أبحاث ممولةفنون وعلوم إنسانية

تقصي الأثر الاجتماعي للموسيقى في العالم العربي

بقلم كريم علاء الدين

تحدد عوامل الفن والموسيقى والأدب والسينما هوية المجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم. فهي تتيح للأفراد تجربة حرية التعبير الحقيقية، سواء من خلال فعل الإبداع أو تجربة هذه الإبداعات من خلال الأفراد الموهوبين. يجسد محمود قطاط، مؤسس المعهد العالي للموسيقى في تونس، دور المبدع والمعلم والباحث في عالم الموسيقى والفنون الجميلة. ولد قطاط عام 1945، وحصل على دبلوم الموسيقى العربية عام 1966، ثم على الدكتوراه في العلوم الموسيقية وتاريخ الموسيقى العربية من جامعة السوربون Sorbonne Université بفرنسا عام 1977. يعمل قطاط حاليًا أستاذاً في المعهد العالي للموسيقى في تونس، وكان لعمله الدؤوب دور مهم في إنشاء جائزة “محمود قطاط” التي ترعاها وزارة الشؤون الثقافية التونسية بهدف تشجيع البحث والتقدم في علم الموسيقى. ولعل أحد أهم العوامل الدافعة وراء مثابرة قطاط رغبتُه في نشر ثروة لا حصر لها من المعرفة والثقافة المتشابكتين مع الموسيقى في العالم العربي لأكبر عدد ممكن من الأشخاص. ومثلما يحل المؤرخ ألغاز الماضي ويشاركها مع العالم، يسعى الباحث الموسيقي إلى فهم المعنى والعاطفة الكامنين وراء الآلات والقطع الموسيقية المُنتجة لكشف أسرار الثقافات والمجتمعات المختلفة في العالم.
الموسيقى هي بطبيعتها بوابة الروح لاستكشاف الإلهام، وهي أداة يستخدمها المبدعون لتعكس عواطفهم ومشاعرهم ورمز قوي وموحد للثقافة. يقول قطاط: “لكل فن من الفنون مجموعة من الأشخاص تهتم به، لكن الموسيقى فن للجميع؛ لكبار السن وللشباب، للعالم والجاهل، للأغنياء والفقراء على حد سواء الظاهرة التي نسميها ’الموسيقى’ قديمة قدم الإنسان، لكنها في واقعها الكوني سابقة عليه، والعالم ليس سوى ’موسيقى مجسمة’”. لم يظهر شغف قطاط وتقديره للموسيقى مصادفة. عن ذلك يقول: “[خياري] نبع من اهتمامي بالفن الموسيقي منذ الطفولة ومن ثم إيماني بأهميته في حياة الفرد والمجتمع. بالنظر إلى الوضع الحالي للحياة الموسيقية في العالم العربي، حيث تهيمن العشوائية والانحراف على التقاليد، مع غياب المناهج العلمية والدراسة والتحليل على المستويين العملي والنظري، تركتُ الاحتراف الفني تدريجيًا لأنصرف تمامًا إلى مجالي البحث والتدريس”.
وهو يؤمن بأن السعي وراء النظرية الموسيقية وتطبيقها أمر أساسي في العالم العربي والمجتمعات العربية ذات الصلة. ويقول: “إن شعبًا فقد لغته وموسيقاه هو شعب حكم على نفسه ككيان ثقافي ووطني. … ومن ثم، لا يمكنه المساهمة في ثقافة عالمية”.
سعى قطاط إلى إحداث تأثير في مجاله من خلال إدخال تخصص الموسيقى وعلوم الموسيقى في الجامعة التونسية، معتبراً هذا العمل أعظم إنجازاته وخدمة لواحد من أهم روافد حضارتنا العربية وحتى الإسلامية بشكل عام. وهو يعتبر الموسيقى من أهم مظاهر الهوية، وربطها بالهوية من المكونات الأساسية للنهضة الثقافية للفن. وهذا الربط هو عنصر ضروري في استراتيجية التقدم والتطور سواء في الإبداع الفني أو البحث العلمي. عند التفكير في الفرد العادي وموقفه تجاه الموسيقى، نلاحظ أن الناس يميلون إلى الانجذاب إلى نوع معين؛ يجدون الأغاني والفنانين المفضلين لديهم ويستخدمون هذه الموسيقى لتلبية احتياجاتهم. على المستوى السطحي، هذا ما تعنيه الموسيقى لمعظم الناس.
ولكن مبتكري الموسيقى يدركون أن أهميتها تفوق المنظور العام للجمهور، وأن شريان حياة أي ثقافة ينبع من الفن والمظاهر الأخرى التي يخلقها شعبها. على منوال قطاط أخذ مثل هؤلاء المبدعون فكرة التراث الثقافي هذه وكرسوا حياتهم لفهم الجوهر الحقيقي للموسيقى من خلال التاريخ والمعرفة. ومن ثم، فهو يعتقد أن المعرفة صارت تعتمد على عنصر التوثيق؛ والكيفية التي تُنظم وتُعالج بها من خلال التحليل والتنسيق والضبط والقدرة على تحويلها إلى معرفة، لا سيما مع التقدم الكبير في التوثيق والتسجيل بفضل التطورات العلمية والإنجازات التكنولوجية الحديثة. عندما ننظر إلى الغرب، نرى المتاحف والمعارض الضخمة المكرسة لفهم العناصر التاريخية للموسيقى والفنون الجميلة والتوسع فيها. العديد من دول العالم العربي تمتنع عن فعل هذا، على الرغم من التاريخ الغني المنسوب لأممها ومجتمعاتها.
يقول قطاط: “إن البحث العلمي ركيزة أساسية للمعرفة الإنسانية في جميع مجالاتها، وهو أحد مقاييس التطور الحضاري. والفرق هو بين ’من يعرف ومن لا يعرف’ بدلًا من أن يكون بين ’من يملك ومن لا يملك’”.
ويؤكد أن الباحث في مجال الموسيقى العربية يجب أن يدافع عن الثوابت، وأن يشدد على خطورة التوجه الهدام الذي نتبعه اليوم في موسيقانا، سواء أكان تأليفًا أم إنتاجًا أم على المستوى الإعلامي.
وهو يطرح السؤال الحاسم: “ما أفضل السبل لتنظيم وترقية الموسيقى العربية من أجل تحقيق جميع الأغراض المطلوبة مع الحفاظ على طابعها؟” إنها قضية ترتبط – وفق رأيه – بالاتجاه الذي نخطه لأنفسنا بالإجابة عن سؤال: هل نحن مصممون على امتلاك ذاتية ثقافية تمثل الظاهرة الأساسية للذات القومية، أم نفضل أن نحظى في يوم من الأيام بشرف الإنكار ونعيش على التبعية ونسعى إلى الذوبان في شخصية الآخر؟
حصل قطاط على جائزة الكويت في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب (دراسات في الفنون الجميلة والمسرحية والموسيقى) لعام 2020 التي تمنحها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (كيفاس). وفي رصيده عدد كبير من المؤلفات الأكاديمية حول موضوع التراث الموسيقي والآلات الموسيقية، وهو يضطلع بدور حيوي في إثراء الموسيقى في العالم العربي.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى