د. طارق قابيل
يقف العالم على أعتاب الثورة الرابعة في تاريخ البشرية بعد أن بلغت «الثورة الصناعية الثالثة» ذروتها. ووصف المشاركون في منتدى دافوس العالمي الذي اختار عنوان «الثورة الصناعية الرابعة» شعارا لدورته الـ 46، هذه الثورة بمثابة «تسونامي» التقدم التكنولوجي الذي سيغير الكثير من تفاصيل الحياة البشرية. وتدعم التكنولوجيا الحيوية ما يسمى «بالاقتصاد الحيوي» أو استخدام البيولوجيا لتحفيز التقدم في الزراعة والإنتاج الصناعي والطاقة النظيفة والصحة وحماية البيئة. إن التقدم في التكنولوجيا الحيوية، والمنصات التقنية المرتبطة بها مثل علوم الوراثة والمعلوماتية الحيوية، وغيرها يسهم في ابتكار طرق جديدة لمعالجة مشكلات عديدة تواجه الصناعة، وسيشكل رافدًا أساسيًا من روافد الثورة الصناعية الرابعة.
اتجاهات حديثة
تعتمد الثورة الصناعية الرابعة على الثورة الرقمية، التي تشكل فيها التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع وحلقة وصل بين العالم المادي والرقمي والبيولوجي، وتتميز باستخدام التكنولوجيا المتقدمة في مختلف المجالات لتحسين الكفاءة، وتعزيز التطورات والنمو.
وترتكز هذه الثورة على العديد من المحاور، بما فيها الدمج بين التكنولوجيا المادية والرقمية والحيوية. وتتميز التكنولوجيا المادية بسهولة التعرف إليها نظراً لطبيعتها الملموسة، ومنها السيارات الذاتية القيادة، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والروبوتات. وتتلخص التكنولوجيا الرقمية في «إنترنت الأشياء» والبيانات الضخمة، أما التكنولوجيا الحيوية، فتعتمد اعتمادا كبيرا على علوم الوراثة والمعلوماتية الحيوية وتطبيقاتها العديدة التي تتطور بشكل متسارع، وتكاد تتداخل مع شتى مجالات الحياة.
وتغطي الابتكارات المؤدية للثورة الصناعية الرابعة العديد من المجالات والتقنيات الحديثة، ومنها التكنولوجيا الحيوية التي يُنتظر أن تؤدي إلى تطور ملموس وتغييرات جذرية في مجالات الصحة والزراعة والصناعة.
واستخدم الاقتصادي الزراعي المجري (كارل إيركي) مصطلح التكنولوجيا الحيوية للمرة الأولى عام 1919 ليعني به «كل خطوط العمل المؤدية إلى منتجات، ابتداءً من المواد الأولية، بمساعدة كائنات حية». ثم توسع التعريف ليشمل إنتاج مواد بمساعدة كائنات حية كالأنزيمات والكتلة الحيوية، ثم تم تضييق التعريف ليركز على تكنولوجيات جديدة بدلاً من عمليات الإنتاج التقليدية. وقسم العلماء فروع التكنولوجيا الحيوية، وأصبح لكل فرع لون مميز تعرف به. التكنولوجيا الحيوية الحمراء هي التكنولوجيا الحيوية في المجال الطبي، من أمثلتها إنتاج المضادات الحيوية من الكائنات الحية واستخدام الهندسة الوراثية لمعالجة الأمراض، وإنتاج أدوية خاصة بالمحتوى الجيني لفرد ما. والتكنولوجيا الحيوية الخضراء هي التكنولوجيا الحيوية في المجال الزراعي، ومن أمثلتها إنتاج النباتات المعدلة وراثيًا. والتكنولوجيا الحيوية الزرقاء هي التي تتعامل مع عالم البحار والكائنات البحرية. أما التكنولوجيا الحيوية البيضاء فهي من أكثر المجالات انتشارا، وقد أدخلت العديد من التعديلات على صناعات قديمة (كالورق والبلاستيك) وهي المعروفة أيضًا بالتكنولوجيا الصناعية.
التكنولوجيا الحيوية والثورة الجديدة
عندما ظهرت التكنولوجيا الحيوية الحديثة في أواخر السبعينيات، تم تطبيقها للمرة الأولى في قطاع الصحة. وبعد عقد واحد، وصلت المناهج الجزيئية نفسها إلى الصناعات الزراعية والغذائية. وحديثا، بدأ علماء التكنولوجيا الحيوية في إثراء قدرات العمليات الميكروبية الصناعية بجلب جينات جديدة وتعديل جينوماتها لتناسب حاجات الإنتاج المحددة مسبقًا.
وتعول الثورة الصناعية الرابعة على التكنولوجيا الحيوية البيضاء كرافد من أهم روافدها؛ حيث شهدت التكنولوجيا الحيوية الصناعية تقدمًا مذهلًا خلال العقود الثلاثة الماضية، بما في ذلك الصناعات التحويلية والطاقة البديلة، والمواد الحيوية، واستخدام الكائنات الحية لإنتاج مواد كيميائية مطلوبة للاستخدام التجاري حيويًا بدلاً من إنتاجها صناعيًا، وتشمل أيضًا التصنيع الدوائي وإنتاج الفيتامينات، والمعالجة الخاصة للأنسجة والجلود، وإنتاج البلاستيك القابل للتحلل العضوي، وغيرها من الاستخدامات الصناعية.
ومع ذلك فإن ثورة التكنولوجيا الحيوية البيضاء أو الإنتاج الصناعي المستقبلي مازالت في بدايتها، ولكن من شأنها أن تغير وجه صناعات كثيرة إلى الأبد، وتقدم العديد من الحلول الاقتصادية الحيوية الجديدة للطاقة والإنتاج الكيميائي والبلاستيك الحيوي والصيدلة، ووضع معايير جديدة في الإنتاج الشامل للإسهام في تقدم اقتصاد عالمي مستدام في العالم.
تحرير الجينوم للكائنات
ويعد تحرير الجينوم للكائنات الحية، بما في ذلك الكائنات الدقيقة والنباتات والحيوانات، أمرًا مثيرًا للعديد من التطبيقات المحتملة. ومع هذه التطورات، يمكننا تعزيز إنتاج المواد الكيميائية الحيوية، وزيادة الإنتاج الغذائي والحفاظ على قيمة غذائية أفضل، و تصنيع أجهزة لزراعة الأعضاء. كما تتطور الهندسة الأيضية والبيولوجيا التركيبية بسرعة كبيرة. وقد أدى ذلك إلى إنتاج العديد من المواد الكيميائية، والوقود، ومواد من الكتلة الحيوية المتجددة، بدلاً من الاعتماد على الموارد الأحفورية.
ومع ذلك، فإن ظهور بيولوجيا النظم في نهاية التسعينيات، والبيولوجيا التركيبية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، غيرا بالكامل لعبة تصميم الكائنات الدقيقة، وحتى النظم الحية الأعلى، كعوامل لتحويل المواد الأولية المتنوعة إلى منتجات ذات قيمة عالية على نطاق صناعي. ويمكن الآن إعادة برمجة بعض البكتيريا والخمائر، التي عرفتها الصناعة منذ فترة طويلة، وراثيًا لإنتاج الليبيدات المستخدمة كمواد أولية للوقود الحيوي، وحتى المواد الكيميائية غير الطبيعية مثل البنزين وحمض التريفثاليك يمكن إنتاجها حاليا عن طريق الهندسة الأيضية.
إضافة إلى ذلك، أنتجت التكنولوجيا الحيوية المعاصرة مواد حيوية كالسكريات المتعددة (السليولوز الميكروبي)، والبروتينات (حرير العنكبوت)، وحتى البوليمرات الاصطناعية عن طريق الكائنات الدقيقة المصممة وراثيًا. وقد تم تصميم بعض السلالات بنجاح لإنتاج طيف واسع من البوليستر البيولوجي لاستخدامه في التغليف الصديق للبيئة والأدوية والمواد الذكية.
ثورة في الرعاية الصحية
جاءت القضايا المتعلقة بالصحة في مقدمة جدول أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في دافوس بسويسرا عام 2016. وتضمَّنت المناقشات تقريرًا للمنتدى، يتنبأ باحتياج 85 شركة دوائية إلى نماذج تجارية جديدة؛ لتحفيز تطوير المضادات الحيوية لمكافحة العدوى المقاوِمة للأدوية. ويمكن أن تساعد التكنولوجيا الحيوية على معالجة القضايا الوطنية الكبيرة مثل الرعاية الصحية؛ حيث يبلغ الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية حالياً 8 تريليونات دولار أمريكي، ويستفيد أكثر من 350 مليون مريض في جميع أنحاء العالم من الأدوية المصنعة بالتكنولوجيا الحيوية.
تمثل التكنولوجيا الحيوية في مجال الرعاية الصحية أكثر من 50 ٪ من جميع الأدوية المسوقة، وهذه النسبة تتزايد بشكل مطرد. ويقود هذا العمل الكبير في مجال الرعاية الصحية الحيوية أكثر من 1700 شركة تبلغ قيمتها السوقية أكثر من 17 بليون يورو في أوروبا وحدها.
ونشهد حاليًا بعض التطورات المذهلة في مجال الرعاية الصحية والقطاع الطبي. وأصبحت المركبات الطبيعية الجديدة الشديدة التعقيد من المصادر الحيوية مناسبة للأغراض الصيدلانية، وسيساعد العلاج بالخلايا الجذعية، وتكنولوجيات مثل الوقاية الفعالة من الأمراض، وبرامج الرفاهية، والطب الدقيق، وتحرير الجينوم، وإنتاج الأعضاء البشرية، على التصدي للتحديات الصحية الناجمة عن شيخوخة السكان.
انتشار التكنولوجيا الحيوية
في المستقبل القريب، ستصبح التكنولوجيا الحيوية شائعة، وسيكون هناك عدد أكبر من شركات التكنولوجيا الحيوية، بجانب عدد متزايد من الشركات الاستثمارية. في القرى الصغيرة أو حتى في المنازل، سيمكنك استخدام التكنولوجيا الحيوية، كما هو الحال في روايات الخيال العلمي، ببساطة مثل أن تطلب من آلة ما أن تصنع لك بعض المواد الكيميائية المنزلية التي تحتاج إليها، ويمكن لمحولات القمامة المستندة إلى التكنولوجيا الحيوية التخلص من النفايات بشكل آمن يحافظ على البيئة. لذا، بحلول عام 2030، من الواقعي القول إن التكنولوجيا الحيوية ستصبح جزءًا من حياتنا، من الطب والعلاج إلى المواد الكيميائية والوقود والمواد الصديقة للبيئة.
حاصل القول، توفر الثورة الصناعية الرابعة فرصاً واسعة للمجتمعات البشرية كي تحقق معدلات عالية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية عموماً، بتخفيضها لتكاليف الإنتاج، وتساهم في رعاية صحية أفضل للإنسان. وستُحدث تغييراً جوهرياً في طريقة عيشنا وعملنا وعلاقتنا ببعضنا بعضاً؛ فهي إيذان ببداية فصل جديد في تاريخ التنمية البشرية، حيث تزودها التطورات التكنولوجية المذهلة بالإمكانات الضخمة. إن هذه الثورة، تدفعنا إلى أن نعيد التفكير في الكيفية التي تتطور بها بلداننا، ويمكن استغلالها بشكل إيجابي في خدمة اقتصادات الدول، والمساهمة في خلق فرص جديدة للتنمية الاقتصادية. لكن ذلك يتوقف على إمكانات الدول وما تتمتع به من بنى تكنولوجية، وقدرتها على تطوير نُظمها التعليمية وتوظيفها، وتعزيز مهارات موظفيها وإكسابهم الخبرات التي تساعدهم على التعامل مع هذه التطورات التكنولوجية المقبلة.