د. فخري حسن
أهمية العلم والبحث العلمي ودورهما في تطور المجتمع اقتصادياً واجتماعياً واضحة للجميع، وأظهر تقرير للبنك الدولي أن تقدم الاقتصاد ونموه يعتمد أساساً على تراكم المعرفة والعلوم أكثر مما يعتمد على رأس المال. ولقد ساهم العرب في الماضي بدور رائد في العلم والبحث العلمي، وطوروا مختلف العلوم مثل الفيزياء والكيمياء والطب والفلك. واهتم الخلفاء والولاة العرب بالعلم والعلماء، وقدروا أعمالهم ووزنوها بالذهب، مما أدى إلى نهضة علمية كبيرة.
واستنبط الخوارزمي علم الجبر وحل المعادلات الخطية والتربيعية مستخدماً ما يعرف بالخوارزميات التي تستخدم في الوقت الحاضر لبرمجة الحواسيب، ووضع الحسن بن الهيثم أسس علم البصريات قبل نيوتن بأكثر من سبعة قرون. وهنالك الكثير من العلماء الذين ساهموا في تطوير الحضارة البشرية.
أما حاليا فلا توجد سياسة حقيقية واضحة المعالم للبحث العلمي في كثير من الدول العربية. وأظهر تقرير منظمة اليونسكو لعام 2010 عدم وجود استراتيجية وطنية للعلوم والتكنولوجيا في معظم الدول العربية، وتتبع مراكز الأبحاث لمؤسسات الدولة (الوزارات أو الجامعات أو مؤسسات حكومية أخرى)، ويضع استراتيجية هذه المراكز وسياستها رجال السياسة بعيداً عن آمال العاملين فيها وطموحاتهم.
الإدارة والتمويل
وتعاني هذه المراكز سُوءَ الإدارة والبيروقراطية الحَكومية وضعف التمويل، مما يعوق عمل الباحثين. ويعمل الباحثون في هذه المراكز بصوره فردية أو من خلال مجموعات صغيره لتحقيق أهداف قصيرة الأمد لا علاقة لها بمشكلات المجتمع المحلي وحاجاته. وتنحصر الأهداف غالباً في أمور يسيرة شخصية مثل الحصول على ترقية أكاديمية أو تحسين الوضع الوظيفي.
وتغيرت الصورة إلى حدِّ ما في بعض الدول العربية في العقد الماضي؛ إذ وضع الباحثون في تلك الدول استراتيجية واضحة لمراكزهم العلمية، وتضمنت تلك الاستراتيجية رؤية وأهدافا محددة تم ربطها بمشكلات المجتمع المحلي وحاجاته.
تجارب جديدة ناجحة
وحدثت مثل هذه التجارب الجديدة في لبنان والمملكة العربية السعودية والأردن وتونس والجزائر والمغرب وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة.
ففي لبنان مثلاً عمل فريق من الخبراء مدة ثلاث سنوات على تحديد نقاط القوة والضعف في النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي، ودُرست الحاجات والتحديات التي تواجه المجتمع اللبناني، ومن ثم صيغت استراتيجية واضحة المعالم مع أهداف ونشاطات لتحقيقها ومؤشرات لقياس النجاح والفشل خلال هذه العملية.
وفي المملكة العربية السعودية تم تنفيذ الخطة الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار عام 2008، مما ضاعف عدد الأبحاث العلمية المنشورة وبراءات الاختراع في الأعوام التالية.
وفي الأردن فإن القيادة السياسية تشرف على استراتيجية وطنية لخلق صناعة حديثة في مجال الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات وتتابعها، وثمَّة مشروعات تعليمية ضخمة تشارك فيها شركات عملاقة مثل مايكروسوفت وسيسكو. ويتوقع أن يظهر أثر هذه التطورات الحديثة في المستقبل القريب.
تمويل البحث العلمي
هنالك علاقة وثيقة بين الناتج الإجمالي المحلي (GDP) والنشر العلمي وبراءات الاختراع في الدول الصناعية. وتؤدي زيادة الناتج المحلي بالضرورة إلى زيادة الإنفاق على البحث العلمي وزيادة النشر العلمي والاختراع والابتكار في هذه الدول، لكن مثل هذه العلاقة مفقودة في الوطن العربي؛ إذ إن زيادة الناتج المحلي لا تعني بالضرورة زيادة النشر العلمي والابتكار. وإنَّ دولاً فقيرة نسبياً – مثل الأردن وتونس والمغرب – تحقق في مجال النشر العلمي أكثر مما تحققه دول عربية غنية. والإحصائيات عن البحث العلمي في الوطن العربي قليلة والأرقام متضاربة في كثير من الأحيان.
وذكر تقرير المعرفة العربي لعام 2009 أنَّ ست دول عربية فقط، هي الأردن وتونس والجزائر والمغرب والكويت والسودان، قدمت معلومات وافيه حول البحث العلمي فيها لمنظمة اليونسكو.
ويتضح من إحصائيات نشرتها منظمة اليونسكو أنَّ مساهمات الدول الصناعية في تمويل البحث العلمي تقدر بنحو %85 من الإنفاق العالمي. وتساهم الدول الصناعية الفتية الجديدة وهي الصين والهند والبرازيل في نحو %11 من هذا الإنفاق. وتساهم بقية دول العالم بما فيها الدول العربية في نحو %4 من الإنفاق العالمي على البحث العلمي.
ويشكل سكان الوطن العربي نحو %4.3 من سكان المعمورة، ويقدر الدخل في بلادنا بنحو %2 من الدخل العالمي، ومع ذلك فإن إنفاق الوطن العربي على البحث العلمي لا يتجاوز %0.13من الإنفاق العالمي. وتعتبر هذه النسبة متدنية جداً، وهي الأدنى إذا ما استثنيت دول الصحراء الإفريقية التي تعاني الفقر والمجاعة.
وأكد ذلك أنطوان زحلان في دراسة قدمها في مؤتمر المعرفة الأول (دبي 2007)، حين قدر أن الوطن العربي ينفق على البحث العلمي نحو مليار دولار سنوياً أي نحو %0.1 من الناتج المحلي، وهذه من أقل النسب في العالم. وتظهر معظم الدراسات أن نسبة إنفاق معظم الدول العربية على البحث العلمي تراوح بين %0.1 و%0.3 من الناتج المحلي.
وتعتبر تونس من أكثر الدول العربية إنفاقاً على البحث العلمي بنسبة %1.3 من الناتج المحلي، تليها المغرب بنسبة 0.75. وعلى الرغم من أنَّ سكان الوطن العربي يشكلون نحو %4.3 من سكان المعمورة، فإن مساهمتهم في النشر العلمي العالمي – بسبب ضعف التمويل ومشكلات أخرى – أقل من %1 من النشر العالمي. وللمقارنة فإن سكان المملكة المتحدة يشكلون %1 من سكان العالم ومع ذلك فإن النشر العلمي فيها يمثل %8 من النشر العالمي.
وأوصى مؤتمر القمة العربي بالرياض (2007) بزيادة تمويل البحث العلمي في الوطن العربي ليبلغ نسبة %2.5 من الناتج المحلي، كما أوصى بزيادة تعاون الباحثين في الوطن العربي وإنشاء مراكز تميز في البحث العلمي في موضوعات ذات أهمية بالنسبة للوطن العربي، مثل الطاقة الشمسية والمياه والبيئة والزراعة والتصحر.
واتخذت قطر قراراً في عام 2008 بزيادة مخصَّصات البحث العلمي لتبلغ %2.8 من الإيرادات العامة للدولة. وقد حازت قطر المرتبة الأولى في جودة البحث العلمي عربيا وكان ترتيبها 30 على مستوى العالم، وتقدمت على تركيا تبعاً لتقرير المعرفة العربي عام 2009 والمنتدى الاقتصادي العالمي (2008 – 2009). وحصلت أربع دول عربية هي: تونس والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت، على مواقع متوسطة مقبولة في التقرير ذاته.
واقع البحث العلمي
بين زحلان في مؤتمر المعرفة الأول بدبي أنَّ حال التعليم في الوطن العربي يشبه إلى حد كبير حال التعليم في كل من الهند والصين، وهي دول حققت إنجازات مهمة في مجال البحث العلمي والتطور خلال العقود الماضية.
وذكر أنَّ الوطن العربي لا يعاني نقصاً في الخبراء والكفايات العلمية، وعلى العكس من ذلك فإنه يعاني بسبب هجرة العلماء، ويخسر من العلماء بسبب ذلك بقدر ما تخسر الهند والصين مجتمعتين.
وبالنسبة إلى عدد السكان فإن الوطن العربي يخسر خمسة أضعاف ما تخسره الهند أو الصين نتيجة هجرة العلماء إلى الخارج.
ففي مصر التي لديها نحو نصف عدد الباحثين في الوطن العربي، فإن أكثر من نصف المبتعثين للدراسات العليا لا يعودون إلى مصر بعد حصولهم على درجاتهم العلمية التي ابتعثوا للحصول عليها.
وقد أظهرت تجارب السنوات الماضية أن نقل التكنولوجيا أو شراءها لن يؤديا إلى تطوير المجتمع؛ لأن هذه التكنولوجيا في حاجة إلى حاضنة أو بيئة مناسبة للمحافظة عليها وصيانتها وتطويرها، بدلاً من مجرد استخدامها.
وهذه البيئة غير متوافرة في معظم الدول العربية مما يضطر كثيرا من العلماء للهجرة إلى الخارج. وقد تم شراء أجهزة حديثة للبحث العلمي في القرن الماضي في بعض الدول العربية، لكن سرعان ما تعطلت هذه الأجهزة ولم تستخدم بعد ذلك على الرغم من تكاليفها الباهظة.
وتعاني مراكز الأبحاث في الوطن العربي بصورة عامة بسبب ضعف البنية التحتية، والنقص الشديد في فنيي الصيانة المؤهلين. كما تعاني هذه المراكز التي يتبع معظمها الدولة بسبب البيروقراطية وسوء الإدارة.
ومُعظَم الباحثين في الوطن العربي هم من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، وهم مثقلون بأعباء التدريس الجامعي، والتي هي ضعف أعباء التدريس في الدول الصناعية. وعلى عكس حال هذه الدول فإننا نادراً ما نجِدُ بَاحثين متفرغين في الوطن العربي.
تطوير البحث العلمي وتنشيطه
الوطن العربي غني بالكفايات والخبرات العلمية القادرة على تنفيذ أبحاث علمية لا تقل في نوعيتها عن تلك التي تنشر في الدول الصناعية. كما أن الناتج المحلي في كثير من الدول العربية أفضل كثيراً من الناتج المحلي في دول حققت إنجازات كبرى في البحث العلمي والتطور، مثل الصين والهند والبرازيل.
وربما يكون الوطن العربي بحاجة إلى قرار جاد لتطوير البحث العلمي والعمل بجد ومسؤولية وقناعة لتنفيذ هذا القرار على أرض الواقع.
ويبدو أن واقع البحث العلمي قد يتطور في غضون عشر سنوات مقبلة من خلال الأمور الآتية:
أولاً: حرية العمل الفكري والذهني والنشر بعيداً عن أعمال التجسس، التي تقتل الإبداع وتقضي على التطور. ولاشك في أن الناس قد تختلف في الفكر والعمل السياسي، لكن بصورة عامة وباستثناء حالات شاذة قليلة فإن الجميع يعمل من أجل خير الوطن والمجتمع والعلم.
ثانياً: تبني استراتيجية واضحة المعالم للبحث العلمي على ألا يترك البحث العلمي الممول بصورة رسمية للعمل الفردي. ويجب أن تحدد هذه الاستراتيجية رؤية واقع البحث العلمي بعد فترة محدودة (خمس سنوات مثلاً)؛ ما الذي نريد أن نحقق خلال هذه الفترة، وما النشاطات والأبحاث التي يجب تنفيذها لتحقيق ذلك. ويجب أيضاً استنباط مؤشرات لقياس النجاح أو الفشل. ويمكن للدول العربية أن تستفيد من تجربة لبنان التي كان لها السبق في هذا المجال.
ثالثاً: تحويل مراكز البحث العلمي للعمل المؤسسي ليكون العاملون فيها فريقاً واحداً بعيداً عن الفردية والتسلط، على أن يحكم هذه المراكز نظام إداري دقيق واضح، يشجع العمل والابتكار والنشاط، ويمنع الكسل والتواكل بين الباحثين.
ويجب أنْ يحدد النظام طريقة توظيف أصحاب الكفايات من خلال إعلانات تصل إلى الجميع، ويكون التنافس الشريف الشفاف طريقاً للحصول على الوظائف، ويجب أن يخضع من يقع عليهم الاختيار لمرحلة اختبار طويلة لمعرفة قدراتهم وإمكاناتهم في البحث العلمي.
رابعاً: إنَّ تمويل البحث العلمي أمر في غاية الأهمية، ويجب ألا تقل نسبة التمويل في البداية عن %1 من الناتج الإجمالي المحلي، ثم تزداد هذه النسبة بصورة تدريجية، كما أوصى مؤتمر القمة العربي في الرياض. ويجب تشجيع القطاع الخاص على المساهمة في تمويل البحث العلمي، من خلال تشريعات ضريبية مناسبة، ويمكن الاستفادة من تجربة تونس الرائدة في دعم البحث العلمي عن طريق زيادة يسيرة على مكالمات الهاتف النقال الذي يستخدمه معظم الناس حالياً.
والكويت التي خصصت جزءاً من أرباح الشركات الخاصة للمساهمة في تمويل البحث العلمي عبر مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، يمكنها كذلك زيادة جزء مالي صغير على فواتير الماء والكهرباء واستخدام نسبة صغيرة من أرباح أسواق المال والبورصات لدعم البحث العلمي.
خامساً: تحسين سبل الاتصال والتواصل بين الباحثين العرب باستخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الحديثة، وإنجاز قاعدة بيانات عربية خاصة بالبحث العلمي، تمكن الباحثين العرب من الوصول إليها بسهولة ويسر.
سادساً: التركيز في المَدى القصير على الأبحاث العلمية التي تحتاج إلى مختبرات وتجهيزات يمكن توفيرها بسهولة مثل الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات. وتحتاج مثل هذه الأبحاث إلى قدرات عقلية نملكها أكثر مما تحتاج إلى تجهيزات معقدة، ومعدات يصعب توفيرها. ويمكن أيضاً التركيز في البداية على أبحاث تعالج مشكلات الزراعة والمياه والطاقة الشمسية.. وغير ذلك من القضايا التي نحن في أمس الحاجة إلى معرفة أسبابها وحلولها.