د. علي دحروج
كانت العمارة في القديم ثقافة تعتمد على توازن فريد بين الحضارة والطبيعة والقيم الدينية والاقتصاد، حيث السوق وأمكنة العبادة والتجارة والبيع والشراء، بعيداً عن المنازل، مما وفّر الراحة والسكينة والهدوء للناس في بيوتهم، فلا ضوضاء ولا تلوث ولا صراخ ولا ضجيج، فضلاً عن تعرض المنازل لأشعة الشمس والهواء، حيث تحقق للناس بيئة ومناخ نعموا فيهما، على الرغم من قلة الموارد وضآلة أساليب الترفيه وبساطتها. لكن هذا الأمر بدأ بالتغير مع التطور الحضاري السريع، ولاسيما في السنوات القليلة الماضية.
وحين نطلق عبارة (ثقافة السكن)، فإننا نعني بها مصطلح التأقلم البشري في مكان ما ضمن معطيات بيئية ومناخية وطبيعية، تحكمها عادات وتقاليد تلقي بظلالها على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للناس. فالطابع المعماري يتأثر بالعوامل الاجتماعية من حيث الترابط الأسري ونظم العلاقة بين الأفراد، كما يتأثر بالعوامل الاقتصادية، سواء من حيث التمويل المادي لعملية التشييد والبناء، أو الأساليب المستخدمة ونوع الحاجات المطلوبة.
ويمكن تقسيم نمط العمارة قديماً إلى نوعين وذلك بحسب البيئة التي ينتمي إليها كل نوع، وهما:
أ – بيئة غير حضارية: وهي البيئة التي ارتبطت بالبداوة والزراعة، حيث عمد الإنسان إلى بناء سكنه تبعاً لنظم حياته البيئية، من حيث الزراعة والارتحال والصيد وتوافر المياه والرعي، وقد مثلت القبيلة وحدة مركزية في العلاقات الاجتماعية لهذا النوع من السكن. وصفة الإغراق في المحلية هي الصفة الأساسية للبيئات غير الحضرية، سواء كانت صحراوية أو ريفية، وقد انعكس هذا على أنماط العمارة في هذه المناطق حيث ثبات عوامل البيئة الطبيعية وتكرار متطلبات الإنسان بالصورة نفسها تقريباً، على الأقل في الماضي، ما أدى إلى وجود أنماط في المباني التقليدية تفي بالحاجات الوظيفية للإنسان من خلال معطيات البيئة المحلية والخبرات المتوارثة عبر الأجيال.
ب – بيئة حضرية: أي العيش في المدن. والمدينة تعني الحضارة واتساع العمران، وتعتبر مركزاً للحكم والممارسات الدينية، إضافة إلى كونها مركزاً للتجارة والنشاط الاقتصادي.
العمارة والبيئة والعلاقة المتلازمة
عندما يبني الإنسان مسكنه يصبح هذا المسكن جزءاً من البيئة، كالشجرة والحجر وسواهما، ومن ثمّ فهو يخضع للتأثيرات نفسها من شمس ومطر ورياح وكل عوامل المناخ. فإذا استطاع أن يواجه الضغوط والمشكلات المناخية وفي الوقت نفسه يستعمل جميع الموارد المناخية والطبيعية المتاحة من أجل تحقيق راحة الإنسان داخل المبنى، فيمكن أن يطلق على هذا المبنى بأنه متوازن مناخياً.
إن مشكلة التحكم المناخي وخلق جو مناسب لحياة الإنسان قديمة قدم الإنسانية نفسها، فقد حرص على أن يتضمن بناؤه للمأوى عنصرين رئيسيين هما: الحماية من المناخ، ومحاولة إيجاد جو داخلي ملائم لراحته، وقد عكس المبنى وتشكيله عبر التاريخ الحلول المختلفة المناسبة لكل حقبة وبيئة من أجل تحقيق هذا الهدف، لذلك نجد أن المسكن التقليدي في أي منطقة مناخية غالباً ما يوضح تراكم خبرات سنين عديدة قد تصل إلى قرون من محاولات الوصول إلى المثالية في تصميمه وتشكيله بيئياً وبصورة معمارية جميلة أيضاً. والأساليب التي استخدمها الإنسان لمقاومة قسوة المناخ كلها أساليب معمارية فطرية، وهي نتاج التفاعل بين عنصرين أساسيين: الأول هو الثروات الطبيعية من المواد الخام المتوافرة في البيئة، والآخر هو المناخ السائد في المنطقة.
العمارة البيئية في الحضارات الإنسانية
عرفت كل حضارة في التاريخ أنماطاً وفنوناً وتصاميم من أشكال العمارة والسكن، تتلاءم مع واقعها الجغرافي والبيئي. وخلال التاريخ الإنساني مع العمارة وعمليات البناء نجد أمثلة واضحة لاحترام الإنسان لبيئته ومحاولته التكيف معها. وهو ما يتضح من خلال دراسة العديد من نظم البناء والعمارة في مختلف الحضارات البشرية القديمة.
وتعتبر الحضارة الإسلامية إحدى المحطات المهمة في تاريخ الحضارات البشرية، وقد بذل العلماء المتخصصون جهوداً كبيرة في تتبع الجذور التاريخية لفن العمارة الإسلامية من حيث الأسس والأشكال والزخرفة ونوع المواد المستعملة في البناء، واختلفت آراء العلماء حول هذه العمارة لارتباطها بالدين والبيئة والجغرافية وتعدد الشعوب الإسلامية على امتداد الكرة الأرضية، فجاءت العمارة الإسلامية متنوعة في أشكالها الهندسية ومفاهيمها الاجتماعية، ومتعددة بنظمها تبعاً لتعدد الموروث الثقافي الذي ينتمي إليه كل شعب. وكان للحضارات التي سبقت الإسلام تأثيرها البارز في طبيعة هذا الفن المعماري، حيث طبعت العمارة الإسلامية بطابع الحضارة السابقة عليها في البيئة التي وصل إليها الإسلام، مضافاً إليها الطراز العربي المستوحى من بيئة عربية خالصة.
وقسم الباحثون المتخصصون نظم الفن المعماري تقسيماً يعتمد على البعد الجغرافي والتاريخي، حيث قسموا هذا الفن إلى مدارس تنتمي إلى البيئة التي وجدت فيها وتشكلت من خلالها العمارة الإسلامية. ومنها: مدرسة مصر وسورية، والمدرسة المغربية، والمدرسة الفارسية، والمدرسة العثمانية.
والمتأمل للطرز المعمارية الإسلامية يجد أنها نشأت بطريقة طبيعية تلقائية، حيث تفاعلات ذكاء مختلف الأجناس والجماعات مباشرة مع بيئاتها. ولما كانت البيئات تختلف الواحدة منها عن الأخرى، فقد جاءت هذه التفاعلات مختلفة بين بلد وآخر.
الواقع العمراني المعاصر
تطور النظام العمراني الحديث وتطورت معه هندسة المدن والتجمعات السكنية وما تتطلبه من مرافق عامة، وطرأت تغييرات معمارية على أساليب السكن بسبب النمو المتزايد للبشر وحاجاتهم إلى المسكن، فضلاً عن نشاطاتهم المتعددة الوجوه، وأصبحت المنشآت السكنية المعاصرة أشبه ما تكون بالسجون أو الثكنات العسكرية، هياكل إسمنتية متلاصقة، وناطحات سحاب متراصة، يفتقد كثير منها إلى الأمن والأمان البيئي والصحي، فلا أشعة الشمس تدخل البيوت، ولا التهوية الجيدة، والمساحات الفاصلة بين البيوت والمباني وحتى داخل المنازل نفسها ضيقة، حيث فقدت هذه المساكن خصوصية معنى (البيت) و(المأوى) و(الدار) بالمعنى الذي كان سائداً من قبل، فانكشفت المنازل على بعضها بعضاً، وصار الساكن في شقة يسمع أنين وصراخ وتأوهات جاره في الشقة الملاصقة، في حين تنتشر روائح الطبخ تارة، وطوراً الروائح الكريهة في ردهات المبنى على تعدد طبقاته، بسبب نظام التهوية المعتمد في مثل هذه المنازل، فضلاً عن قلة المسطحات الخضراء داخل المدن وبين المباني والتجمعات السكانية.
وبسبب هذه الظاهرة العمرانية، أدرك الناس أنه لا بّد من إعادة النظر في أساليب العمارة، والتفكير بالدليل الأفضل الذي يحفظ للناس حقهم في بيئة عمرانية سليمة، توازن بين ما يحلمون به وما يقدرون على تنفيذه، فظهرت لذلك مصطلحات عمرانية حديثة، اتخذت من البيئة منطلقاً لهذا الحلم الرائد، فكان مصطلح (العمارة الخضراء)، و(بيت الكفاءة البيئي) (والمبنى الصديق للبيئة) و(السطح الأخضر) وغيرها من المصطلحات التي تستتبع هذا النوع من العمارة.
وبسبب ظاهرة الاحتباس الحراري وآثارها السلبية على البيئة الطبيعية ومشروعات التنمية المستدامة، فضلاً عن ارتفاع كلفة الطاقة النفطية وما يصاحبها عادة من أزمات، فقد سعت المؤسسات والهيئات الحكومية والدولية إلى تطوير مفاهيم جديدة في هذا الميدان، فظهرت قوانين جديدة تراعي البيئة، فضلاً عن التوجه إلى اعتماد مواصفات وتقنيات في البناء تحقق درجة عالية من الكفاءة التشغيلية.
وجرى استحداث حوافز اقتصادية تشجع على تكثيف استخدام المواد الطبيعية في البناء، والمواد التي تحافظ على التوازن البيئي ضمن أطر قانونية وفكرية ومهنية متكاملة. وظهرت جمعيات ومؤسسات وهيئات حكومية وغير حكومية متخصصة في هذا المجال، تشرع القوانين وتتابع تطبيقها بالالتزام بها وتطويرها بشكل مستمر.
وشهد الغرب على مدار السنوات القليلة الماضية تطوير العديد من المفاهيم والتقنيات المبتكرة وتطبيقاتها في مشروعات مختلفة، ومنها العمارة الخضراء المتعددة، التي تأتي كفكر معماري وبيئي جديد يستهدف تلافي المشكلات البيئية. وتشتمل العمارة الخضراء على عدة مفاهيم، منها (السطح الأخضر) الذي يتوخى التقليل من ارتفاع درجات الحرارة الناشئ عن السطوح المصمتة، فضلاً عن استيعاب مياه الأمطار وتخفيف العبء عن شبكات الصرف الصحي. كما تشمل استخدام تقنيات توليد الطاقة من خلال (الجدران الشمسية)، وتوليد الطاقة من السطوح التي تحتوي على لاقطات فوتوفولطية. ومن تقنياتها أيضاً التقليل من العبء الحراري داخل المباني باستخدام أنظمة التهوية الطبيعية وحركة الهواء، وأنظمة التبريد بواسطة التبخير بدلاً من المكيفات المستهلكة للطاقة والمولدة للانبعاثات الغازية.
وظهرت في الغرب أيضا مشروعات كثيرة تعرض تجارب رائدة في استخدامات تقنيات العمارة الخضراء، وتطبيقاتها في أنماط مختلفة من المباني السكنية والتجارية المتنوعة الاستخدام والاستهلاكية والخدماتية، وتطوير بدائل مواصلات تهدف إلى التقليل من استنفاد مصادر الطاقة غير المتجددة. كما ظهرت مشروعات بيئية مهمة على مستوى أعمال تنسيق الموقع، باستخدام مفهوم Xeriscape الذي يعنى باختيار النباتات التي تناسب البيئة وتقتصد في استهلاك المياه.
وأصبح مفهوم الاستدامة البيئية متداولاً على نطاق واسع في الغرب، وبدأت النظرة إليه تتخطى التركيز على المواد والتقنيات إلى مفاهيم أشمل تتعلق بالمدينة ككائن حي، بهدف إعادة الاعتبار للبيئة والمجتمع. وبدأت هذه الجهود تؤتي نتائج إيجابية من خلال تبلور أفكار التخطيط الحضري المعتمدة على نظام المجتمعات النموذجية، التي توفر فرص المعيشة والعمل والتعليم والتسوق والترفيه ضمن بيئات متجاورة ومتكاملة، ما يقلل من الجهد المبذول في التحرك بين هذه العناصر، ويقلل استهلاك الطاقة، ويخفض معدلات التلوث البيئي. وظهرت مشروعات تكاملية يتم فيها تطوير (المباني الخضراء) جنباً إلى جنب مع نظم (المواصلات العامة الخضراء) لتحقيق التنمية المستدامة في ضوء تزايد أعداد السكان.