د. عبدالله الجسمي
أكاديمي في قسم الفلسفة بجامعة الكويت
منذ نحو 26 قرناً ظهر التفكير الفلسفي الغربي الذي ينسب المؤرخون الغربيون بداياته إلى الفيلسوف اليوناني طاليس الملطي في القرن السادس قبل الميلاد، عندما عزا أصل الكون والحياة إلى الماء، ثم جاء من بعده تلميذاه أنكسيمندر وأنكسيمنس ليعزو كل منهما أصل الكون والحياة إلى عناصر أخرى. وأطلق على طاليس وتلامذته فلاسفة المدرسة الأيونية نسبة إلى مدينة أيونيا التي تقع في آسيا الصغرى. واستمر من بعدهم الفلاسفة في الحديث عن أصل الكون والحياة، أي الحديث عن الوجود والعالم الطبيعي، إلى أن جاء سقراط الذي لم يتطرق إلى شيء يذكر عن ذلك الموضوع وركز في فلسفته على الإنسان، ودمج بعد ذلك تلميذه أفلاطون ومن تلاه من الفلاسفة بين الوجود والإنسان من خلال النسق الفلسفي.
وقد حظيت الفلسفة بمكانة مرموقة عند اليونانيين طغت على كل مجال من مجالات المعرفة واحتلت موقع الصدارة وأطلق عليها “أم العلوم”. وحظيت بهذه المكانة والأهمية أيضاً عند معظم الفلاسفة المسلمين، فقد نعتها الفيلسوف الإسلامي الكبير الكندي بـــ “أشرف العلوم”.
وسنحاول في هذا المقال الإجابة عن عنوانه في خضم عالم تتضاعف فيه المعرفة أربع مرات على الأقل في القرن الواحد، وينتج عن ذلك متغيرات فكرية وثقافية وفلسفية.
علاقة العلوم بالفلسفة
هنالك أسباب عدة دفعت اليونانيين إلى نعت الفلسفة بـ “أم العلوم” ناتجة عن تصورهم لطبيعتها. وأول ما تجدر الإشارة إليه هو انبثاق العلوم من الفلسفة. فلو نظرنا إلى المدرسة الأيونية التي فسر فلاسفتها أصل الكون والحياة سنجد أن مافعلوه هو محاولة تفسير نشأة الكون والحياة من أسباب مادية. والتفسير بالطبع يعد من أبرز مظاهر العلم، فإذا كانت الفلسفة الغربية بدأت بتفسير أصل الكون والحياة فإن هذه المهمة أصبحت لاحقاً من مهام العلم التجريبي منذ عصر النهضة وحتى اليوم، وينسحب الأمر أيضاً على التفسيرات الأخرى التي كانت الفلسفة تقوم بها في مختلف الموضوعات خصوصاً المتعلقة بالإنسان نتيجة لعدم وجود العلوم الحالية سابقاً، لكن تلك الموضوعات أصبحت من اختصاص العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ولم يقتصر الأمر على التفسير، بل تجاوزه إلى محاولات الفلاسفة الأوائل ربط التفسير بالأدلة والبراهين، حسب معايير ذلك الوقت. وبالعودة إلى المدرسة الأيونية سنجد أن فلاسفتها كانوا يحاولون التدليل على صحة ادعاءاتهم، فطاليس عندما نسب أصل الكون والحياة إلى الماء كان يرى أن الماء ضروري للحياة ولا يستغني عنه الإنسان والحيوان والنبات. أما أنكسيمنس الذي عزا أصل الكون والحياة إلى الهواء فكان يرى أيضاً ضرورته لحياة الإنسان والحيوان والنبات. فالتفسير الفلسفي القديم كان شبيهاً بالتفسير العلمي إذ يقدم أسباباً وأدلة تتم البرهنة عليها نتيجة لغياب العلوم حتى نعرفها اليوم وتواضع المعلومات المعرفية آنذاك. وعلى الرغم من ذلك كانت طريقة التفكير تلك تمثل نقلة نوعية في تطور التفكير الإنساني الذي كانت الأسطورة تهيمن عليه.
لقد كانت الأسطورة أيضاً محاولة من قبل الإنسان القديم لتفسير أصل الكون والحياة والإنسان والقضايا الأخرى المتعلقة بالإنسان كالقيم والمجتمع، لكن هذه التفسيرات لم تكن واقعية أو مادية واعتمدت على الخيال الذي عزا ما يجري إلى آلهة تعيش في مكان ما مفارق للعالم الواقعي ومسؤولة عنه وعن ظواهره.
ولم يقتصر الأمر على التفسير فقط إذ كانت هناك علاقة بارزة في العلاقة بين الفلسفة والعلم عند اليونان، فقد كان معظم الفلاسفة علماء أيضاً، بمعايير ذلك العصر، أي جمعوا بين العلم والفلسفة. فعلى سبيل المثال كان طاليس عالماً في الفلك والرياضيات، والفيلسوف فيثاغورس عالم رياضيات، وأفلاطون كان مهتما بالرياضيات، أما أرسطو فكان ذا اهتمامات علمية متعددة في الفلك والطبيعيات والحيوان وغيرها. لكن كان الاهتمام بالفلسفة طاغياً على العلم، إذ عرف اليونانيون الفلسفة على أنها “محبة الحكمة” وتعني الجمع ما بين الحكمة والمعرفة والعلم، إذ كلما توسعت معارف الإنسان توسعت مداركه ومن ثم تعامله مع الأمور والقضايا بحكمة.
ثلاثة عوامل
هناك عدة عوامل أعطت الأولوية للفلسفة على العلم عند اليونان بعضها كان انعكاساً لواقعهم الثقافي. ويمكن الحديث عن ثلاثة عوامل بهذا الصدد. يتعلق الأول بأولوية النظري على العملي في الثقافة اليونانية. فقد مجدت النخبة الأرستقراطية الجانب النظري على الجانب العملي، إذ تتميز الفلسفة بطابعها العقلي النظري حيث تصاغ الأفكار نظرياً ويتم الدفاع عنها والبرهنة عليها عبر الحجج والبراهين العقلية القائمة على الجدل والحوار، وهي بذلك تسمو عن عالم الواقع. في المقابل كانت النخبة تزدري الجانب العملي الذي يقوم به الصناع والحرفيون وتضعهم في مرتبة أدنى اجتماعياً وفكرياً بسبب طابع العمل اليدوي الذي يمارسونه والناتج عن معارف عملية لا نظرية.
أما العامل الثاني فهو الوصف الذي كانت تنعت به الفلسفة وهو “العلم الكلي” إذ كانت الميتافيزيقا تعرف بـ “علم الوجود”، وحسب تعريف أرسطو أنها “العلم الكلي” بمعنى أن النظرة الفلسفية للوجود والعالم هي نظرة كلية وعامة تأخذ طابع الشمول الذي يتجاوز الواقع وجزئياته. والنظرة الفلسفية الشمولية المجردة للعالم هي من نتاج تحليل الفيلسوف العقلي للعالم والوصول إلى حقيقة كلية عامة مفارقة للواقع تمثل حقيقة العالم، بمعنى أن العالم الواقعي الذي نراه لايمثل الحقيقة لأنه ظاهري، فحقيقته هي الحقيقة الميتافيزيقية الكلية الموجودة في ذهن الفيلسوف؛ أي الحقيقة الكلية المفارقة للواقع.
وفي مقابل الحقائق الفلسفية الكلية المجردة توجد حقائق جزئية واقعية، وهذه الحقائق هي مجال العلوم الجزئية؛ أي إن كل علم يحتوي على حقائق جزئية واقعية مادية تقدم عليها الأدلة والبراهين الواقعية ومن ثم تكون حقائق جزئية وواقعية وليست ذهنية أو مفارقة للواقع. كما أن أي علم مجاله محدود بتخصصه، في حين أن الفلسفة ذات رؤية شاملة وكلية للعالم، ومن ثم تحظى بأهمية أكبر عن العلوم الجزئية لأنها “العلم الكلي” .
أما العامل الثالث فقد كان الطابع العام للفلسفة اليونانية حيث ركز فلاسفتها على الجواهر العقلية ذات الطابع الكلي الذهني المجرد ويقابله ما يوجد في الواقع وهو الجزء. فالجواهر والكليات عقلية. وذهب معظم الفلاسفة اليونانيين على أنها ثابتة، أي الأصل الذي لايتغير لأنها تمثل الحقيقة المطلقة الشاملة في كل العقول، وتتجاوز مسألة الزمان والمكان، أي ليست زمانية أو مكانية، لأنها حقائق متعالية ومجردة وتتوارثها العقول عبر الأجيال. فعلى سبيل المثال، الكرسي الكلي أو الطاولة الكلية عناصرهما الجوهرية ثابتة، فالكرسي يتكون من أرجل ومقعد وسنادة، والطاولة من سطح مستو وأرجل، هذه العناصر الجوهرية ثابتة وأزلية بغض النظر عن العصر أو الزمان أو الشكل أو مما يصنع منه الشيء. في المقابل نجد أن العلوم تتناول الموضوعات الواقعية ذات الطابع الحسي وحقائقها جزئية وليست كلية، بمعنى أن المعرفة فيها تتم عبر الحواس التي كان يشكك بها الكثير من الفلاسفة اليونانيين لأن الحواس قد تخدع الإنسان، عدا كون الموضوعات والأشياء الجزئية لا تعرف الديمومة، بل يمكن أن تتحلل أو تتغير ومن ثم فهي ليست حقائق ثابتة كالكليات والجواهر العقلية.
بناء على ذلك سميت الفلسفة بأم العلوم عند اليونان؛ لأنها كانت تؤدي أبرز وظيفة من وظائف العلم وهي التفسيرـ فقد فسر الفلاسفة اليونانيون الأوائل أصل الوجود والطبيعة والإنسان من خلالها، كما أنها كانت تبحث في الحقيقة الكلية للوجود والعالم التي تعد عند اليونانيين أسمى وأهم من الحقائق الجزئية لأنها قادرة على استيعاب الواقع والأفكار المجردة معاً.
النهضة العلمية والعصر الحديث
قبل الحديث عن النهضة العلمية والعصر الحديث لابد من الإشارة بشكل سريع إلى وضع الفلسفة في العصور الوسطى التي تميزت بالطابع الديني، سواء في أوروبا أم في الحضارة العربية الإسلامية، إذ حافظت الفلسفة على طابعها الكلي المجرد وتم توظيف مناهجها وحججها العقلية في خدمة القضايا الدينية أو إعطائها صبغة دينية. واستمر الفلاسفة – إلى حد كبير – بالجمع ما بين والفلسفة والعلم مثلما كان الحال عند اليونان. فقد ساعدت الطبيعة الشمولية للدين على الأخذ من طابع روح الفلسفة الذي يتسم بأنه شمولي وعام، كما أن المعرفة العلمية المحدودة في تلك العصور وعدم تجذر العلم فيها أعطى العقل مكانة أكبر في النظر للعالم وقضايا الإنسان ومشكلاته من زاوية عقلية.
لكن التحولات التي حدثت منذ عصر النهضة جاءت بواقع مختلف عما كان سائداً في العصور السابقة. فبعد تراجع، ثم انهيار حكم الكنيسة في أوروبا، وبروز العلم والعلماء كقوة فاعلة في المجتمع وإنتاج المعرفة، عمل هؤلاء على سد الفراغ المعرفي الذي تركه انهيار المعرفة التي روجت لها الكنيسة في العصور الوسطى، إذ بنيت المعرفة الإنسانية على أسس علمية تجريبية وعقلانية جديدة ولم تعد معرفة مؤدلجة أو ذات طابع ذاتي، بل موضوعية ومستقلة تقدم الأدلة والبراهين القاطعة على صحتها. وحدث تحول مهم في الفلسفة آنذاك نتيجة لدور العلم في إعادة صياغة المعرفة الإنسانية على أسس جديدة فارتبطت الفلسفة بالمعرفة.
وكانت نظرية المعرفة الشغل الشاغل لمعظم الفلاسفة والأساس الذي بنيت عليه عدد من المذاهب الفلسفية الحديثة. والاهتمام بنظرية المعرفة لم يحد من الاهتمام بمبحث الوجود، بل نجد الكثير من الفلاسفة وظفوا أفكارهم الفلسفية تجاه المعرفة بما يتماشى مع رؤيتهم للوجود ومن ثم حافظت الفلسفة – إلى حد كبير- على الأسس التي أرساها الفلاسفة اليونانيون لطبيعة الفلسفة والتفكير الفلسفي ذات الطابع المجرد والشمولي.
وحدث تطور مهم حافظ على طبيعة الفلسفة التقليدية وأخذها إلى ما يسمى بالمذاهب الشمولية. فعلى الرغم من التطورات العلمية التي أحدثت نقلة نوعية في فهم العالم وتفسيره وتراكم المعارف العلمية والتشعب التدريجي للعلوم والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في العصر الحديث، استطاع الفلاسفة استيعاب هذه التطورات والتحولات عبر ما يسمى بـ “المذاهب الشمولية” التي وصلت إلى ذروتها في المذهب المثالي للفيلسوف الألماني جورج فيلهام هيغل، إذ مثل مذهب هيغل سلطة فلسفية اقتفى أثرها العديد من الفلاسفة وحتى الذين عارضوه، مثل كارل ماركس، لم يخرج عن الإطار العام لأسس فلسفته، فكان مذهب ماركس مادياً لكن بأدوات هيغل الفكرية والفلسفية. واستطاع الفلاسفة الشموليون استيعاب المعارف العلمية وغيرها والتطورات الجارية في المجتمع ووضعها في قالب فكري شمولي يقدم فيه الفيلسوف تحليلاً للعالم والوجود وطبيعة المجتمع وما يجري فيه من تحولات وموقع الإنسان فيه، ومن ثم التنبؤ بمستقبل مسيرة المجتمع الانساني؛ أي إلى ماذا سيكون عليه مستقبل الإنسانية.
والمذاهب الشمولية هي استمرار للتصور اليوناني للحقيقة الكلية الشاملة للعالم التي تفسره وما يجري فيه عبر أفكار ميتافيزيقية تكون الحقائق فيها مترابطة عضوياً؛ أي لاوجود لحقيقة مستقلة عن التفسير الميتافيزيقي ذي الرؤية الواحدية للعالم التي لاتقبل التعددية، أي إنها تبقي الفلسفة “العلم الكلي” الشامل لمعرفة والوجود والعالم وحقيقتهما.
يمثل ما سبق أسباب تسمية الفلسفة بـ “أم العلوم” وكيف فضلها اليونان ومن تلاهم على بقية المعارف في فهم العالم وتفسيره، وكيف ظلت على هذا الحال حتى القرن التاسع عشر حيث شهد نصفه الثاني تصدع الفلسفة التقليدية وحدوث تحولات جذرية فيها وضعت تساؤلات عدة على مستقبلها، فما الذي حدث لأم العلوم بعد أن تمكن العلم من المعرفة والثقاقة الإنسانية؟!