ما يزال وشاح الأرض، الصلب والنشيط الحركة في الوقت نفسه، عصياً على الفهم! لكن، نتيجة لدراسة معادن تخضع لضغوط قوية جداً، بدأ العلماء يكتشفون أسراره. فبينما تقع النواة الداخلية الصلبة على عمق 5200 كم تحت أقدامنا، والنواة الخارجية السائلة على عمق 2900 كم، فإنه لا تفصلنا عن الوشاح سوى القشرة الأرضية الرقيقة التي تبلغ ثخانتها 40 كيلومتراً.
ولعل الوصول إلى عمق كيلومتر واحد في باطن الأرض يكلف غالياً، ولا ينزل أعمق منجم في العالم، منجم (تاوتونا) في جنوب إفريقيا، إلا إلى عمق 3.9 كم.
إذاً لا نزال بعيدين جداً عن ملامسة الأمتار الأولى من الوشاح، هذه الطبقة التي تمثل %80 من حجم الكوكب! والذي يولَد بشكل خاص الظواهر الحرارية والجيولوجية المذهلة التي تنشط سطح الأرض كله.
لنبدأ بتركيبه الكيميائي، الحاسم في الكشف عن أسراره؛ فلكي يعيد الباحثون تكوينه بالمحاكاة، لم يلتفتوا نحو المركز، بل نحو السماء.
لما كان كوكبنا قد تشكل من تجمع أحجار نيزكية بدائية، فإن «وصفة» الأرض تكون بالضرورة هي «وصفة» هذه الأحجار نفسها. على الأقل المكونات الموجودة فيهما هي بالنسب ذاتها.
إلا أننا نعرف أن العناصر الأثقل، الحديد والنيكل، كانت قد سالت نحو مركز الأرض لتشكل النواة الداخلية الصلبة والأخرى الخارجية السائلة. أما القشرة الأرضية، فإنها لا تمثل سوى نسبة صغيرة من الكوكب.
إذاً، ربما نستنتج تركيب الوشاح الذي يتلخص معظمه في ستة عناصر: أكسجين، وسيليكون، ومغنيزيوم، و%10 من الحديد الأرضي ، والألمنيوم، والكالسيوم.
حركات حمل حراري
فضلاً عن هذه الذرات الرئيسية، نعثر على بعض العناصر الإشعاعية النشاط (يورانيوم، بوتاسيوم، توريوم) على شكل آثار تؤدي دوراً أساسياً، على الرغم من قلة كميتها: تطلق معظمَ الحرارة التي تحرك الوشاح. ذلك أن الوشاح يتحرك.
وحين رصد الباحثون انتشار الموجات الزلزالية (السيزمية)، المعروف أن سرعتها أكبر في المادة الباردة منها في المادة الساخنة، اكتشف الباحثون في الواقع أن الوشاح ينشط بحركات حمل حراري، على غرار تلك التي تهيج سائلاً نسخّنه: تصعد المادة الساخنة وتغوص الباردة نحو الأعماق، حيث تتسخن من جديد.
وهذا الدفق من المواد، تحت القشرة مباشرة، هو منشأ تكتونية الصفائح.
بريدغمانيت هابط من السماء
بخصوص البريدغمانيت، الذي يشكل نحو نصف الوشاح، لم يتمكن الباحثون من الحصول على عينة منه إلا عام 2014، في حجر نيزكي. ذلك أن من السهل والشائع أكثر الحصول على عينات قادمة من الفضاء مقارنة بإمكان الحصول عليها من قلب كوكبنا!
وينبغي القول إن هنالك احتمالا ضعيفا بأن نرى معدناً لا يتشوه تركيبه خلال مساره عند العودة إلى السطح من عمق ما، وذلك نتيجة الضغوط ودرجات الحرارة العالية المتباينة التي يتعرض لها.
لكن الأمر ليس مستحيلاً! ففي العام المذكور آنفا، حصل الباحثون على قطعة صغيرة من الرينغووديت، الذي يشغل وفقاً للنماذج %60 من الوشاح على عمق يراوح بين 520 و660 كم. وهذا الشكل المعدني غير ثابت في شروط الحرارة والضغط الجوي.
إذاً، من غير المحتمل الحصول على عينة منه ذات يوم، لكن تلك القطعة الصغيرة وُجدت في حافظة ثمينة: ألماسة، كانت محتبسة فيها كجسم غريب.
كان هذا الرينغووديت الأول يخبئ هو نفسه كنزاً: آثار ماء؛ ليس ماء سائلاً، بل «منحلاً» في المعادن على شكل مجموعات هدروكسيدية كشائبة في الصخر، بشكل ما.
صهارة وقشرة
هل يمكن إذاً أن تكون هناك صهارة لا تصعد نحو القشرة؟
لاحظ أحد الباحثين أنه عند صهر بازلت، وإخضاعه لضغوط تصل إلى 70 جيغاباسكال
(1 جيغاباسكال GPa يساوي 10000 وحدة ضغط جوي)، أن السوائل ضمن هذه الشروط أكثرُ قابلية للانضغاط أيضاً. وتصبح الصهارات عندئذ أشد كثافة من الصخور، ويمكن أن تبقى محتبسة في الوشاح العميق.
ولمعرفة حراك صهارات افتراضية على هذه الأعماق، يجب انتظار تطوير أجهزة أفضل أداء. أما فيما يخص معرفة منشأ جيوب السائل هذه المتفرقة في قلب الصخر، فليس هنالك معلومات علمية متوافرة حتى الآن.
لم يعط الوشاح بعد أسراره كلها، وعلى الباحثين، المضطرين لملاحظته من السطح، تطوير أدوات جديدة للإجابة عن الأسئلة العديدة غير المحسومة بعد..
وهذا عمل صعب ومشوق، وبلانهاية على الأرجح.