د. محمد سيد علي حسن
نعلم جميعا أن الحضور البشري الدائم والوحيد في الفضاء موجود حاليا في المحطة الفضائية الدولية التي تدور حول الأرض دورة كاملة كل 90 دقيقة، وهي مع ذلك ليست مكتفيةً ذاتياً، وتكلفة توصيل الإمدادات إليها مكلفة جدا.
وعلى الرغم من ذلك ما زال الإنسان يحلم ببناء مستوطنات فضائية ثابتة في المستقبل على القمر أو كواكب أخرى مثل المريخ، أو أقمار لكواكب أخرى مثل أقمار كوكب المشتري وربما أبعد من ذلك.
لكن هناك جوانب عديدة تمنع تحقق هذا الحلم، وعلينا أخذها في الاعتبار قبل الشروع في استيطان أجرام سماوية أخرى غير الأرض أو حتى بناء محطات فضائية صناعية سيارة، سواء أكانت ستتنقل في مجموعتنا الشمسية أم ربما خارجها. وأهم هذه الجوانب أمران: الأول توافر بيئة مناخية وطبيعية تكون أقرب ما يكون لمثيلتها على كوكب الأرض، والأمر الآخر هو خفض الكلفة الباهظة اللازمة لبدء عملية استيطان البشر لأجزاء أخرى من الفضاء، التي يتمثل جزء كبير منها في عمليات نقل البشر والمعدات والإمدادات لتلك المستوطنات الفضائية من الأرض.
القمر مستوطنة واعدة
يعد القمر هو المرشح الأول لإنشاء أول مستوطنة بشرية خارج كوكب الأرض لأسباب كثيرة؛ منها قربه إلينا من حيث المكان والبيئة، ولسابق معرفتنا به منذ سلسلة رحلات أبولو المأهولة التي كانت لا تستغرق سوى ساعات على سطح القمر أو أيام في مداره. وكان رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونغ أول شخص يمشي على سطح القمر خلال رحلة أبولو 11 التي جرت في 21 يوليو من عام 1969، وقال حينها جملته المشهورة بعد أن وطئت قدماه سطح القمر: هذه خطوة صغيرة بالنسبة لرجل واحد، لكنها قفزة عملاقة للبشرية. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الجهود العلمية حول أفضل الطرق لاستيطان القمر ليكون أول مستوطنة فضائية دائمة للبشر، أو أن يكون نقطة انطلاق خارجية وارتكاز لاستيطان كواكب أخرى مثل كوكب المريخ أو ربما بعض الكويكبات. ولأن نقل كل مستلزمات إنشاء تلك المستوطنة القمرية أو أي مستوطنة فضائية أخرى أمر باهظ التكاليف ولا تستطيع الدول تحمله، كان لابد من البحث عن حلول مبتكرة. من ضمن هذه الحلول هو إيجاد ملاجئ طبيعية على القمر مثل الكهوف أو الأنفاق تصلح لتكون مستوطنات بشرية في المستقبل وبقليل من المواد والخامات المنقولة من الأرض إلى القمر.
وعلى سبيل المثال، أعلنت وكالة الفضاء اليابانية (جاكسا) عبر موقعها الرسمي على الشبكة الدولية للمعلومات في 18 أكتوبر من عام 2017 أن فريقا دوليا يقوده يابانيون اكتشف عدة أنفاق على عمق يراوح بين بضعة وعشرات الأمتار تحت سطح القمر كانت في السابق عبارة عن أنابيب للحمم البركانية القمرية. تنتهي تلك الأنفاق بفتحات ظاهرة على سطح القمر تسمي بفتحات ضوء السماء Skylight Holes. منها على سبيل المثال، وجود نفق هائل ربما ينتهي بكهف في منطقة تلال ماريوس على الجانب القريب من القمر. هذا النفق يمتد مسافة تبلغ نحو 50 كيلومترا وبعرض 100 متر وهو موجود تحت سطح القمر بنحو 50 مترا مما قد يوفر موقعا محميا محتملا للبشر من الإشعاعات والظروف المناخية القاسية الموجودة على سطح القمر.
ويمكن بتجهيزات إضافية أن يكون هذا النفق إحدى القواعد المستقبلية لإقامة البشر على القمر لفترات طويلة، أو لتخزين المعدات والأدوات لرحلات فضائية تنطلق من القمر بدلاً من الأرض الأسهل في الهروب منه بسبب جاذبيته الضعيفة التي تعادل سدس جاذبية الأرض.
وجرى هذا الاكتشاف من خلال تحليل بيانات المسبار الفضائي الياباني سيلين Selenological and Engineering Explorer (SELENE) (أو كما يسمى باللغة اليابانية « كاجويا») الذي أطلقته جاكسا إلى الفضاء عام 2007 عن طريق الصاروخ الياباني إتش-2أ
(H-IIA Rocket) ليدور المسبار من حينها وحتى الآن حول القمر لدراسة سطحه بشكل دقيق. ويعتقد العلماء أيضا أن توافر تلك الأنابيب القديمة للحمم البركانية القمرية سليمة وفي بيئتها البكر سيسهل إجراء فحص علمي لمعرفة عملية تطور القمر منذ بداية تكونه.
نقل المعدات والإمدادات
تواجه وكالات الفضاء مشكلة كبيرة تتمثل في تكلفة نقل المعدات والإمدادات إلى الفضاء. وحالياً تقدر تكلفة نقل كل كيلوغرام بنحو عشرة آلاف دولار لكي يوضع في المدار الفضائي الأرضي المنخفض (400-2000 كيلومتر من سطح الأرض) وفي حدود 20 ألف دولار إذا كان سيرسل إلى المدار الأرضي المتزامن أو المدار الجغرافي الثابت (36 ألف كيلومتر من سطح الأرض). ومعظم تلك التكلفة سببها الخروج من الجاذبية الأرضية، ولاسيما أول مئة كيلومتر من سطح الأرض، وكذلك متطلبات نظم الحماية الضرورية من الحرارة الفائقة التي تواجه المركبات الفضائية أثناء عودتها إلى الأرض بسبب سرعتها الشديدة في اختراق الغلاف الجوي.
دعوني أشرح لكم هذا الجزء بالذات بطريقة مختلفة تجمع ما بين العلم والخيال. تخيلوا معي أن هناك عنكبوتا ً عملاقاً آلياً أو معدلاً جينياً أراد أن يصنع مصعدا للفضاء بحيث يصعد صغاره إليه لاحقـــاً ومن بعدهم البشر. ثبَّت هذا العنكبوت العملاق طرف خيطه في منصة ثابتة في المحيط الهادي موجودة على خط الاستواء وانطلق للفضاء على صاروخ بسرعة أعلى من سرعة الإفلات Escape Velocity (11.2 كيلومتر/ ثانية) من مجال الجاذبية الأرضية. وعندما وصل العنكبوت العملاق إلى المدار الأرضي المنخفض نفدت طاقة العنكبوت العملاق وأخذ يلف حول الأرض كل 90 دقيقة تقريباً لفة كاملة في حين أن الأرض تدور حول نفسها دورة كاملة كل 24 ساعة. وما حدث هو أن خيوط العنكبوت لفت حول الأرض عددا كبيرا من اللفات وأصبحت الأرض مثل كرة القدم «الشراب» المصنوعة من جورب بداخله حشو وملفوف عليه خيوط. وحتى تنجو الأرض من الظلام الدامس والدائم قرر العنكبوت قطع الخيط والعودة إلى الأرض على أن يعيد المحاولة لكن بطاقة أكبر تكفي للوصول إلى المدار الجغرافي الثابت. المدار الجغرافي الثابت هو مدار دائري على ارتفاع 35786 كيلومترا فوق خط الاستواء وفي نفس اتجاه دوران الأرض. وأي جسم في هذا المدار يكون له فترة مدارية تساوي نفس الوقت اللازم ليتم كوكب الأرض دورة كاملة حول نفسه (24 ساعة، أي يوم فلكي) ومن ثم يبدو كأنه في موقع ثابت لا يتحرك بالنسبة إلى المشاهد على الأرض.
أعاد العنكبوت العملاق المحاولة من جديد ونجح هذه المرة في أن يشبك الطرف الآخر من خيطه بكويكب صغير موجود بعد المدار الجغرافي الثابت، ثم طلب إلى صغاره الموجودين على الأرض أن يستخدموا نفس الخيط للصعود إليه، على أن يضيف كل واحد منهم خيطا جديدا إلى الخيط الأساسي الذي صنعه هو ليصبح الخيط أكثر سماكة، وليكون أيضاً ذلك الخيط هو الكابل اللازم لمصعد الفضاء Space Elevator الذي أتصور أن يستخدمه البشر في السفر للفضاء خلال المئة سنة المقبلة.
يعتقد كثير من علماء النانو تكنولوجي أن خيط العنكبوت الذي سيستخدم في هذا المصعد سيكون مصنوعا من أنابيب الكربون النانوية (Carbon Nanotubes. CNTs) والغرافين (Graphene) لأنهما أخف كثيراً من الصلب وأقوى منه بمئات المرات. وهناك ميزة مهمة أخرى لاستخدام أنابيب الكربون النانوية والغرافين في عمل هذا الكابل وهي أن هذا الكابل، سيكون قادراً على توصيل الكهرباء للمصعد ولن نحتاج لأسلاك كهربائية. فهذا المصعد الفضائي سيحل محل المكوكات الفضائية الباهظة التكاليف بسبب تكلفة صيانتها المرتفعة وكذلك نظم الإطلاق الصاروخية نظراً إلى عدم إمكانية إعادة تكرار استخدامه بسهولة. دعوني مرة أخرى أذكركم أن هذه ليست قصة خيال علمي كما يتصور بعضكم، وإنما هو تصوري العلمي الذي شرحته في أحد المؤتمرات العلمية عندما سألني أحد الحضور عن إمكانية تنفيذ الحلم وهو الصعود إلى الفضاء بمصعد لتقليل التكاليف. ففكرة مصعد الفضاء قديمة لكن ما كان يحول دون البدء في تنفيذها هو الوزن الثقيل للكابل الفولاذي الذي يفترض أن يستخدمه المصعد الفضائي للصعود إلى الفضاء والهبوط مما كان سيقلل تكلفة النقل لكل كيلوغرام بشكل كبير، ولكن الفكرة كانت قد ألغيت بسبب عدم استطاعتنا استخدام كابل فولاذي من المحتمل أن ينهار تحت وطأة وزنه الثقيل، لأن طوله كان من المفترض طبقا للشرح المذكور آنفا أن يكون أكبر من 36 ألف كيلومتر! وها هي أنابيب الكربون النانوية والغرافين أعادت فكرة مصعد الفضاء للمسرح من جديد.
ويجدر بنا في نهاية هذا المقال أن نذكر أيضاً أن هناك عقبات أخرى كثيرة بجانب هاتين العقبتين اللتين تحدثت عنهما في هذا المقال يجب التغلب عليها. وفي رأيي الشخصي أهمها استخدام الهندسة الوراثية لتغيير الكائنات الحية لكي تصبح متكيفة مع بيئتها الجديدة والحياة في جاذبية ضعيفة حتى تتجنب الأخطار والأضرار وتستطيع الاستمرار والتكاثر لأجيال كثيرة.