د. وحيد محمد مفضل
لطالما ظل الفضاء الخارجي لغزاً محيراً يكتنفه الغموض ويثير تساؤلات كثيرة ويبعث بعضها أو جلها على الدهشة والحيرة، ولطالما ظل غزو الفضاء واستكشافه أمراً بعيد المنال، وهذا قبل أن تنجح جهود علماء الفلك ووكالات الفضاء الغربية وعلى رأسها وكالة الفضاء الأمريكية المعروفة اختصاراً باسم (ناسا)، في سبر كثير من أغواره والإجابة عن كثير من هذه التساؤلات، وقبل أن تنجح ناسا – تحديداً ودون غيرها- في تحقيق أكثر من اختراق وإنجاز علمي مشهود في هذا المجال، حفل كل منها بفوائد وتطبيقات عديدة، ليس فقط في مجال استكشاف الفضاء الخارجي والنظام الشمسي، بل أيضاً في كثير من مجالات الحياة المدنية.
ترى كيف تبوأت ناسا – وكالة الفضاء الأشهر والأكبر على مستوى العالم حالياً – هذه المكانة؟ وما هو تاريخها وأبرز المهام المكلفة بها؟ وكيف استطاعت كتابة اسمها وأسماء روادها وعلمائها بأحرف من ذهب في تاريخ استكشاف الفضاء وعلم الفلك؟ وما هي آفاق استغلال هذه النجاحات في تطبيقات الحياة المدنية وفي حياتنا المستقبلية عموماً؟
وكالة ناسا NASA أو وكالة الفضاء الأمريكية (National Aeronautics and Space Administration)، هي مؤسسة مدنية تابعة للحكومة الفدرالية الأمريكية، انبثقت في الأصل عن اللجنة الوطنية الاستشارية حول صناعة الطيران، وعدد آخر من الوكالات الحكومية التي تم ضمها تحت شعار ناسا. وتعتبر (ناسا) الجهة المسؤولة عن إدارة البرنامج الفضائي للولايات المتحدة إلى جانب التعاون مع الدول الأخرى في مجال أبحاث الفضاء ودراسات الكواكب وإطلاق المقاريب (التليسكوبات) والمهام الفضائية المدنية والعسكرية الطويلة المدى.
وقد أنشئت ناسا في يوليو من عام 1958، في عهد الرئيس آيزنهاور، بقرار من الكونغرس بغرض إحداث توازن مع برنامج الاتحاد السوفييتي الفضائي، ومواجهة التحديات التي فرضها سباق الفضاء المحتدم آنذاك مع ذلك المنافس الشرس. وقد بدأت الوكالة عملها في الأول من أكتوبر من العام نفسه بميزانية وإمكانات محدودة نسبياً، قبل أن يتزايد مقدار الدعم المالي المخصص لها تدريجياً ليصل إلى نحو 19 مليار دولار في عام 2010. ويرأس ناسا حالياً الميجور تشارلي بولدن، وتعمل السيدة لوري جارفر نائبة له، وقد أقر تعيينهما الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في عام 2009.
وتقوم رؤية ناسا الأساسية على محاولة سبر أغوار الفضاء الخارجي و إماطة اللثام عن الأسرار المحيطة بالكواكب بما ينمي من المعرفة الإنسانية ويحقق فائدة للمجتمع البشري. ومن هذا المنطلق ترتبط مهام ناسا الأساسية بأبحاث تطوير برامج الطيران واكتشاف الفضاء الخارجي، وإرسال الأقمار الصنعية والمهمات الفضائية المأهولة وغير المأهولة للفضاء والكواكب الخارجية.
ويتكون شعار ناسا الرسمي الذي أقر عام 1959، من شكل كروي أزرق كبير تتوسطه كلمة ناسا، يمثل كوكب الأرض، يتناثر به مجموعة من النجوم البيضاء، تعبر بدورها عن النجوم المحيطة وعن الفضاء الخارجي، ويقطعه جناح أحمر اللون كبير يشبه شكل الصاروخ، ويعبر عن استكشاف علوم الفضاء، ويحيط بهذا الجناح دائرة بيضاء تمثل المدار الخارجي. ويحمل هذا الشعار اسم «المصلحة للجميع»، وهذا تعبير عن أن استكشاف الفضاء وحل الألغاز التي تكتنفه هو في صالح الجميع وليس في صالح أمة أو دولة واحدة.
مجالات العمل
وتتركز مهام عمل ناسا في ثلاثة مجالات رئيسية؛ الأول مجال الملاحة الجوية، وتعمل ناسا فيه على محاولة تطوير نظم الطيران والملاحة الجوية الحالية واستحداث تقنيات جديدة بما يحقق مزيداً من الأمان الجوي، وبما يساعد على زيادة قدرة الإنسان على استكشاف الأرض. والمجال الثاني ينصب على استكشاف الكواكب الخارجية، وتعتمد ناسا في ذلك على إمكانات المحطة الفضائية الدولية وبقية الأجهزة التي يمكن من خلالها التحليق بعيداً جداً عن الأرض وصولاً إلى الكواكب الخارجية. أما المجال الثالث، فينصب على التطوير والبحث العلمي، وتعمل ناسا فيه على محاولة الاستفادة من التطبيقات الفضائية في تحسين ظروف الحياة على سطح الأرض وتحقيق الفائدة للمجتمع الإنساني.
وتعمل ناسا على تنفيذ هذه المهام وتحقيق بقية الأهداف المكلفة بها، من خلال الإمكانات والكوادر البشرية والتقنية الهائلة المتاحة لها، والتي تتضمن مراكز بحث متخصصة في كل مجالات الملاحة الجوية والفضاء، ومجموعات علمية وعلماء من كل الجنسيات، وأسطول ضخم من الصواريخ القاذفة، والمكوكات الفضائية، والسواتل الفضائية، والمسابير والمراصد الفضائية، والمقاريب، والطائرات ذات القدرة الخارقة، وغيرها من الأدوات والمعدات التكنولوجية المعقدة، التي لولاها لما أمكن لوكالة ناسا أو غيرها الخروج إلى الفضاء أو سبر أغواره.
سيرة ومسيرة
تعد ناسا من أكبر وأشهر وكالات الفضاء على مستوى العالم، من حيث حجم الإنجازات العلمية التي تمكنت من تحقيقها منذ نشأتها، كما تعد من أضخم الهيئات العلمية قياسا إلى عدد المراكز البحثية والفنية التابعة لها (10 مراكز بحثية)، أو حجم العمالة المنتسبة لها (18 ألف موظف وباحث)، أو الميزانية المخصصة لها (19 مليار دولار سنوياً).
ويرجع السبب الأساسي في تأسيس وكالة رسمية لأبحاث الفضاء في الولايات المتحدة وتسخير كل السبل لدعمها ونجاحها، ونقصد بذلك وكالة ناسا، إلى سباق غزو الفضاء، الذي بدأ عام 1957 واستمر حتى 1975، والذي كان قد احتدم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كجزء من الحرب الباردة. فقد كان محور هذا السباق إثبات الريادة العلمية والتكنولوجية بغزو الفضاء الخارجي والتسابق على احتلال أكبر مساحة منه، وهذا عن طريق إطلاق الأقمار الصنعية ومركبات الفضاء المأهولة وغير المأهولة.
وقد بدأ هذا السباق عندما أطلق الاتحاد السوفييتي أول قمر صنعي في العالم وهو «سبوتنيك1-» في 4 أكتوبر1957، مؤشراً بذلك إلى بداية غزو الفضاء، ثم ما لبث أن أكد الاتحاد السوفييتي سبقه هذا عندما أطلق قمره الصنعي الثاني «سبوتنيك2-» في 3 نوفمبر1957. وقد أثار هذا حفيظة وغيرة الولايات المتحدة الأمريكية، كما تسبب قبل ذلك في حدوث صدمة كبيرة على المستوى الشعبي والمجتمع العلمي والعسكري داخل أمريكا، عرفت آنذاك بـ «صدمة سبوتنيك»، مما حدا بالرئيس آيزنهاور ومعاونيه إلى تسخير كل السبل المشروعة وغير المشروعة من أجل دعم البرنامج الفضائي الأمريكي واللحاق بغريمتها التقليدية في ذلك السباق المحتدم، وتم بناء على ذلك انطلاق وكالة ناسا.
برامج فضائية
وفي سبيل اللحاق بركب الفضاء تبنت ناسا أكثر من برنامج فضائي متخصص، مثل «ميركيري» Mercury الذي استهدف إرسال الإنسان إلى الفضاء ووضعه في مدار حول الأرض، وبرنامج «جيميني» Gemini الذي استهدف إرسال رحلات إلى القمر، ثم «أبولّو» Apollo الذي عمد إلى استثمار هذه النجاحات في تحقيق حلم هبوط الإنسان للمرة الأولى على القمر، وهو الهدف الاستراتيجي الذي كان قد أعلنه الرئيس جون كنيدي أمام جلسة مشتركة لمجلس الشيوخ الأمريكي في مايو1961، وتعهد فيه «بإنزال إنسان على القمر وإعادته سالمًا إلى الأرض، بنهاية العقد (أي بنهاية الستينيات)». وقد تحقق هذا فعليا في 21 من يوليو 1969، من خلال الرحلة الفضائية أبولو 11، إذ هبط رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونغ على القمر وخطا للمرة الأولى على سطحه، وهذا في حدث علمي جلل حظي باهتمام ومراقبة العالم أجمع آنذاك، واعتبر بمنزلة «خطوة صغيرة للإنسان، لكنها قفزة كبيرة للبشرية»، كما صرح بذلك آرمسترونغ نفسه. وبالفعل فقد كان هذا إنجازا تاريخيا بكل المقاييس، وشكل نقطة انطلاق بالنسبة لناسا، نحو تحقيق مزيد من الاكتشافات العلمية في عالم الفضاء الخارجي، واستخداماته السلمية.
وعلى الرغم من أن الدافع الأكبر لتحقيق هذا الإنجاز وكل ما سبقه من إنجازات، كان في الأساس التنافس بين القوتين العظميين، إضافة إلى الولع بالفضاء والرغبة في غزوه وفك الغموض المحيط به، فإن تغير الظروف العالمية وارتفاع تكلفة برامج الفضاء، أديا إلى توجيه النظر إلى ضرورة الاستغلال الاقتصادي للفضاء وتطبيقه في الحياة المدنية والتنمية، وهذا على الأقل لاستعادة جزء من تكلفة التشغيل الباهظة. ومن هذا المنطلق، خرجت تقنيات الفضاء من دائرة الاستخدام العسكري إلى الاستخدام المدني السلمي، وأصبحت هناك تطبيقات مدنية متعددة وكثيرة لتقنيات الفضاء، سواء في رصد موارد وثروات الأرض، أو تطوير تقنيات الاتصال والإنترنت أو تحسين ظروف الملاحة الجوية والبحرية أو الأرصاد الجوية أو المساعدة في أعمال الإغاثة والإنقاذ أثناء الكوارث والأحداث الطارئة.
بل إن الأمر تعدى كل هذه الآفاق، إلى محاولة إيجاد مصادر جديدة للمعادن الأرضية خصوصاً النادرة، وتطوير المواد والأدوات النانوية، وغير ذلك من التطبيقات الأخرى الواعدة التي يمكن أن يقود النجاح فيها إلى تحقيق مزيد من الريادة والسيادة للولايات المتحدة ، أو أي من الدول المتقدمة التي يمكن أن تصل إلى الفضاء وتنجح في استغلاله سلمياً ومدنياً.
إنجازات بعد إخفاقات
في أحيان كثيرة يكون الفشل والإخفاق والرغبة في اللحاق بالمنافس هو الدافع الأساسي للنجاح وإثبات الذات، وهذا ما يمكن القول بأنه ينطبق تماما على وكالة ناسا ومجال أبحاث الفضاء بالولايات المتحدة، فقد سبق الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة في إطلاق الأقمار الصنعية للفضاء الخارجي، وهو ما فاجأ الأخيرة وسبب لها صدمة كبيرة على النحو السابق ذكره، فكان هذا دافعاً للإجادة وسد الفراغ الحادث، حيث تمكنت الولايات المتحدة من إطلاق قمرها الصنعي الأول Explorer إكسبلورر – 1، بعد أشهر قليلة من إطلاق «سبوتنيك1-».
وقد تكرر نفس هذا السيناريو في 12 إبريل من عام 1961، حينما فاجأ الاتحاد السوفييتي أمريكا والعالم، بإرسال أول إنسان وهو يوري غاغارين إلى الفضاء الخارجي، الذي نقلت مشاهد سباحته في الفضاء الخارجي إلى العالم أجمع. إلا أن الولايات المتحدة نجحت – بعد 23 يوماً فقط من سباحة غاغارين في الفضاء – في إحداث نوع من التوازن الاستراتيجي، من خلال نجاح رائد الفضاء الأمريكي آلان شيبارد بالقيام بدوران فرعي لمدة 15 دقيقة في الفضاء الخارجي، وبعدها بشهور قليلة وتحديداً في 20 فبراير 1962، حققت الولايات المتحدة وناسا نجاحاً إضافياً، عندما تمكن رائد الفضاء الأمريكي جون غلين من القيام بدورة كاملة حول الأرض.
وعلى هذا النحو استمر السباق الفضائي بين القوتين العظميين بوتيرة متسارعة، بإرسال الاتحاد السوفيتي أول امرأة في الفضاء وهي فالينتينا تيريشكوفا عام 1963، وإجراء رائد الفضاء السوفييتي ألكسي ليونوف أول عملية مشي في الفضاء في عام 1965. وحاولت الولايات المتحدة تحقيق نجاحات مماثلة، من خلال إطلاقها أول رحلة فضائية غير مأهولة في عام 1962، وإرسالها سفينة الفضاء مارينر2-، للتحليق بالقرب من كوكب الزهرة، ثم إطلاقها لمحطة «سكاي لاب» الشهيرة في عام 1965، التي تعتبر أول محطة فضائية تطلقها الولايات المتحدة. كما أقحمت الكائنات الحية في ذلك السباق، بإرسال الاتحاد السوفييتي للكلبة «لايكا» في رحلة فضائية في عام 1959، تلا ذلك إرسال الولايات المتحدة لقرد (شمبانزي) في رحلة مماثلة. وبالطبع لم يخل الأمر من إخفاقات عديدة ومؤثرة على الجانبين، ولعل أبرز هذه الإخفاقات على الجانب الأمريكي احتراق المركبة أبولو1- في يناير 1967، ومقتل رواد الفضاء الأمريكيين الثلاثة الذين كانوا على متنها.
لكن منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، أخذت كفة التفوق تميل تدريجياً لصالح الولايات المتحدة ، وبدأت بالتالي تقل حدة المنافسة على غزو الفضاء، حتى انتهى سباق الفضاء بين الدولتين بإعلانهما القيام بمهمة فضائية مشتركة، هي «أبولو- سيوز» في عام 1975. و«أبولو- سيوز» عبارة عن مشروع فضائي مشترك يقوم على التحام مركبة «سويوز19-» السوفييتية مع مركبة الفضاء الأمريكية «أبولو»، وعبور رواد الدولتين إلى مركبات بعضهم بعضاً وإجراء التجارب المشتركة، وهذا في إشارة رمزية تعبر عن انفراج العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ونهاية التوتر في السباق الفضائي.
إخفاقات وخسائر
تعرضت ناسا في حقبة الثمانينيات لإخفاقات شديدة وخسائر علمية وبشرية كبيرة، قبل أن تستفيد من الأخطاء الحادثة وتعاود النهوض وتحقيق التفوق من جديد. وقد حدثت هذه الإخفاقات بسبب استخدام برنامج المكوك الفضائي، الذي كانت ناسا قد أدخلته إلى الخدمة في بداية الثمانينيات، حيث تحطم على سبيل المثال مكوك الفضاء كولومبيا في إبريل 1981 فوق تكساس قبل دقائق من هبوطه في قاعدة كنيدي، بعد مهمة استغرقت 16 يوماً منها 12 يوماً على متن محطة الفضاء الدولية، مما أدى إلى وفاة جميع رواد الفضاء الذين كانوا على متنه، وعددهم سبعة. كما انفجر المكوك «تشالنجر» في يناير 1986، بعد 73 ثانية من إقلاعه من قاعدة كنيدي في فلوريدا، مما أدى إلى مقتل رواده السبعة. وإزاء هذا قررت إدارة الرئيس ريغان آنذاك، إعادة النظر في برنامج المكوك الفضائي، وهو ما مهد إلى الاستغناء تماماً عن خدماته في عام 2011، وهو تاريخ الانتهاء من بناء محطة الفضاء الدولية.
فتوحات علمية
وقد حققت ناسا منذ تأسيسها مجموعة كبيرة من الإنجازات لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها في مجال استكشاف الفضاء والكواكب الخارجية، وعلى رأس هذه الإنجازات الهبوط على سطح القمر، ودراسة تربته، وهو ما تكرر مع الكوكب الأحمر (المريخ) حيث نجح المسبار «كيوريوسيتي» والمختبر الفضائي المصاحب له في أغسطس الماضي، في الهبوط بسلام على سطح ذلك الكوكب الغامض، وتزويد المجتمع العلمي بمعلومات مهمة عنه. كما تتضمن هذه الإنجازات اكتشاف آلاف الكواكب الجديدة، وإرسال بعثة غير مأهولة إلى كوكب زحل بواسطة المسبار «كاسيني»، والهبوط على أحد أقماره الخمسة عشر وهو قمر تايتان في عام 2005، الذي يوصف بأنه القمر الوحيد المعروف بين أقمار النظام الشمسي الذي يمتلك غلافاً جوياً كثيفاً وأجساماً ثابتة وسط سطح سائل.
وإذا تحدثنا بلغة الأرقام، فإنجازات ناسا تتضمن إطلاق أكثر من 100 بعثة فضائية مأهولة منذ تأسيسها في عام 1958، وإجراء 135 عملية لإقلاع المكوكات الفضائية، وإطلاق أكثر من 1000 بعثة أخرى غير مأهولة لاستكشاف الأرض والقمر والنظام الشمسي، والكواكب الأخرى الواقعة خارج المجموعة الشمسية. كما تضم قائمة إنجازات ناسا عددا كبيرا من التجارب الناجحة والاكتشافات والاختراقات العلمية التي جرى الاستفادة منها في أكثر من مجال غير مجال دراسة واستكشاف الفضاء الخارجي، وبخاصة في التنبؤ بأحوال الطقس، ورصد موارد وثروات متاحة على سطح الأرض ودراسة البحار والمحيطات، ودراسة الغلاف الجوي.
علماء عرب في ناسا
وقد ساهم عدد من العلماء العرب في تحقيق هذه الإنجازات، وهو ما أهل نسبة كبيرة منهم إلى تبوؤ مكانة رفيعة، بل ومناصب مهمة في وكالة ناسا. ولعل من أبرز العلماء العرب الذين سطعت أسماؤهم بقوة في سماء ناسا، الدكتور فاروق الباز، العالم الجيولوجي المصري الذي ينسب إليه اختيار موقع الهبوط على سطح القمر، وتدريب رواد فضاء أبولو على كيفية الهبوط على سطحه. وكذلك العالم اللبناني الدكتور مصطفى شاهين، رئيس العلماء في مختبر الدفع النفاث بباسادينا، الذي يمتلك رصيداً متميزاً من الأبحاث والاختراعات الرائدة، مثل اختراعه لمركبات رصد المناخ العالمي أو ما يسمى «المسبار الجوي للأشعة تحت الحمراء»، وهناك أيضاً مواطنه في المختبر الدكتور شارل العشي، الذي أسهم في إرسال وهبوط الجوالتين الفضائيتين سبيريت وأبورتشينيتي إلى كوكب المريخ في عام 2004، وفي هبوط المختبر العلمي «كيوريوسيتي» على ذلك الكوكب الأحمر في عام 2012.
كما تضم قائمة المبدعين العرب في ناسا، الدكتور جورج الحلو ذا الأصل اللبناني، المدير التنفيذي لـمركز «المعالجة بالأشعة تحت الحمراء وتحليل البيانات»، وهو المركز المسؤول عن مقراب «سبيترز»، وعن ربط المراكز العلمية في العالم بالبيانات التي يتم الحصول عليها من هذا المقراب، والدكتور عصام حجي المصري الأصل، الذي يعمل حالياً في «مركز هيوستن للفضاء» التابع لناسا، ويشرف على فريق بحث يضم ستة علماء يعملون ضمن مشروع «إنقاذ الأرض»، بعد مشاركته في مهمة استكشاف الحياة على سطح المريخ.
كيوريوسيتي واستكشاف الكوكب الأحمر
يعتبر المريخ من أقرب الكواكب للأرض، ويشبه جو ذلك الكوكب الأحمر اليوم، الجو الذي كان سائداً على كوكب الأرض منذ ملايين السنين، ويعتبر احتمال وجود المياه على سطحه وتحت السطح كبيراً ومشجعاً جداً. ولعل هذا ما يفسر سبب اهتمام علماء الفلك الزائد بهذا الكوكب، وعمل وكالات الفضاء وبخاصة ناسا على دراسته ومحاولة الإجابة عن الأسئلة الحائرة بشأنه. وفي هذا الإطار، فقد حققت وكالة ناسا خطوة مهمة على طريق سبر أغوار هذا الكوكب وإماطة اللثام عن أسراره، وهذا بعد نجاح الجوالة كيوريوسيتي والأجهزة المصاحبة لها، في الهبوط بسلاسة وسلام على سطح المريخ في أغسطس الماضي.
وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي تنجح فيها ناسا في إرسال جوالة فضائية إلى المريخ، حيث هبط عليه بنجاح من قبل الجوالة «مارس» فضلاً عن الجوالتين الفضائيتين سبيريت وأبورتشينيتي، فإن هبوط «كيوريوسيتي»، يمثل نجاحاً خاصاً وخطوة مهمة، بسبب كم الآمال والطموحات المنتظرة والمرجوة من هذه الجوالة، ومن هذه المهمة ككل، التي يتوقع لها أن تستمر عامين كاملين. ذلك أن «كيوريوسيتي» لا تعد جوالة تقليدية مثل سابقتيها، بل مختبراً فضائياً متكاملاً، يضم عدداً كبيراً من الأجهزة والأدوات العلمية المتطورة والقادرة على تصوير سطح المريخ وأداء بعض الاختبارات والتحاليل بشكل مؤتمت، وهذا ما جعل القائمين يطلقون عليه اسم «مختبر المريخ العلمي». ومن تلك الأجهزة، على سبيل المثال، جهاز ليزر قوي يستطيع إذابة الصخور على بعد 9 أمتار، ومختبر كيميائي متحرك لتحرير مكونات الصخور وتحليل عناصرها الكيميائية، إضافة إلى ذراع آلية قوية قادرة على الحفر في الصخور والتربة، وكاميرتين يمكن بهما التقاط صور بانورامية ثلاثية الأبعاد.
لذا من المنتظر أن تسهم المعلومات الجاري جمعها بواسطة كيوريوسيتي، في إيجاد إجابة شافية بخصوص احتمالات وجود شكل من أشكال الحياة على سطح المريخ، وما إذا كان هذا الكوكب يصلح للحياة مستقبلا أم لا. كما يأمل أن تساعد هذه المعلومات وكالة ناسا على إرسال أول مهمة مأهولة إلى المريخ، وهبوط الإنسان عليه للمرة الأولى، كما حدث مع القمر.
كيبلر وهَبل .. قصة نجاح معمرة
الولع بالفضاء والبحث عن مقومات حياة بأحد الكواكب الخارجية لا ينتهي، لذا يمثل الكشف عن أحد الكواكب الشبيهة بالأرض هدفاً خاصاً، بل مسعى لكل الباحثين والعلماء المتخصصين في علم الفلك حالياً. وفي عام 2010 وحده، نجح علماء الفلك في اكتشاف نحو 100 كوكب إضافي خارج مجموعتنا الشمسية، فضلا عن 400 كوكب مماثل Extrasolar Planets تم رصدها من قبل، كلها مؤهلة لوجود حياة خارجية فيها.
وفي إطار هذه الجهود، أسهمت مقاريب ناسا الفضائية وبخاصة هبل وكيبلر في اكتشاف عدد كبير من هذه الكواكب، ومن ذلك الكوكب المعروف باسم «كيبلر22-ب» Kepler-22b، الذي يبدو أكثر الكواكب المكتشفة شبها بالأرض وأكثرها احتمالا لوجود مياه على سطحه، والذي جرى اكتشافه بواسطة المقراب «كيبلر» في ديسمبر 2011، داخل ما يعرف باسم «نطاق الحياة» Habitable Zone على بعد 600 سنة ضوئية من الأرض.
وأطلق كيبلر من قاعدة كاب كانافيرال على متن صاروخ من طراز دلتا في مارس عام 2009، بغرض البحث عن كواكب خارج المجموعة الشمسية شبيهة بكوكب الأرض، ويتميز بقوة رصد هائلة، يمكن معها رصد الضوء الصادر عن مصباح يدوي في قرية صغيرة على الأرض.
أما المقراب هبل فيمثل قصة نجاح أخرى مشهودة، حيث تمكن على مدى أكثر من عشرين عاماً، منذ إطلاقه في إبريل 1990، من تحقيق إنجازات علمية عديدة، أسهمت في تغيير طريقة فهمنا للكون وسبر كثير من أجزائه. ولعل أبرز هذه الاكتشافات الإسهام في تحديد العمر الدقيق للكون بما يقرب من 14 مليار سنة، وإثبات وجود الثقوب السوداء الهائلة الحجم داخل المجرات، واكتشاف مجموعة من المجرات الصغيرة الحجم، والتقاط أكثر من 750 ألف صورة لمختلف الأجرام السماوية.
ناسا بين نار الإشاعات ومحاربة الخرافة
على الرغم من النجاحات البارزة التي تمكنت ناسا من تحقيقها خلال العقود الخمسة الماضية، وعلى الرغم من المكانة العلمية الكبيرة التي تبوأتها نتيجة لذلك، فإنها لم تسلم من الاتهامات والإشاعات المغرضة، والتي تم تداول بعضها على نطاق كبير في الأوساط الإعلامية والشعبية العالمية. ولعل أبرز هذه الإشاعات، مسألة الهبوط على القمر، واتهام الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في ناسا وأجهزة المخابرات المعنية، بتدبير خدعة كبيرة ومتقنة ، انطلت على العالم أجمع، من أجل الإيهام بنجاح رحلة أبولو11- في الهبوط على القمر والمشي عليه، وهذا على غير الواقع.
وقد استندت تلك الإشاعة إلى عدة ملاحظات جديرة بالاعتبار والمراجعة، وإن كان لكل منها رد وتبرير مقبول في الواقع. وأولى هذه الملاحظات، ظهور العلم الأمريكي مرفرفا وكأن هناك نسيما أو رياحا تحركه، وهو ما يتنافى مع طبيعة القمر ومع عدم وجود هواء على سطحه. كذلك فقد كان من الملاحظات المثيرة للانتباه، ترك قدم رائد الفضاء الأمريكي آلدرين، أثراً واضحاً وقوياً على تربة القمر، على الرغم من عدم وجود رمال رطبة أو لينة على سطح القمر. وبالمثل فقد لفت انتباه بعض الباحثين خلو الصور الملتقطة لرواد الفضاء على القمر من النجوم، في نفس الوقت الذي ذكر فيه رائد الفضاء آرثر كلارك وجود نجوم كثيرة حوله، من خلال مقولته الشهيرة «يا إلهي.. إنها مليئة بالنجوم».
والواقع أننا لا نميل إلى وجود أي مؤامرة أو خدعة في الأمر. فبداية لا نظن أن علماء ناسا وأجهزة المخابرات الأمريكية بهذا القدر من السذاجة والضحالة، لكي يقدموا على ارتكاب أخطاء علمية بهذه البساطة ويمكن بأقل جهد تجنبها، وهذا إذا ما افترضنا فعلاً وجود خدعة وتدخلها في الأمر. إضافة إلى ذلك، فقد قدم علماء ناسا وآخرون تفسيراً علمياً ورداً منطقياً على كل الملاحظات السابقة وعلى غيرها من الملاحظات والشكوك المثارة. فمثلا يعود ظهور العلم الأمريكي مرفرفاً لتثبيته في تربة القمر، قبل لحظات من التصوير والتقاط الصورة، لذا فإن حركته الظاهرة في الصورة هي نتيجة لتثبيته ومن ثم تركه. وسبب وجود آثار قوية وواضحة لقدم رائد الفضاء آلدرين يعود إلى تكون أجزاء من تربة القمر من رماد البركان الناعم، الذي يسهل ترك آثار عليه عند أقل حركة. أما مسألة عدم ظهور النجوم في محيط القمر في الصور الملتقطة، فقد تم إرجاعها إلى قيام سطح القمر بعكس أشعة الشمس بدرجة كبيرة، يصعب معها رؤية النجوم المحيطة بسبب قوة الوهج الناتج من الانعكاس.
ومثلما كانت ناسا هدفاً للإشاعات والاتهامات، كانت ولاتزال هي منارة علمية لدحض الإشاعات والخرافات، لاسيما تلك التي تقوم على التنبؤ بحدوث ظاهرة معينة أو حدث معين جلل يهدد سلامة المجتمع البشري وسكان الأرض. ومن ذلك مثلاً النبوءة التي سرت بقوة في الأوساط والمجتمعات العالمية خلال الشهور الماضية والتي اعتمدت على حسابات وتقويم شعب المايا، بأن يوم 21 ديسمبر الماضي، سيشهد نهاية العالم، بسبب اصطدام جسم ضخم «كويكب» بالكرة الأرضية، بما يؤدي إلى القضاء على كل أشكال الحياة فيها!.
وإزاء هذا، فقد سارعت وكالة ناسا إلى إصدار أكثر من بيان رسمي، لنفي هذه النبوءة وطمأنة المجتمع العالمي إلى استمرار الوجود والحياة، حيث أكدت عدم وجود أي خطر أو أي كوكب بالقرب من الأرض أو حتى أجرام سماوية بعيدة يمكن أو يحتمل ارتطامها بالأرض خلال شهر ديسمبر المشار إليه في النبوءة.
ناسا والمستقبل
طموحات ناسا المستقبلية وآفاق استغلالها للفضاء الخارجي لا يوجد لها حد. على الأقل هذا هو الانطباع الذي يمكن الخروج به عند مراجعة خطط ناسا المستقبلية، وعند التعرف إلى الإمكانات الفنية والبشرية والمادية المتاحة لها. فعلى سبيل المثال، تخطط ناسا من أجل إرسال رحلة مأهولة إلى المريخ والهبوط على سطحه، تماماً كما تحقق مع القمر من قبل. وفي سبيل ذلك تعول ناسا كثيراً على تجربة المختبر الفضائي «كيوريوسيتي» وعلى كم المعلومات والخبرات المتوقع أن يمدها هذا المختبر للفرق المشاركة وللعلماء المتخصصين.
كما تتضمن خطط ناسا المستقبلية إطلاق مزيد من المقاريب الفضائية، سواء كان هذا بشكل منفرد أو من خلال التعاون مع وكالات الفضاء الأخرى، كما في حالة المقراب «إقليدس» الجاري تصنيعه وإطلاقه بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية «إيسا»، بغرض دراسة المادة السوداء والطاقة المنبعثة منها، وأيضا حالة المقراب «جيمس ويب»، الجاري تصنيعه وإطلاقه بالتعاون أيضا مع وكالة «إيسا» ووكالة الفضاء الكندية، بغرض رصد المجرات الأولى التي تكونت بعد الانفجار الأول العظيم.
و لم تتخل ناسا عن دعم محطة الفضاء الدولية وتزويدها بالكوادر البشرية والتقنيات اللازمة، من أجل تمكين هذه المحطة من دراسة الفضاء الخارجي على مدار الساعة، وتزويد العلماء المتخصصين بسيل معلوماتي مستمر عن الفضاء والكواكب الخارجية. وفي هذا السياق فقد أطلقت ناسا نهاية يناير 2013 صاروخاً غير مأهول من نوع «أطلس5-» ، حاملاً باكورة جيل جديد من الأقمار الصنعية للاتصالات، من أجل دعم مهام محطة الفضاء الدولية والمقراب هبل ومركبات فضائية أخرى.
ومن بين خطط ناسا أيضاً، العمل على تطوير نظم الطيران الحالية ومحاولة استحداث طائرات أكثر قدرة وكفاءة من حيث معاملات الأمان وسرعة الطيران واستهلاك الوقود، وهو ما يطلق عليه طائرة المستقبل Cutting-edge aircraft. وفي إطار هذه الجهود فقد نجحت ناسا في تجربة نموذج ناجح لطائرة المستقبل، جاء بلا نوافذ وبلا أجنحة ثابتة، تحمل اسم «X-48C»، ويتوقع لها أن تتاح للاستخدام العالمي خلال العقدين المقبلين.
كذلك تعمل ناسا على تطوير نظم الأقمار الصنعية الحالية، وتصنيع أقمار جديدة أصغر حجما وأقل تكلفة. وفي إطار هذه الجهود أيضا، فقد أطلقت ناسا مبادرة جديدة أطلقت عليها اسم PhoneSat، تتمثل في بناء وإطلاق أقمار صنعية بتكاليف منخفضة وسهلة البناء يتم توجيهها عن طريق جوالات «نيكسوس» الذكية التي تعمل بنظام تشغيل غوغل الشهير «أندرويد».
وتم بالفعل بناء الطراز الأول من هذه الأقمار بإمكانات محدودة وأطلق عليه اسم PhoneSat-1، وهو مزود بجوال نيكسوس ون Nexus One، وتعتبر مهمته الأساسية البقاء في الفضاء لفترة قصيرة من الزمن وإرسال صور رقمية للأرض والفضاء عن طريق الكاميرات المدمجة فيه. وهذا الطراز الأولي يعتبر تمهيدا للطراز الثاني PhoneSat-2، الأكثر تطوراً، والمقرر تزويده بترددات رادارية ثنائية الاتجاه، تسمح لمهندسي الوكالة بقيادة وتوجيه القمر الصنعي من بعد، وتزويده أيضاً بألواح شمسية تمكّنه من البقاء مدة أطول.
وعلى هذا النحو تعمل ناسا بمنطق أن المستقبل يبدأ من اليوم، منتقلة من نجاح إلى آخر، وخطة طموحة إلى أخرى، من أجل الحفاظ على ريادة وتفوق الولايات المتحدة في مجال استكشاف الفضاء، ومحاولة الاستفادة من تطبيقات الفضاء في الاستخدام المدني والحياة اليومية، وتحقيق التقدم الإنساني. >