حمض الكربون المذابة فيه أصلاً، والناتجة عن تفاعل الماء مع غاز ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء. ومعروف أن حمض الكربون يحفز العديد من التفاعلات الكيميائية مع المعادن الموجودة في الصخور، ما يساعد على إذابتها.
وهناك أبطال آخرون يساعدون قدرة الماء على الإذابة ومن ثم استخلاص المعادن والغذاء من الصخور، الأول هو خاصة التوتر السطحي للماء التي تتيح له أن يندس في شقوق ومسام الصخور فيملأها، والثاني هو أن الماء من بين كل عناصر الطبيعة يتمدد عندما يتجمد، وعندما يتجمد الماء شتاءً داخل مسام الصخور يتمدد ويزداد حجمه بمقدار يصل إلى 10%، فيشكل تمدده ضغطاً كبيرا على جدران الشقوق والمسام الصخرية يؤدي إلى تفتت تلك الجدران، فينتج عن ذلك الحصول على المزيد من ذرات تربة مشبعة بالعناصر المعدنية المغذية للنبات، إضافة إلى زيادة مساحة السطوح الصخرية التي تلامس الماء وتتفاعل معه، ليؤدي دوره في الإذابة.
نقل الغذاء إلى الأرض الزراعية
تتجمع مياه الأمطار الهاطلة على الصخور في الجداول والسيول والشلالات في رحلة العودة إلى البحار والمحيطات، حاملة معها ما لذ وطاب من الغذاء للنباتات والأشجار. ورحلة العودة هذه ما كانت لتتم لولا بطل آخر من أبطال قصتنا المشوقة، ألا وهو لزوجة الماء التي يكتسب بسببها قدرته الفائقة على التنفل في الجداول والشلالات، وعلى أن يسيل على سفوح الجبال بعد أن يقوم بعملية الحت والتعرية، وتساعده على المزيد من حت وتعرية القشرة الأرضية، لأن الجزيئات الصخرية التي يحملها الماء اللزج بعد أن قام بتعريتها من الصخور تعمل كالمبرد في القشرة الأرضية التي يمر عليها الماء الجاري أثناء رحلة الرجوع، فتحمل المزيد من التربة الناعمة المشبعة بالغذاء، ثم تلقي بحمولتها الثمينة من غذاء النباتات في الأراضي المنخفضة التي تمر بها.
تتفاوت درجة لزوجة السوائل بين سائل وآخر، ودرجة لزوجة الماء مثالية تماماً لتقوم بعملية الحت والتعرية ونقل نواتج هذه العملية المهمة. ولو كان الماء أقل لزوجة، فسيكون جريانه بطيئاً جداً، وسيترك خلفه العديد من المسطحات الأرضية مغطاة بماء يشبه قوامه قوام العسل اللزج، ما يشكل تهديداً للحياة على اليابسة؛ لأنه سيترك الكثير من الأراضي دون أن يصلها الماء، ولأن اللزوجة العالية ستمنع الماء من أداء دوره في سقاية الأرض إذا وصل إليها. ولو كان الماء أقل لزوجة مما هو عليه، فإن قدرته على حمل ذرات الرمل والمواد التي نحتها من الصخور ستقل بشكل كبير، وسيصل إلى الأراضي القابلة للإنبات خالي الوفاض من التربة المشبعة بغذائها من معادن وفلزات وأملاح استخلصها الماء في عملية الحت والتعرية.
دور الجليد في الحتّ والتعرية
عندما يحل الربيع، يبدأ الجليد المتشكل في المناطق القطبية وعلى رؤوس الجبال والمرتفعات بالذوبان ببطء. وخلال ذوبانه تبدأ الكتل الجليدية بالانزلاق على السطوح الصخرية، فتقوم بما يشبه عملية طحن للصخور، وتحول سطوحها إلى رمل ناعم لا يزيد قطر حباته عن أجزاء من المليمتر، فيزيد ذلك بشكل كبير مساحة السطوح المعرضة لعمليات الحت والتعرية الكيميائية، ثم يجري الجليد بعد ذوبانه حاملا معه الرمل الناعم والغذاء الناتج عن التعرية الكيميائية ليحط بها في الأراضي المنخفضة، ليرفد بذلك ما تقوم به مياه الأمطار.
وهنا أيضا تؤدي الخصائص الفريدة للماء دورا مهماً في هذه العملية، لأن لزوجة الجليد، وهو الماء المتصلب، تزيد عشر مرات عن لزوجة الصخور، فتستطيع الانزلاق فوقها، ولو كانت لزوجة الجليد مساوية أو قريبة من لزوجة الصخور، لما انزلق الجليد فوق الصخور ليفعل فعله الذي ذكرنا.
تخزين الماء في التربة
ها قد وصل الماء المحمل بالمعادن والأملاح وكل ما يلزم لتغذية النبات وإحياء الأرض إلى مقصده، ولكن حتى يستفيد النبات من الماء فلا بد من تخزينه في التربة، لأن المطر لا يهطل على مدار السنة في حين أن النبات يحتاج للغذاء والماء بشكل مستمر.
وهنا يتدخل أحد أبطال قصتنا، وهو الخاصة الشعرية للماء، والناتجة عن التوتر السطحي العالي له، والتي لا يكاد يشاركه فيها أي سائل آخر. فهذه الخاصة التي يتفرد بها الماء، وكل خواصه فريدة، تؤدي إلى بقائه معلقاً ضمن ذرات التربة الدقيقة وفي تجاويفها المجهرية، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولا غنى عنه من أجل ضمان بقاء الماء في طبقات التربة العليا حول جذور النباتات. ولولا هذه الخاصة لرشح الماء إلى باطن الأرض ولما بقي منه شيء في طبقات التربة العليا ليمتصه النبات فيحافظ على نموه وبقائه.
هذا وإن الخاصة الشعرية للماء، تؤدي دورا جوهريا آخر بعد استقرار الماء في التربة وتخزينه فيها، فلولا تلك الخاصة لما تمكنت جذور النباتات من امتصاص الماء وما يحمله من غذاء، ولتبدأ فصول قصة جديدة مبهرة من قصص الماء العجيبة في الطبيعة، وهي ما يقوم به من عمل داخل النباتات، ولا سيما عملية التركيب الضوئي.
خاتمة الحكاية
وهكذا رأينا الكيفية التي تعاون بها أبطال قصتنا على كتابة فصولها، وهم: لزوجة الماء، وخاصته الشعرية، وقدرته الفائقة على الإذابة، والتي يعززها سهولة تفاعله مع غاز ثاني أوكسيد الكربون وتكوين حمض الكربون، وقدرته المتفردة بين كل العناصر على التواجد سائلا وصلباً وبخاراً في مجال حرارة الأرض.
لقد رأينا الكيفية التي شكل بها هؤلاء الأبطال ما يشبه فرق عمل مستقلة، كل فرقة تتألف من بطل أو أكثر، أعني خاصة أو أكثر من خصائص الماء الفيزيائية والكيميائية، ليعملوا بتسلسل وتناسق مدهشين على تنفيذ الدورة المائية التي زودت اليابسة بالماء على مدى ملايين السنين، واستخلاص غذاء النبات من الصخور الصماء، ثم نقله إلى التربة وتخزينه فيها بحيث تستطيع جذور النباتات امتصاصه، قبل أن يعود الماء من جديد إلى البحار والمحيطات.
لا عجب إذا علمنا أن معظم العلماء الغربيين المختصين بالعلوم الطبيعية، الذين تناولوا في أبحاثهم وكتبهم الأدوار الحيوية والجوهرية التي تقوم بها خصائص الماء الفريدة من أجل بقاء الحياة بكل أنواعها على كوكبنا الأرضي، ومن بينها دوره في الدورة المائية، قد توصلوا جميعاً إلى نتيجة مهمة سطروها في كتبهم وأبحاثهم؛ وهي أن وراء الماء تصميما هائلا مذهلا، لا يمكن لأي تصميم بشري أن يقترب من إبداعه.