رجـــب ســـعد الســـيِّد
لم يتفق علماء المناخ والبيئة حتى الآن على تقديرٍ موحَّــد لكمية الكربون التي تنتج من النشاطات البشرية؛ غير أننا سنعتمد في هذا المقال تقديراً نشرته دراسة حديثة يقول بأن البشر (ألقوا) في مناخ الأرض، في التسعينيات من القرن العشرين، كميات تزن نحو سبعة بلايين طن سنويا، معظمهـا في صورة غازية (الغاز الرئيسي فيها هو ثاني أكسيد الكربون).
وتلك الكمية الهائلة تنطلق في الجو، ولا يلبث نصفها أن يختفي من الهواء.. أيــــن؟!؛ هذا هو السؤال الذي يجب البحث عن إجابة واضحة محددة له بهدف تعقب عنصر الكربون في مساراته بمختلف الأنظمة البيئية للأرض.
دوران الكربون
إنها (الدورة) التي يقضــي طـلبة الدراسات البيئية وقتاً طويلاً في دراستها. والحقيقة، أن دوران عنصـر الكربون، بمختلف صوره، في الأنظمة البيئية للكون، يشتمل على حلقات معقدة ومثيرة، وتستحق أن يخصص لها وقت طويل في برامج الدراسات البيئية. والحقيقة – أيضاً – هي أننا لا نزال بحاجة لأن نعرف أكثر عن سلوكيات ومسارب ومسالك تلك الذرة من الكربون، التي غالبا ما تتبدى لنا متشبثة بذرتين من الأكسجين، لتتخذ هيئة غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو غاز يشيع – مع غـازات أخرى أقل أهمية منه – الاختلال في الاتزان الحراري لكوكبنا، فيحتجز الحرارة، ويمنعها من الارتداد إلى الفضــاء، حتى إن الأرض تكاد تصـير (صوبة زجاجية)، أو (دفيئة)، نتيجة للازدياد المطرد في درجة حرارتها.
والمتفق عليه هو أن المستوى الطبيعي لوجود غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو لم يعد طبيعياً. وثمة تقديرات تشير إلى أن مناخ العالم، قبل ما يعرف بالثورة الصناعية، كان يحمل 280 جزءاً في المليون من هذا الغاز. وأجريت عملية قياس لتركيز ثاني أكسيد الكربون في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين عند أعلى نقطة من جبال جزر هاواي، حيث نتوقع أن يكون الهواء (نظيفاً)، فكانت المفاجأة أن رقم ما قبل الثورة الصناعية قفز إلى 315 جزءاً بالمليون؛ ولما أجريت عملية القياس، في النقطة نفسها بعد 30 عاماً، قفز الرقم ثانية ليبلغ 350 جزءاً بالمليون. وعلى الرغم من عدم وجود بيانات حديثة فإن أحوال المناخ تجعلنا نتوقع أن يكون تركيز ثاني أكسيد الكربون في هواء الأرض حاليا قد تجاوز ذلك كثيراً.
كارثة الانبعاثات الكربونية
نعود إلى نصف كمية الكربون التي تختفي، أو يبدو لنا أنها تختفي، كل سنة. هل تعتقد أن الأرقام التي نذكرها هائلة بحيث يتسرب إليك شك في صحتها؟.
لا. المؤكَّدُ أنها صحيحة؛ فهذه هي طبيعة الأرقام الكونية. إن كمية الانبعاثات الكربونية السنوية، على ضخامتها، تبدو عادية تماماً عند مقارنتها بكمية الكربون الكلية الموجودة، فعلاً، في المياه – مالحها وعذبها – التي تقدَّر بنحو 35 ألف بليون طن، أو بتلك الموجودة أصــلاً في الهـواء، وتزن نحو 740 بليون طن. وإذا كانت هذه الأرقام الكبيرة تثير الدهشة، فإن الأكثر إثارة لهـا هو أن هذه الكميات الضخمة من الكربون ليست ساكنة، ولا تكاد تستقر على حال، بل هي في حركة دائبة وسريعة، وتتخذ، في معظم أوقات دورانها، هيئة الغاز – ثاني أكسيد الكربون – الذي يظل متنقــلاً بين الكائنات الحية والتربة، أو بين الجو والبحار والمحيطات. وقد تعتقله الصخــور الصــلدة زمناً، غير أنه لا يلبث أن يتحــرر منهـا إذا ذابت، فينتقل إلى الميــاه الجارية.
قد يكون من المفيد لملاحقة الكربون في تنقلاته بين بحار العالم ومحيطاته أن نتعرف على نظرية علمية تقول بأن مياه البحار والمحيطات تخضع لأنظمة دورانات محددة؛ منها الدوران الرئيسي، الذي تتجه فيه المياه الاستوائية الدافئة إلى قطبي الأرض، حيث تبرد فتثقل ثم تغوص إلى الأعماق، لتدخل في دورة أخرى، فتزحف على هيئة تيارات باردة، عائدة إلى خط الاستواء. وعند وصولها إلى المناطق الدافئة، تكون خصائصها الفيزيائية قد تبدلت، بما يجعلها تصعد إلى السطح، متخذة صورة الظاهرة الطبيعية المعروفة باسم ( التيارات القلاَّبـة)، محمَّــلَةً بالأمــلاح الغذائية، والمواد العضوية، المحتوية على الكربون.
دور الكائنات الدقيقة
ويجدر بنا أن نتوقف أمام حلقة مهمة في مسلسل الكربون؛ فلا يمكننا أن نغفل دور تلك الكائنات الدقيقة التي تعيش معلَّقةً وهائمة في الطبقة السطحية المضيئـة من مياه البحـار والمحيطـات. إنها الهائمات النباتية، أو (الفيتوبلانكتون)؛ صحيحٌ أنها نباتات بدائية، وحيدة الخلية، لكنها لا تختلف كثيراً عن شبيهاتها الناميات على اليابسة، وتشترك معها في استهلاك ثاني أكسيد الكربون. إنها تستخلص هذا الغاز، الذائب في مياه المحيطات، مع الأملاح المغذية، وفي وجود أشعة الشمس، لتبني مادة نموها. وهي بذلك توفر الغذاء لمجموعة أخرى من الكائنات الحية الدقيقة – حيوانية هذه المرة – هي الهائمات الحيوانية (زوبلانكتون)، إضافة إلى بعض أنواع الأسماك والحيوانات البحرية التي تفضل الغذاء النباتي. إن شبكة الغذاء في البحر نسيج معقد؛ لكن ما يهمنا هو أن الكربون الذي تستهلكه هذه النباتات البحرية، أساس الهرم الغذائي في البحر، ينتهي إلى نفايات و«جثث»، تتساقط في عمود الميــاه، حتى تستقر على قاع المحيط في صورة رسوبيات تحبس الكربون بداخلها، إلى حين.
ويجب ألا ننسى دور البكتيريا البحرية؛ فهي تنشط على هذه البقايا العضوية، فيتحول جـزء كبير منها إلى غاز الميثان. وهنا، يجب علينا أن نشير إلى أن الارتفاع المتزايد في درجة حرارة الكرة الأرضية يتضمن تهديداً إضافياً لمناخ الأرض، يتمثل في احتمالات كبيرة لتحرر كميات ضخمة من غاز الميثان، الناتج من النشاط البكتيري. وفي هذه الحالة، لن يبقى الميثان في قاع المحيط، بل سيصعد إلى السطح لينطلق في الجو ويسهم في رفع درجة حرارة الكوكب، فهو أحد غازات الدفيئــة.
ابتلاع المحيطات للكربون
من المعروف أن المحيطات «تبتلع» الكربون؛ وقد استوقفت هذه الحقيقة العلماء، وجعلتهم يفكرون في طرق لزيادة استهلاك المحيطات للكربون، أملاً في تخليص المناخ الأرضي من فائض غازات هذا العنصر. ومن الأفكار التي تفتقت عنها عقول العلماء زراعة بعض المسطحات المائية، المعروف عنها فقرها بالحياة النباتية، ومنها المحيط الجنوبي؛ فمياه هذا المحيط تفتقر إلى عنصر الحديد بالتركيز الكافي لنمو وازدهار هذه المسطحات. ويتصور المتحمسون لهذه الفكرة أن استخدام الطائرات في (تسميد) هذا المحيط بتراب الحديد قد ينعش النباتات في مياهه، فتستهلك كميات أكبر من غاز ثاني أكسيد الكربون، وتحتجزها في الأعماق البعيدة! من جانب آخر، يشــكك عدد من علماء البيئة البحرية في جدوى هذه الفكرة؛ ويرون أن سـبب (تصحّـر) ذلك المحيط الضخم هو افتقاره إلى التيارات القلاَّبـة التي تجلب الأملاح المغذية من القاع إلى السطح، لتكون في متناول النباتات الدقيقة في طبقة المياه التي يتخللها الضــوء. وفي تقدير المنتقدين لفكرة التسميد أن مئة سنة من العمل المتصل، تنفيذاً لتلك الفكرة، قد تأتي بنتيجة متواضعة تتمثل في خفض نسبة الكربون في المناخ الأرضي بمقدار 30 جزءا بالمليون، وهو مردود لا يساوي كلفة هذا العمل الشــاق.
غير أن أحوال المحيط الجنوبي لا تنتقص من حقيقة مفادها أن بحار ومحيطات الأرض كانت، وستظل، البالوعة الرئيسية لثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق الوقود الأحفوري. فإذا تحرينا الدقة، وجب علينا أن نشير إلى أن بقعا محددة من المحيطات، مثل مساحات محدودة من المياه المدارية بالمحيط الهادي، تقوم بعمل معاكس، فتعطي الجو غازات كربونية ناتجة من عمليات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية متداخلة. ولحسن الحظ، فإن هذا النشاط في الاتجاه العكسي لا يدوم على مدار السنة، فهو يتحول إلى الاتجاه الآخر، بالتبادل، مع تغير الفصول. أما مياه المحيط الهادي القريبة من قطبي الأرض، فتوصــف بأنها مراعٍ دائمة الازدهار، غنية بالطحالب والهائمات النباتية.
ويقول العلماء إن محيطات الأرض وبحارها تمتص بليوني طن من ناتج النشاط البشري من ثاني أكسيد الكربون؛ أما البليون الثالث، فتتكفل به نباتات الأرض. وعلى هذا، فأي ضـرر يصيـب (المروج البحرية) – التي لا نراها – في المحيطات، كأن تتلوث بالنفط في حوادث غرق الناقلات؛ أو أي مساس بالكساء الأخضر لليابس، يعني أن كمية من غازات الكربون ستظل طليقة في الجو؛ وهذا بدوره يعني ارتفاعاً في قراءة ميزان الحرارة الكونية، ومزيداً من الاضطراب والفوضى في أحوال المناخ الأرضي، ومن ثم في أحوالنا، نحن سكان الأرض.