د. طارق قابيل
في كل يوم يموت نحو 22 مريضًا ممن هم في قوائم انتظار عمليات زرع الأعضاء في الولايات المتحدة الأمريكية، بإجمالي يبلغ نحو 8000 حالة وفاة سنويًا. هذه الأرقام متشابهة في أوروبا وقارات أخرى. ويشهد العالم في الوقت الحالي قلة عدد المتبرعين بالأعضاء، الأمر الذي جعل الباحثين في جامعات عدة يلجؤون إلى زراعة الأعضاء البشرية داخل الحيوانات كالخنازير والأبقار. وربما يستطيع العلماء قريبا تقديم حل جذري لهذه المشكلة، والتغلب على النقص العالمي في الأعضاء اللازمة لزراعتها في أجسام المحتاجين.
بدأت فكرة خلط الخلايا البشرية بالحيوانية في الظهور منذ أكثر من قرن، وبالتحديد في نهاية القرن التاسع عشر، عندما نشر الكاتب البريطاني إتش. جي. ويلز روايته الشهيرة (جزيرة الدكتور مورو) التي تدور حول عالم يجري تجارب على الحيوانات بهدف منحها صفات بشرية، مثل الوعي، أو الإدراك. وكان يجري التجارب في جزيرة شبه معزولة. ومن المعلوم أنها فكرة تقشعر لها الأبدان، ولا تروق للكثيرين ولا تحظى بقبول ومباركة البشر في أي مكان نتيجة معوقات دينية وأخلاقية، أو حتى نتيجة لوجهات النظر الطبية المختلفة.
من خيال علمي إلى واقع
وعلى الرغم من أن هدف الدكتور (مورو) من أبحاثه تلك كان نوعاً من الفضول العلمي، فإنه نتيجة للنقص الشديد فيما هو متوفر من أعضاء وأنسجة بشرية صالحة للزراعة فكر العلماء في استخدام أعضاء وأنسجة الحيوانات كبديل للأعضاء البشرية. وبعد مرور أكثر من قرن، تحول هذا الخيال العلمي الجامح إلى واقع عملي، من خلال الأبحاث الجارية على قدم وساق، بهدف دمج الخلايا والأجنة الحيوانية في الخلايا البشرية، وإكساب الحيوانات صفات بشرية. وتتنافس العديد من الشركات للتوصل إلى نتائج سريعة في هذا المجال. وتعثرت هذه البحوث مؤقتا بعد معوقات قانونية تعرضت لها، لكن حديثا، تجدد أمل العلماء بعد أن أعلنت وكالة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية – وهي أحد الأقسام التابعة لوزارة الصحة الأمريكية والمعنية بالبحث العلمي في مجال الصحة والطب – في عام 2016 عزمها رفع الحظر عن تمويل برامج الأبحاث التي تحقن الخلايا الجذعية البشرية في الأجنة الحيوانية.
ويستهدف القرار زرع الأنسجة البشرية في الحيوانات بغية التوصل إلى فهم أدق وأعمق للأمراض البشرية وتطوير العلاج لها. وقد يستفيد المرضى من رفع هذا الحظر عبر تشجيع الأبحاث التي تزرع أعضاء بشرية داخل أجسام الخنازير، فتنمو الأعضاء البشرية داخلها وتصبح فيما بعد جاهزة لعملية زرع أعضاء في جسم الإنسان المريض.
تطوير الخيمرات
ويجرى العمل حاليا على تطوير العديد من الخَيمرات البشرية-الحيوانية، وهي كائنات حية تتألف أجسامها من خلايا بشرية وحيوانية. وهي نقطة بحثية رائعة، لكنها علميا صعبة الدراسة. ومن المتوقع أن تحدث الخَيمرات البشرية-الحيوانية ثورة تقنية مثيرة للجدل في العلوم والطب، ويمكن أن تسلط الضوء أيضا على مشكلات خطيرة في دراسة التطور البشري، وربما يكون لها إمكانات كبيرة ستسهم في تعزيز فهمنا لتطور الدماغ، لكن يمكن للمسائل الأخلاقية التي يطرحها وجود مثل هذه المخلوقات أن تصبح مقلقة على نحو خطير.
وأشار المعهد القومي للصحة إلى قلق البعض من زراعة خلايا جذعية تُكوّن أعضاء غير مرغوب فيها، ولاسيما نمو الخلايا إلى الجهاز العصبي المركزي، مما قد يتسبب في تغيير وعي وإدراك الخَيمرة. وأعلن المعهد عن سياسة جديدة منفصلة لتلك الحالات الشاذة التي ربما تؤدي إلى تغيير شامل في دماغ الحيوان. وستحظر تلك السياسة حقن الخلايا الجذعية البشرية لأجنة الرئيسيات مثل القردة والشمبانزي خلال المراحل المبكرة من النمو.
ويأتي رفع الحظر الأخير نتيجة للإمكانات العلاجية الهائلة التي ظهرت حديثا للخلايا الجذعية المستقاة من الأجنة، لذا سعى العلماء للعثور على سبل بديلة لإجراء أبحاثهم في مجال الخلايا الجذعية. وإحدى هذه السبل هي تخليق كائنات جزء منها من الإنسان، والجزء الباقي من الحيوانات، يمكن أن توظف في أبحاث الخلايا الجذعية، وأيضا لاستغلالها في إنتاج مواد صيدلانية بيولوجية، أو لتخليق أعضاء بشرية، مثل القلب أو الكبد أو الكلية، صالحة للزراعة في أجساد من فشلت أعضاؤهم لسبب أو لآخر.
دراسات سابقة
وقد استخدم ما يدعى بالحيوانات البشرية لسنوات سابقة. وعلى الرغم من جدلية هذا النوع من الأبحاث؛ حيث تحمل الدراسات الحالية في مجال خلط الأنسجة في طياتها فوائد محتملة، وأخطارا عدة أيضاً. ويكمن الاختلاف الجوهري بين الخَيمرات وتلك الحيوانات المعدلة في توليدها، حيث يتضمن حقن خلايا جذعية بشرية في الحيوانات خلال المراحل المبكرة في النمو، مما يؤدي إلى تحكم عدة وظائف في جسم الخَيمرة من قبل الخلايا البشرية. وقد تثير مثل هذه البحوث حفيظة الكثيرين واستياءهم، لكن ترى هل منبع قلقهم وعدم ارتياحهم هو حداثة الفكرة وكونها جديدة كلياً مثلما حدث عندما قوبلت عمليات زرع القلب في البداية بالاستياء والرفض ثم الانفراج والقبول لدى الجميع؟ أم أن مجال التجارب الحالية أمر مختلف تماماً وقد تساعد على تطوير الأبحاث الطبية؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.
ماهية الخَيمرات أصبح علم الخلايا الجذعية رديء السمعة لأنه يطمس على نحو مقلق الحاجز الذي يفصل بين الأنواع، فضلا على أنه أجبر المجتمع على إعادة النظر حول تحديد الحاجز الفاصل ما بين الخلايا الجنينية البشرية، وبين خلايا الحيوانات. ومن المعروف أن الخلايا الجذعية تيسر إنتاج خيمرات متطورة بين الأنواع. فما هي الخَيمرة (Chimera)؟ وما هي الفائدة الطبية للأبحاث المتعلقة بها؟
الخَيمرة لفظة مستمدة من الميثولوجيا والأساطير اليونانية تطلق على المخلوقات التي تجمع بين الماعز والأسد والأفعى في كائن واحد. وتعرف في الأسطورة اليونانية بأنها مسخ يضم أجزاء من الماعز والأسد والأفعى. وبحسب الأسطورة، كانت الخَيمرة وحشا مخيفا لا يهزم ولا يقتل، له ثلاث رؤوس، رأس أسد ورأس ماعز ورأس أفعى، وجسده أيضا كان مزيجا من الثلاثة، فالجزء الأمامي جسد أسد والجزء الخلفي لماعز أما ذيله فثعبان مخيف. وعلى عكس المتوقع، كان رأس الماعز هو الأخطر؛ فقد كان ينفث لهبا حارقا يذيب الصخر من شدة حرارته. لكن في علم الأحياء، تعني هذه الكلمة مصطلحًا تقنيًا متميزًا، فالخَيمرة هي أي كائن أو نسيج يحتوي على خلايا من اثنتين أو أكثر من بويضات ملقحة. وبعبارة أخرى، إنها مخلوق يحتوي على خلايا من اثنين أو أكثر من الكائنات الحية.
ويتم استخدام أعضاء كائن من جنس ما لزراعتها في جسد كائن من جنس آخر. وتعد الخنازير مصدرًا بديلا لنقل الأعضاء البشرية. وتتم حاليا العديد من التجارب في هذا المجال البحثي المعروف بتقنية نقل الأعضاء بين الكائنات الحية (الاغتراس الغريب) أو Xenotransplantation وهي عملية نقل وزَرْع عُضْو أو نَسيج من حيوان من نَوْع معين لحيوان آخر من نوع مختلف، كما هو الحال في نقل أعضاء من ثدييات غير بشرية إلى البشر، وهي تقنية تستخدم لتعويض النقص في الأعضاء البشرية. وأكثرها شيوعاً هي التقنية المعتمدة على أخذ أعضاء الخنزير. وتمتد هذه التقنية حاليا لتشمل نقل الخلايا، والأنسجة أو الأعضاء الحية من كائن لتوضع في كائن آخر، وتسمى الطعوم المغايرة أو الطعوم الأجنبية (Xenografts) كزراعة خلايا الإنسان في الخنزير.
ويمكن للخَيمرات المتوالدة في المختبرات أن تبدو كأنها فكرة شريرة وُلدت من رحم غطرسة علمية. ومع ذلك، فإن إنشاء هذه الخَيمرات يبدو محتومًا إذا كان لابد من استعمال الأعضاء البشرية المنماة داخل أجسام الحيوانات في نقل الأعضاء للبشر.
التطور التاريخي
بدأت التجارب الخَيمرية في جامعة ستانفورد الأمريكية عندما قام فريق من العلماء بتخليق فئران أجهزتها المناعية بشرية كليا في عام 1988، وذلك بغرض دراسة مرض الإيدز. وفيما بعد اغترس فريق ستانفورد وآخرون خلايا جذعية بشرية في أدمغة فئران وليدة كنماذج أولية للأبحاث العصبية.
وباستعماله أجنة النعجة، «أنجز» إسماعيل زانجاني من جامعة نيفادا ما يمكن اعتبارها حيوانات بالغة اندمجت في كل مكان من أجسامها خلايا بشرية.
ونجح الباحثون في جامعة كاليفورنيا في التوصل إلى المراحل المبكرة لاستغلال أجنة الخنازير لإنماء أجزاء من جسم الإنسان. واستخدموا نظام التحرير الجيني كريسبر (CRISPR) لإزالة قدرة جنين الخنزير على تطوير بعض أجزاء جسمه، ثم تم إيلاج الخلايا الجذعية المحفزة المتعددة القدرات (iPS) في جنين الخنزير المعدل وراثيًا.
وتتم هندسة الحيوان الخَيمري بحيث يستطيع إنماء العضو المراد زراعته، فتحقن الخلايا الجذعية التي أخذت من المريض، ثم تتكاثر وتنمو في الحيوان الخَيمري، مؤدية إلى نمو الحيوان محتويا على عضو بشري. ويمر إنتاج أجنة الخَيمرات بمرحلتين؛ الأولى فنية وتعرف بتعديل نظام التحرير الجيني كريسبر لاستخدامه في إزالة الحمض النووي لجنين الخنزير المخصب حديثًا بما يسمح للجنين الناتج بأن ينمو لديه بنكرياس. ويتم بعد ذلك حقن الجنين بالخلايا الجذعية المحفزة المتعددة القدرات (iPS) المأخوذة من بالغين. وتؤدي هذه الخطوة إلى إنتاج جنين خنزير ينمو به بنكرياس بشري. وإذا تم أخذ خلايا جذعية محفزة متعددة القدرات من مريض يحتاج إلى عملية زرع حينئذ يمكن حقنها في جنين خنزير تمت إزالة الجينات الرئيسية فيه المكونة للعضو المطلوب زرعه كالكبد مثلا. وسيكون هذا العضو نسخة جينية لكبد المريض المتبرع بالخلايا، لكنه أصغر وأكثر صحة.
تشكيل أجزاء الجسم
وقد تتطور الخلايا الجذعية المحفزة المتعددة القدرات البشرية إلى أي نوع من الأنسجة أو الأعضاء، ويمكن أن تشكل أجزاء الجسم البشري في جنين خنزير مثل البنكرياس، ولن يكون جنين الخنزير بحاجة إلى عقاقير مثبطة للجهاز المناعي، والتي يكون لها عادة آثار جانبية للسماح بنمو الخلايا البشرية في هذه المرحلة الجنينية. وبعد 28 يومًا، ينهي الباحثون التجربة ويحللون الأنسجة الجنينية لإظهار نجاح الخَيمرات من عدمه.
إن ولادة كائن ما أقل بهيمية لن تكون مستبعدة في المستقبل القريب. وحتى الآن لا يعرف أحد العواقب التي ستنشأ مع تزايد نسبة الخلايا البشرية في الحيوان. ويتصور العلماء أنه سيأتي يوم يمكن فيه أن يُصنع فأر خَيمري بنسيج دماغي مؤنسن (Humanized) كليًا. لكن ما الذي سيحدث إذا ما تم غرس الخلايا البشرية في جنين الشمبانزي؟ لا أحد يخمن ما هي عواقب ذلك، ولا تتوافر حاليا معايير عالمية لتوجيه التجارب الخَيمرية.
أنسجة بشرية
وينشغل بعض الباحثين حاليًا في الخَيمرة أملا في زراعة أنسجة بشرية على أجسام حيوانية كنماذج لدراسة بعض الأمراض البشرية، وأيضا لأخذ صورة أوضح للنمو البشري من الولادة. ومن المحتمل أن يتعلم الباحثون آلية الأمراض الوراثية وكيفية استخدام الأدوية لعلاجها، وذلك باستخدام نماذج من خَيمرة بشرية – حيوانية. وقد نشرت تلك التصورات والنتائج في رسالة من علماء مختصين بالخلايا الجذعية في مجلة «SCIENCE”. وكانت أكثر النتائج التي أثارت النقاش بين المتخصصين هي احتمال زراعة بعض الأعضاء البشرية من خلال الخَيمرة ثم نقلها للمرضى. ويعمل أحد مؤلفي تلك الرسالة على مشروع يحاول فيه اكتشاف أرجحية زرع أعضاء بشرية في الخراف والخنازير. وتم تحميل 20 خَيمرة بشرية في الخراف والخنازير من قبل المشروع، لكن لم تصل أي منها إلى مرحلة الولادة. وسمحت لجنة الأخلاقيات الطبية التي وافقت على هذا المشروع بنمو الخَيمرة لمدة 28 يومًا فقط. والهدف النهائي لهذا المشروع هو إعداد أعضاء بشرية متطابقة جينيًا مع المريض من خلال زرع خلاياه الجذعية في الخَيمرة. وحسب ما ذكر الباحثون بجامعة ستانفورد فإنه ليس من السهل زراعة العضو بمفرده في المختبرات دون حدوث تفاعلات معقدة بين العضو المراد زراعته والأعضاء الأخرى في جسم الكائن الحي.
الأمر يبدو حاليا أشبه بقصص الخيال العلمي، لكن العلماء أحرزوا تقدماً في الفئران والجرذان وحتى في الخنازير، وهنالك حالياً نوعان من التجارب التي تخضع لتقييم ودراسة اللجنة الاستشارية في معاهد الصحة الوطنية بغية الوقوف على جدوى تمويلها ضمن برنامج الأبحاث؛ الأول يرتكز على إضافة الخلايا الجذعية البشرية إلى أجنة الحيوان قبل بداية تخلق أعضاء تلك الأجنة. ولإتمام ذلك توضع الخلايا الجديدة في الجنين وتراقب إن تحولت إلى أي نوع من الخلايا في الحيوانات البالغة. كذلك كانت هناك تجارب أخرى أراد فيها العلماء تفحص خلايا جذعية بشرية نمت وتطورت إلى أنسجة محددة. مثلاً وجد فريق من الباحثين أنهم إذا حقنوا خلايا جرذان جذعية داخل جنين فأر تنقصه الجينات اللازمة لصنع البنكرياس، فإن النتيجة كانت أن الفأر المولود يتكون له بنكرياس جرذ.
الأمل معقود على تكرار النمط نفسه من التجارب لكن هذه المرة على خنازير تنقصها جينات صنع أعضاء كالكلية أو الكبد، بغية اختبار مدى تحول الخلايا الجذعية البشرية، إن حقنت، إلى أعضاء بشرية تنمو داخل الخنزير صالحة بغية استعمالها لاحقاً في زرع الأعضاء ونقلها للإنسان. وعكف فريق آخر على دراسة استخدام الخلايا البشرية الجذعية في أجنة الفئران أملاً في التوصل إلى فهم أعمق للاضطرابات النفسية البشرية.
الخنازير المؤنسنة
يحاول علماء في الولايات المتحدة تنمية أعضاء بشرية داخل خنازير، وذلك بحقن أجنتها بخلايا بشرية لإنتاج أجنة تحوي خلايا البشر والخنازير. وهذه الأجنة جزء من مشروع يستهدف التغلب على النقص العالمي في الأعضاء اللازمة لزراعتها في أجسام المحتاجين. وقال الفريق البحثي الذي يجري المحاولة، وهو من جامعة كاليفورنيا دافيس، إن هذه الأجنة لابد من أن تكون شكلا وسلوكا مثل الخنازير الطبيعية إلا أن أحد أعضائها سيتألف من خلايا بشرية.
وتُستخدم الخنازير المعدلة وراِثياً كمزارع للأعضاء البشرية. وتُعرف الخنازير المستنسخة المعدلة وراثيًا التي تنتج أعضاء تصلح للزراعة في أجساد البشر بخنازير نقل الأعضاء للبشر، والتي يمكن نقل خلايا أو أعضاء منها للبشر دون أن يرفضها جهاز المناعة البشري، وتصف بعض وسائل الإعلام الخنازير المنتجة بهذه الطريقة بالخنازير المؤنسنة.
وكان الفريق العلمي في معهد «روزلين» بأدنبره الاسكتلندية – الذي كان يعمل تحت قيادة الدكتور إيان ويلموت رئيس الفريق الذي أشرف على استنساخ النعجة دولي (1997م) – يستخدم الخنازير المعدلة وراثيًا للاستفادة من أعضائها في زراعة الأعضاء للإنسان. ونجح أعضاء الفريق في التوصل إلى طريقة خاصة لإزالة جينات محددة من أعضاء الخنازير ليتقبلها جسم الإنسان، وأتى هذا التطور بعد أن تمكن المعهد من استنساخ أول خنزيرين يمكن نقل أعضاء منهما للإنسان، مثل الكلى والقلب والأجهزة الحيوية الأخرى في الجسم الملائمة للاستخدام البشري.
واحتل نبأ استنساخ خمسة من صغار الخنازير المعدَّلة وراثيًا, التي يمكن استخدام أعضائها لزرعها للبشر، قائمةَ الأحداث العلمية في أواخر عام 2001م، وزاد من احتفاء وسائل الإعلام بهذا الحدث طرافةُ الخبر؛ إذ ذكرت الشركة صاحبة هذا الإنجاز العلمي أن الخنازير الخمسة وُلدت يوم عيد الميلاد (25 ديسمبر 2001م) في الفرع الأمريكي للشركة في ولاية فرجينيا الأمريكية، وأطلق على الخنازير أسماء: «نويل» و«إنجل» و«ستار» و«جوي» و«ماري»، وهي أول خنازير تولد من دون الجين الذي يحول دون عمليات الزرع لدى البشر.
واحتدم الجدل العلمي والتنافس الإعلامي بعد أيام من إعلان الشركة ذلك الإنجاز، وأيضا بعد أن أعلن علماء في فريق علمي أمريكي بجامعة ميزوري في ولاية كولومبيا أنهم نجحوا في استنساخ خنزير نزع من خلاياه جين يتسبب في رفض جهاز المناعة في جسم الإنسان للأعضاء المنقولة من الخنازير. ويتميز هذا الخنزير بصغر حجمه، ومن ثم بصغر حجم أعضائه، وهو ما يمثل خطوة مثيرة نحو إنتاج أعضاء يمكن زرعها للإنسان. وقال العلماء إنهم سبقوا الفريق الاسكتلندي في تحقيق هذا الإنجاز العلمي، فقد ولدت الخنازير المستنسخة الأمريكية قبل ثلاثة أشهر من مولد الخنازير الاسكتلندية. وقام الفريقان بتعديل الخنازير المستنسخة وراثيا للتمكن من زرع أعضائها الداخلية في أجساد البشر عن طريق إبطال مفعول جين يؤدي إلى رفض الجسد البشري لما يُزرع داخله من أعضاء الخنازير. وهناك اختلافات بين الخنازير الأمريكية ونظيراتها الاسكتلندية، فالأولى أصغر حجما ليتناسب حجم أعضائها مع حجم أعضاء الجسم البشري.
وعلى الرغم من النجاح الكبير في القضاء على مشكلة رفض جهاز المناعة في جسم الإنسان للأعضاء المنقولة من الخنازير المعدلة وراثيا، فإن هذا المشروع أصيب بانتكاسة مفاجئة، واُضطر الفريق العلمي إلى وقف مشروع استنساخ الخنازير المعدلة وراثيا لأغراض طبية بسبب تخلي مؤسسة «جيرون بايو ميد» الطبية عن المشروع، لأنها خشيت من انتقال الأمراض إلى الإنسان بواسطة هذه الأعضاء الجديدة. وبعد أن توقف هذا المشروع، أعلنت شركة أسترالية أنها استنسخت أول خنزير لاستخدام أعضائه في الجسم البشري من خلايا جمدت في نيتروجين سائل لأكثر من عامين، وكان ينمو بصورة طبيعية. وذكرت الشركة أن التقنية التي استخدمتها في استنساخ الخنزير الأسترالي مختلفة تماما عن تلك التي استخدمت في حالة النعجة دولي.
وفي عام 2003، أعلن علماء صينيون نجاحهم في دمج خلايا جلد بشرية في خلايا بويضات أرنب، لتخليق أول جنين مهجن سمح له بالحياة لعدة أيام في أطباق المختبر، ثم دمر لتحصد منه الخلايا الجذعية (Stem Cells)، لغرض الأبحاث الطبية.
ومن المعروف أن استخدام صمامات قلب من الخنازير لدى الإنسان جار منذ نحو 40 سنة، كما أن هناك نحو 24 من الأنسجة الضامة (الجلد، العظم) من الخنازير أو الأبقار المستخدمة في العمليات الطبية على نطاق واسع. ويُقدر سوق هذه العمليات بنحو خمسة بلايين دولار فقط للأعضاء الكاملة.
أهمية التقنيات الحديثة
تستخدم التجارب الحالية لزراعة الأعضاء الخنزير وقرد الرباح. ويعتقد حاليا أن الخنازير هي أفضل الحيوانات للتبرع بالأعضاء، وهي متاحة، واحتمال وجود عوامل معدية قليل حاليا وقد تم تهجين عدد من الأجيال. ويدافع الكثير من العلماء عن تقنية استنساخ الخنازير المعدلة وراثيا، ويرون أنها البديل السريع المتاح حاليا والمرشح لإنقاذ حياة البعض من آلاف البشر الذين يموتون سنويا وهم ينتظرون تبرع أصحاء أو موتى بأعضائهم لإجراء جراحات زرع الأعضاء. وقد تسهم هذه التقنية في علاج آلاف المرضى المنتظرين للمتبرعين بأعضائهم، إلا أن الأمر يستلزم تعديلات جينية حتى لا يرفض جهاز المناعة في جسم الإنسان الأعضاء المنقولة إليه. وهناك نحو 60 مليون شخص في العالم بحاجة إلى زراعة عضو واحد على الأقل من أعضاء الجسم، في حين أن نسبة من يحتمل أن تنقل لهم أعضاء بشرية من هؤلاء تقل عن واحد في المئة، ومن ثم ربما توفر الخنازير التي تجري عملية استيلادها بطريقة خاصة الأعضاء اللازمة على أساس إنتاجها بالجملة. وتشير الإحصاءات إلى أن هناك نحو 6500 مريض في بريطانيا وحدها ينتظرون العثور على متبرعين بالأعضاء. وبحسب الإحصاءات فلن تتوفر أعضاء بشرية مناسبة إلا لثلث هذا العدد فقط، وهنالك أيضا نحو 80 ألف أمريكي ينتظرون توفر أعضاء بشرية للقيام بنقلها إليهم.
وقد تعمل خلايا الحيوانات كالخنزير أو القرد المعدل وراثيا بجينات الإنسان على خداع جهاز الإنسان المناعي ليتقبلها، وربما يمكن قريبا التقليل من أخطار الرفض واستخدام أنسجة بديلة لأنسجة الإنسان. وإذا اكتملت العملية بنجاح يمكن الاحتفاظ بالخلايا المزروعة طوال العمر، والخلايا والأنسجة أكثر سهولة من الأعضاء الكاملة للزراعة.
ويلقى هذا الاتجاه العلمي تشجيعا ماليًّا كبيرا من بعض المؤسسات والجمعيات الأهلية الأمريكية والأوروبية لتصنيع قطع غيار حيوانية صالحة لجسم الإنسان عن طريق استنساخ الخنازير المعدلة وراثيا، على الرغم من وجود بعض الأخطار المتوقعة مثل احتمال نقل أعضاء الخنازير لعدة أمراض للإنسان، لا سيما أن ثمة أمراضا مشتركة بين الحيوان والإنسان، مثل السل والطاعون والإيدز.
ويتيح النجاح في زرع عضو حيوان لدى الإنسان الحصول على العضو في حال جيدة في الوقت اللازم؛ وهذا يعني إلغاء أشهر الانتظار التي تتدهور خلالها صحة المريض وحالات التدخل العاجلة عندما يتوفر عضو إثر حادث. لذا فإذا أمكن استخدام أعضاء الخنازير كبديل للأعضاء البشرية، فسيكون هذا بمثابة تطور مهم جدا. ويحتمل ألا تقتصر زراعة ونقل الأعضاء على الأعضاء الكاملة مثل القلب، لكن يمكن أيضا أن يتم نقل الخلايا التي تفرز الأنسولين؛ إذ يمكن أن تساعد على شفاء مرضى السكري. وبالمثل فإن الخلايا الأخرى ربما تساعد على محاربة أمراض عدة كالشلل الرعاش.
مشكلات فنية
وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي علقت على استخدام الأعضاء الحيوانية، فقد ظلت هذه الفكرة محفوفة بمشكلات فنية؛ فمن المعروف أن بعض أعضاء الحيوانات لا سيما أعضاء الخنازير القريبة جدا من أعضاء البشر تحتوي على جين ينتج بروتينا يتسبب في رفض جسم الإنسان للعضو المزروع، وتأتي مشكلة رفض الجسم للعضو المزروع، على رأس قائمة المشكلات الفنية التي تواجه الزراعة الدخيلة.
وعادة ما توجد مشكلة الرفض في جميع عمليات الزراعة، إلا أنها تصبح أكثر حدة في حالات استخدام الأعضاء الحيوانية؛ بسبب الاختلاف الكبير بين العضو المزروع وبين أنسجة الجسم الطبيعية. ويمكن تخفيف حدة مثل هذا الاختلاف بدرجة كبيرة بحيث يسمح للعضو الحيواني بالبقاء والحياة في جسم الشخص، إذا ما استخدمت تقنيات دمج المادة الوراثية للمريض في جسد الحيوان قبل حصد العضو المرغوب في نقله وزراعته. لذا اضطرت العديد من الفرق البحثية إلى وقف مشروع استنساخ الخنازير المعدلة وراثيا لأغراض طبية بسبب بعض المخاوف الصحية.
وتحت دافع الحاجة الملحة للمرضى ربما تزدهر تجارة الأعضاء، وستوجد مزارع للأعضاء البديلة للأعضاء البشرية على الرغم من دعوة العديد من العلماء إلى التوقف عن هذا العبث والاهتمام بتوفير الرعاية الصحية أولا، وصرف هذه الأموال الطائلة لتطوير تقنيات أخرى واعدة كتقنية استنساخ الأعضاء البشرية باستخدام الخلايا الجذعية التي تبشر بعلاج سحري لأمراض عديدة يصعب علاجها، والتي تتطور بطريقة سريعة لافتة، فقد تكون هذه التقنية هي البديل المناسب (والملاذ الآمن لاستنساخ أعضاء بشرية حسب الطلب من خلايا الشخص نفسه للتغلب على عملية رفض الجسم للعضو المزروع.
مخاوف أخلاقية
يرى العلماء أن الخنازير «حاضنة بيولوجية» مثالية لنمو الأعضاء البشرية، ويمكن استخدامها في تخليق البنكرياس والقلب والكبد والكلى والرئتين والقرنية وأعضاء أخرى. وتثير مثل هذه التجارب حالة من الجدل؛ ففي عام 2016 أوقف المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة تمويل مثل هذه التجارب. والسبب الرئيسي للقلق هو إمكانية أن تنتقل الخلايا الجذعية البشرية إلى مخ الخنزير، فعندما تحقن الخلايا البشرية في جنين حيواني، تنمو وتتطور لكن داخل دماغ الحيوان، وهنا تكمن المعضلة والإشكالية، حيث لا يوجد خط فاصل واضح لإظهار النقطة التي يمكن أن يتحول عندها العنصر البشري في دماغ الحيوان إلى وعي وإدراك وتفكير بشري؟ وهذا يؤدي إلى احتمال نمو عقل بشري ليصبح الخنزير على نحو ما أكثر بشرية. ويرى العلماء أنه من غير المرجح حدوث ذلك لكن هذا هو السبب الرئيسي لإجراء البحث بهذا القدر من الحذر.
وهنالك الكثير مما لا نفهمه عن الدماغ، وهذا أحد الأسباب التي تجعلنا نشعر بالإثارة إزاء إمكانية تطوير تلك النماذج الحيوانية. وقد يثير هذا البحث حفيظة الكثيرين واستياءهم، لكن ترى هل منبع قلقهم وعدم ارتياحهم هو حداثة الفكرة وكونها جديدة كلياً مثلما حدث عندما قوبلت عمليات زرع القلب في بدايتها بالاستياء والرفض ثم الانفراج والقبول لدى الجميع؟ أم أن مجال التجارب الحالية أمر مختلف تماماً؟ هنا يلفت نظرنا جيفري كان، مدير معهد بيرمان لقضايا وأخلاقيات علم الأحياء بجامعة جونز هوبكنز، إلى نقطتين أخلاقيتين نحن مقبلون عليهما. وأولى النقطتين أن علينا أن نقرر: هل ثمة فرق جوهري بين نقل الحمض النووي من نوع إلى آخر (كالتقنية المستخدمة في إنتاج الأغذية المعدلة وراثياً) وبين وضع الخلايا البشرية في حيوان ما؛ فهناك العديدون ممن يستطيعون تقبل فكرة الكائنات المعدلة وراثياً، لكن تُرى هل تلقى فكرة الخيمرة البشرية الحيوانية القبول نفسه في نهاية المطاف؟ فالمسألة في كلتا الحالتين لنا أن نقول إنها عبارة عن نقل الحمض النووي من جسم إلى آخر، لا أكثر.
أما المسألة الثانية فهي أي نرسم الخط الفيصل للبشرية؛ فإن جاز لنا أن نحقن الخلايا البشرية بالحيوان، فلماذا إذاً يبدو واضحاً لنا أن وضع الخلايا الحيوانية داخل جسم الإنسان خطأ مرفوض؟ ويا ترى إذا استمررنا في إضافة المزيد والمزيد من الخلايا البشرية وحقنها في الحيوان، فمتى وعند أي حدٍ سيختلف الموضوع بنتيجته عن حقن الخلايا الحيوانية بجنين بشري؟.. يتساءل د.كان «ماذا نحن فاعلون عندما نمزج صفات نوعين من الكائنات؟ ما الذي يجعل البشر بشراً؟ أهو كون خلايانا بشرية بنسبة %51؟». ويختم بالقول إن هذه الأسئلة «هي جزء مما يكوّن لدى الناس ردة فعل تجاه هذه القضية».
إن الصراع في هذا المجال التقني الحديث بلغ أشده؛ إذ تتنافس شركات التقنية الحيوية العالمية على ابتكار التقنيات الجديدة والحصول على براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية للفوز بقصب السبق في هذا المجال. ويساعد إغراء الربح السريع لدى الشركات الأخرى على إذكاء روح المنافسة في هذا المجال، ويُؤدي إلى سرعة تطبيق هذه التقنية دون دراسات كافية بدعوى الرحمة وتحت دافع الحاجة الملحة للمرضى.
مزرعة الأعضاء
يحمل تشكيل هذه الأنواع من الكائنات الحية البشرية-الحيوانية إمكانات هائلة لنمذجة المرض، واختبار الأدوية، وربما زرع الأعضاء في نهاية المطاف. ومع ذلك، فإن عدم اليقين بشأن الآثار المترتبة على وجود الخلايا البشرية في الخيمرات وبخاصة في الجهاز العصبي، يثير مخاوف أخلاقية. ولكن من المهم أن ندرك أنه في ضوء السياسة المقترحة، لن يكون استخدام الأجنة البشرية لتخليق الخيمرات، لكن بدلا من ذلك سيتم دمج الخلايا الجذعية البشرية في أجنة الحيوانات. إضافة إلى ذلك، لن يستطيع العلماء تزويج الخَيمرات الحيوانية-البشرية أو توليد خَيمرات بحيث تشترك الخلايا البشرية مع البويضات أو الحيوانات المنوية الحيوانية.
وسيتم التضحية بالحيوانات عندما تكون هناك حاجة للأعضاء. وهو ما يثير اهتمام بعض الناس، لكن فى هذا المجتمع الذي يقتل 117 مليون خنزير في كل عام من أجل الطعام، فإن إضافة 8000 خنزير أو نحو ذلك للإنقاذ المباشر لحياة البشر ربما لا تشكل معضلة أخلاقية لمعظم البشر. لكن الناس قلقون حول أخلاقيات تخليق الخيمرات البشرية – الحيوانية، وهو أمر مفهوم لأن المجتمع مقاوم لفكرة وجود خنازير بخصائص بشرية، ولها عقول تشبه عقل الإنسان، لكن الباحثين قبل المجتمع قادرون على تجنب هذا الأمر إلى حد كبير جدا.
وكانت وكالة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية الممول الأكبر لهذه الأبحاث قد علقت كل الأنشطة المتعلقة بهذا المجال للتريث وإبداء الرأي والنظر في إشكاليات هذا البحث، إذ كانت الأبحاث غضة في بداياتها الأولى ولم يكن لدى الوكالة أي مشروع قيد العمل والتنفيذ حول أبحاث الخيمرة البشرية – الحيوانية. وستستمر معاهد الصحة الوطنية في حظر تمويل أي بحث قد ينتج حيواناً ذا حيوانات منوية بشرية أو بويضات بشرية ربما يمكن تنميتها فيما بعد. لكن جميع مقترحات الوكالة تسري على الأبحاث والمشروعات التي تمولها الضرائب الأمريكية، أما الأبحاث الممولة تمويلاً خاصاً أو من طرف شركات خاصة فهي مستثناة ولا تسري عليها تلك القوانين.
ومن غير المتوقع أن تتخذ جميع المؤسسات الأخرى الممولة للمشروعات الطبية القرار نفسه، ومازال البحث في هذا المجال الذي أطلق عليه البعض اسم «مزرعة الأعضاء» يلقى تشجيعا كبيرا من بعض المؤسسات لتصنيع قطع غيار صالحة لجسم الإنسان عن طريق استنساخ الخنازير من أجل إنتاج أعضاء تُزرع لدى البشر وتعويض النقص في المتبرعين، على الرغم من الأخطار المتوقعة.