العلوم البيئيةالعلوم الطبيعيةعلم النبات

مستنقعات القرم

بيئة فريدة وفوائد عديدة

د. هاشم عباس مدكور
باحث بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، فرع البحر الأحمر (مصر)

يصادف مرتادو السواحل في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية وجود تجمعات من أشجار القرم التي تنتشر بشكل كثيف ولافت في مناطق المد والجزر ومناطق الجريان السطحي على طول حافات الشواطئ أو داخل المناطق الساحلية القريبة من الشواطئ، وعادة ما تجتذب أوراقها وأغصانها وجذورها المتشابكة ومياهها الضحلة عددا كبيرا من الطيور والأسماك والقشريات وغيرها من الكائنات، لتصبح بذلك موئلا غناء ومجتمعا متكاملا يضم عددا كبيرا من الكائنات البحرية، وليس فقط نبات القرم. وهذا النبات المثير هو مجموعة من الأشجار والشجيرات الســاحلية من ذوات الفلقتيـن والفلقـة الواحـدة الـتي تستطيع النمو وسط الرسوبيات المشبعة بالمياه والتربة اللاهوائية (قليلة الأكسجين) والمياه المالحة.
ومصطلح القرم في حد ذاته، وإن عبر معناه المباشر عن ذلك النبات، يقصد به عادة وصف البيئة المعيشية التي ينمو فيها مع عدد من النباتات والحيوانات وسط التربة المحيطة والرسوبيات، ولا يقصد به نبات القرم فقط. وهذا المصطلح مشتق في الأساس من كلمتين، الأولى كلمة برتغالية هي Mangue وتعني الشجرة، والثانية إنجليزية وهي Grove وتعني منبت الأشجار. وقد اقترح بعض العلماء اقتصار كلمة Mangrove لتشير فقط إلى النباتات المتحملة للملوحة والمكونة لغابات القرم، وكلمة Mangal لتشير إلى المستنقعات الملحية والأحراج التي عادة ما ينمو ويعيش فيها نبات القرم مع غيره من النباتات والحيوانات.

طبيعة النبات وخصائصه الوظيفية
القرم هو نبات متحمل للملوحة بشكل عام، لكن درجة تحمله لهذه الملوحة تختلف من نوع إلى آخر. فعلى سبيل المثال، فإن النوع الأحمر منه المعروف باسم Rhizophora يحظى بقدرة منخفضة نسبيا على تحمل الملوحة العالية بما لا يزيد على 50 ألف جزء في الألف فقط، لذا فإن درجة تطوره ونموه تعتبر بطيئة بصورة عامة، مقارنة بالأنواع الأخرى من القرم. ومقابل ذلك يستطيع النوع الرمادي أو الأسود المعروف باسم Avicennia النمو في درجة ملوحة عالية تصل إلى 65 ألف جزء في الألف.
وتنتمي أشجار القرم إلى نوع كاسيات البذور وتتميز عن غيرها من النباتات بأن بذورها تبدأ بالإنبات أثناء وجودها على أفرع الشجرة، وتظل متصلة بالشجرة الأم حتى مرحلة النضوج، وبمجرد بلوغها هذه المرحلة تبدأ بالسقوط تلقائيا في الماء، لتنغمس جذورها الصغيرة في التربة، ثم تبدأ النمو من جديد لتظهر كشجرة جديدة أو نبته صغيرة. وفي حالة سقوطها خلال فترة ارتفاع الماء أثناء فترة المد تظل البذور طافية على الماء إلى أن تنحسر المياه وتقابل البذرة أرضا صلبة تستطيع التجذر فيها. ومعظم أشجار غابات القرم ثنائية الجنس، ويتم التلقيح فيها عن طريق النحل والحشرات الصغيرة والفراشات والخفافيش والطيور.
ويتكيف النبات فسيولوجيا مع الوسط البيئي القاسي الذي ينمو ويعيش فيه من خلال أكثر من خاصية فريدة. فبداية تتم عملية التنفس بواسطة جذور عرضية تنمو من الأجزاء السفلى للنبات وتتجه إلى الأعلى ضد الجاذبية لتظهر فوق الماء كسيقان راسية نامية. وبظهور هذه الجذور فوق سطح الماء يتمكن النبات من الحصول على الأكسجين اللازم لإجراء عملياته الحيوية. وتساعد الغدد الملحية الموجودة على سطح الأوراق على تكيف النبات مع الملوحة العالية فتعمل كمضخات تدفع بالأملاح الزائدة إلى خارج جسم النبات، وإن تكيف بعض أنواع القرم الأخرى بشكل مختلف للعيش والنمو وسط المياه المالحة.
وهناك أكثر من عامل بيئي وجغرافي يتحكم في نمو القرم وانتشاره في منطقة ما، من أهمها توافر طبيعة جغرافية معينة مثل وجود خلجان ضيقة ومناطق ساحلية محمية تحظى بمياه هادئة وتسمح بجريان المياه بما يساعد على سرعة ترسب الطمي وتكوّن تربة طينية رخوة واستقبال الرواسب الأرضية الغنية بالمغذيات والمواد العضوية، وضرورة توافر مستوى مد وجذر مناسب بحيث لا ترتفع مياه البحر بشكل دائم وتغمر جذور النبات بالكامل فتعيقه عن التنفس والحصول على الأكسجين اللازم لبقائه.

تصنيف تجمعات القرم
هناك أكثر من طريقة وأساس لتصنيف تجمعات القرم، مثل لون البذور والثمار كما ذكرنا آنفا، لكن اعتمادا على طبيعة الموقع الجغرافي ونظام تصريف المياه والوسط المائي الذي تنمو فيه هذه التجمعات، يمكن أيضا تقسيم غابات القرم إلى 4 أنواع رئيسية، كالتالي:

غابات القرم النهرية Riverine Mangrove Forests وهي تنمو وتتطور على طول مصبات الأنهار في المناطق الداخلية المتأثرة بتسرب مياه البحر المالحة. وهي تتميز بارتفاع تدفق المياه وسرعة تدفق الرواسب والمغذيات، مع انخفاض درجة تحملها للملوحة بمقدار 10 إلى 20 جزءا في الألف مقارنة بالأنواع الأخرى.

غابات القرم الهامشية Fringe Mangrove Forests وهي توجد وتنتشر في شكل حزام ضيق على حافة السواحل وعلى طول الشواطئ المحمية المواجهة للبحر التي تتميز عادة بتضاريس متدرجة ومناطق فيضية واسعة وممتدة نتيجة ارتفاع مستوى المد والجزر فيها، لذا فهي تتسم بقدرتها على تحمل مستويات أعلى من الملوحة.

غابات القرم الحوضية Basin Mangrove Forests وهي تشمل تجمعات القرم التي تنمو في الأحواض والمناطق المنخفضة التي عادة ما تستمد مياهها ورسوبياتها من خلال فيضان مياه البحر أو ارتفاع مستوى المد. وهي على ذلك تحظى بتدفق بطيء نوعا ما من المياه، وتمتد على مساحات شاسعة باتساع الحوض، وتعتبر متوسطة من حيث قدرتها على تحمل الملوحة.

غابات القرم القزمية Dwarf Mangrove Forests وهي تشمل تجمعات القرم المتقزمة ومحدودة النمو القريبة من البحيرات الملحية والخلجان الساحلية عالية الملوحة. ويعود سبب تقزم هذا النوع إلى الظروف والعوامل البيئية التي تخضع لها، والتي تتمثل عادة في نقص المغذيات وضعف تدفق المياه وارتفاع درجة الملوحة بشكل كبير، وهو السبب الرئيسي في تقزم النبات.

رسوبيات غابات القرم
أما عن الرسوبيات المكونة لتربة غابات القرم فهي تتكون في الغالب من رسوبيات دقيقة وناعمة ذات محتوى عضوي لكن ربما يوجد معها أيضا خليط من المواد الكربونية وغيرها، التي نتجت وترسبت من أكثر من مصدر وعمليـة رسوبية مثـل النقـل عبـر الأودية والترسـيب الهوائي ونواتج عملية تحات الأرصفة المرجانية والصخور الشاطئية، وكذلك حركة الأمواج التي تؤدي إلى فرز وإعادة توزيع الرواسب.
كذلك يختلف حجم الحبيبات وطبيعة النسيج المكون لهذه الرسوبيات تبعا لموقع غابة القرم ومدى قربه من الشاطئ والمياه الساحلية، فرواسب غابات القرم القريبة من الشاطئ تتباين بشكل كبير في حجم الحبيبات والتركيب المعدني نتيجة لعملية الخلط الدائرة بقوة بين المكونات الكربوناتية القادمة من ناحية البحر بواسطة الأمواج والتيارات الساحلية من جهة، والمكونات القارية القادمة من ناحية البر عبر الترسيب الهوائي أو النقل بواسطة الوديان من جهة أخرى.
أما رواسب القرم الموجود في مسطحات المد والجزر فهي تتميز بسيادة الرمال الكلسية الخشنة، في حين تتميز رواسب القرم الموجودة في المناطق الداخلية بسيادة المواد القارية، كما يتميز القرم الموجود في الأحراج والمناطق الساحلية المنخفضة بسيادة الوحل والرسوبيات الطينية.

دور بيئي فريد
تؤدي غابات القرم عددا من الوظائف الحيوية، وتقدم منافع عدة للمجتمعات البشرية القاطنة بالقرب من السواحل والنظام البيئي للمناطق الساحلية عموما، فبداية تعمل جذور النبات الهوائية المنتشرة بكثرة حول أشجار القرم، والممتدة أحيانا في عمق التربة لنحو مترين، على تثبيت الرواسب والتربة الساحلية، مما يسهم في حماية الشواطئ من الانجراف والتآكل. كما تعمل هذه الجذور مع جذوع الأشجار المتشابكة على حجز الرسوبيات والطمي وبقية المواد القادمة من جهة البر وتمنعها من الانتقال إلى البحر، وهذا يسهم بدوره في حماية الموائل الساحلية الأخرى لاسيما الشعاب المرجانية وحشائش البحر من الضرر نظرا لأنها تحتاج بشكل دائم إلى مياه صافية وخالية من أي عكارة.
إضافة إلى ذلك، فإن غابات القرم تدعم سلسلة الغذاء وتحظى بمحتوى عضوي مرتفع، وتوفر المأوى والحماية لمجموعة كبيرة من الحيوانات البحرية والطيور المهاجرة والمستوطنة، مما يسهم من جهة أخرى في تعزيز التنوع البيولوجي وإثراء تجمعات وأعداد الأسماك والقشريات المهمة تجاريا. وفي هذا يقدر أن كل ميل مربع من غابات ومستنقعات القرم قد ينتج نحو 124 طنا من الأسماك سنويا.
كما تؤدي غابات القرم دورا حيويا في مكافحة تغير المناخ، إذ تتميز بقدرة عالية على امتصاص الكربون الزائد من الجو ومن ثم دفنه وتخزينه في التربة والرسوبيات التحتية، مما يقلل من تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري المسببة لتغير المناخ. وهذا الكربون يعرف باسم الكربون الأزرق؛ نظرا لأنه يمتص بواسطة الموائل الطبيعية التي تنمو في المياه البحرية (الزرقاء).
ولا تقتصر أهمية القرم على دورها البيئي، إذ إنها تقدم منافع وخدمات أخرى قيمة لبعض المجتمعات البشرية الساحلية والسكان المحليين والصيادين. فأشجار القرم مرعى جيد لقطعان الجمال والماعز التي تتغذى بأوراق وثمار النبات الغنية بالبروتين العضوي، حينما تكون النباتات الأخرى غير متاحة وبخاصة خلال موسم الصيف والجفاف. كما يستفاد من فروع الأشجار وأخشابها كحطب ووقود، وهذا ما قد يفسر تعرض تجمعات القرم الأكثر قربا من التجمعات البشرية للتراجع والتدمير مقارنة بتلك المعزولة أو الموجودة في الجزر البعيدة والسواحل النائية. كما تستغل الأجزاء غير الخشبية من أشجار القرم ولاسيما القلف والأوراق في استخراج وإنتاج بعض المستخلصات الكيميائية المهمة مثل التانينات والأصماغ والأصباغ.
إضافة إلى ذلك، تتمتع غابات القرم ومستنقعاتها بمناظر ساحرة وخلاَّبة، لذا فهي تعتبر عامل جذب للسياح، نظرا لإمكانية استغلالها في تنشيط السياحة البيئية.
وحري بالبشرية العمل على حماية هذا الموئل المعطاء من العوامل السلبية المتزايدة التي يتعرض لها وبخاصة عمليات التنمية الساحلية التي تؤدي إلى إزالة واستقطاع مساحات كبيرة منه، ومن ثم خسارة إسهامات ومنافع قيمة. وحري بنا أيضا أن نعمل على إثراء وتنمية القرم في مـواقـع جديـدة، لأن إنماـء شجــرة واحدة من هـذا الموئل يعني وهب موطن ومأوى وحياة لأكثر من نوع من الكائنات.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى