سمر أشرف
كاتبة علمية وباحثة ومترجمة متخصصة في الموضوعات العلمية (مصر)
هل فكرت من قبل ما إذا كانت لأدمغتنا القدرة على التفكير مُنفردة إذا فصلت عن باقي أعضاء الجسم وغذيت بشكل ما؟ هل تستمر في التفكير والوعي بذاتها وما حولها؟ هل تستجيب للمؤثرات الخارجية؟ قد تبدو فكرة جنونية بعض الشيء، لكن الأكثر جنوناً هو حقيقة مفادها أن العلماء قاموا بالفعل بتنمية أدمغة صغيرة في المُختبرات، وهم في الواقع يخشون من أن يتطور لدى تلك الأدمغة وعي ذاتي بعد أن رصدوا نشاطًا كهربائيًا من الخلايا المكونة لها.
تعرف تلك الأدمغة الصغيرة بـعضوانيات الدماغ Brain Organoids، وهي أعضاء صغيرة متعددة الخلايا تنمو في هياكل ثلاثية الأبعاد تشبه مخ الإنسان، وتُنتج في المُختبر من خلال إنماء نوع من الخلايا الجذعية يسمى الخلايا الجذعيّة المستحَثَّة متعدّدة القدرات. وهذه الأخيرة ذات قدرة عالية على التحوُّل إلى أي نوع من الخلايا، وذلك وفقاً للمواد الغذائية التي تتاح لها وعوامل أخرى عديدة مثل إضافة بعض المواد الكيميائية وعوامل النمو المختلفة التي تساعد على تطور الخلايا وتمايزها إلى أنواع من الخلايا متنوعة الوظائف. ويستخدم الباحثون ما يعرف بـ”المفاعلات الحيوية ثلاثية الأبعاد” لتوفير الظروف المواتية للخلايا كي تنمو بشكل سريع، وتستغرق عملية إنماء تلك الأدمغة الصغيرة عدة أشهر.
مستقبل بحثي واعد
تحتوي عضوانيات الدماغ على أنسجة مركبة مكونة من خلايا عصبية مختلفة، وتتشابه من الناحية التشريحية مع أدمغة الثدييات من حيث طبقات الخلايا المكونة للمخ مثل القشرة والضفيرة المشيمية مما يجعلها نماذج مناسبة لإجراء العديد من الأبحاث. وتجلت أهمية عضوانيات الدماغ في دراسة التطور العصبي والاضطرابات العصبية، إذ إن دماغ الإنسان يتكون من نظام معقد من الأنسجة غير المتجانسة، مما جعل دراسة الدماغ وفهم كيفية عمله مهمة صعبة على علماء الأعصاب، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالأمراض التنكسية العصبية مثل باركنسون والزهايمر. تعتبر تلك الأدمغة الصغيرة نماذج عصبية واعدة لدراسة هذه الأمراض وأمراض أخرى مثل الصرع والفصام والتوحد التي يصعب دراستها في النماذج الحيوانية.
على سبيل المثال، كان لعضوانيات الدماغ دور محوري في دراسة صِغر الرأس الخلقي والمكتسب الذي يحدث أثناء النمو العصبي. إذ تمكن الباحثون من تحويل الخلايا الجذعية المعزولة من مرضى صِغر الرأس إلى أدمغة صغيرة تعمل كنماذج بحثية لسبر أغوار ذلك المرض والكشف عن الآليات الخلوية المعطوبة التي تسبب اضطرابات النمو العصبي، كما كشفت تلك النماذج عن تفاصيل تكاثر الخلايا الجذعية العصبية وآليات تمايزها.
وفي أغسطس عام 2020 نُشرت دراسة أجريت على نماذج من عضوانيات الدماغ لدراسة مرض الفصام، تمكن الباحثون خلالها من تحديد المناطق التي تتعرض للتشوه أثناء تطور الدماغ ونموه، ورصدوا الخلل الجيني الذي يحدث عند مرضى الفصام، ووجدوا أن عضوانيات الدماغ يمكن اعتبارها نماذج دقيقة وفعالة فى دراسة مثل هذا المرض المعقد.
حالات مرضية مجهولة
تتيح تلك الأدمغة الصغيرة لعلماء الأعصاب فرصة ذهبية لاستكشاف العديد من الحالات المرضية التي لا تزال مجهولة التفاصيل، من ضمن تلك الحالات نقص الأكسجين عند الأجنة، وهي حالة تحدث نتيجة حرمان الجنين من الإمدادات الكافية من الأكسجين. قد تنتج تلك الحالة عن عدة أسباب منها انفصال المشيمة المبكر أو انسداد الحبل السري أو الولادة المبكرة، وتؤدي إلى تلف خلايا الجهاز العصبي المركزي مما قد يسبب الصمم والعمى والشلل الدماغي وزيادة معدل وفيات حديثي الولادة. ولاتزال النتائج المترتبة على نقص الأكسجين في الأجنة غير واضحة بشكل كامل، ولكن دراسة أمريكية حديثة أفادت بإمكانية استخدام عضوانيات الدماغ المُشتقة من الخلايا الجذعية الجنينية البشرية كنماذج لدراسة نقص الأكسجين.
كما ساهمت عضوانيات الدماغ في فهم أفضل لمرض كوفيد-19 الذي اجتاح العالم وتسبب فى وفاة نحو 7ر1 مليون شخص حتى نهاية عام 2020، حيث أكدت الدراسات التي أجريت على هذه الأدمغة الصغيرة قدرة فيروس كورونا على إصابة الخلايا العصبية وتقليل مناطق التشابك العصبي في الأدمغة وقتلها.
هل العضوانيات واعية بذاتها؟
تطرقت الأبحاث التي أجريت على عضوانيات الدماغ إلى مسارات غير معتادة، حيث ربط فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا عضوانيات الدماغ بالروبوتات المتحركة، واستخدموها كنماذج لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تشبه ذكاء البشر، وعدلوا شفرتها الوراثية بإضافة جينات من إنسان النياندرتال (الإنسان البدائي)، ولم يتوقفوا إلا بعد حادثة فريدة من نوعها. نشر الفريق البحثي في عام 2019 بحثا أظهر أن عضوانيات الدماغ المزروعة على أطباق بتري في المختبر -التي تشبه بذور السمسم في حجمها- أنتجت موجات منسقة من النشاط الكهربائي مشابهة لتلك التي تُرصد لدى الأطفال الخدج -الذين يولدون قبل الموعد المتوقّع. واستمرت تلك الموجات لأشهر قبل أن يُنهي الفريق التجربة.
وهذا النوع من النشاط الكهربائي المنسق يُعتبر إحدى خصائص الدماغ الواعي. تسبب هذا الاكتشاف في إثارة مجموعة من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية حول ما إذا كان ينبغي السماح للعضوانيات بالوصول إلى هذا المستوى من التطور، وما إذا كانت تلك الأدمغة الصغيرة -التى ربما تكون واعية- تستحق معاملة خاصة وحقوقًا لا تُمنح لكتل أخرى من الخلايا، كذلك يدور جدل كبير حول إمكانية خلق الوعي من الصفر.
انقسم الباحثون بين مُعارض لاستمرار هذا النوع من الأبحاث، وبين مُشجع على استمرارها في سبيل إنقاذ البشر من أمراض خطيرة. ويرى بعض الباحثين أن من الضروري وجود مجموعة من الإرشادات والقواعد الشبيهة بتلك المستخدمة في التجارب الحيوانية، لتوجيه استخدام عضوانيات الدماغ في التجارب. وبالفعل بدأت الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب (NASEM) دراسة جديدة في عام 2020 بهدف تحديد القضايا القانونية والأخلاقية المحتملة المرتبطة بذلك المجال البحثي الشائك.
نتيجة لذلك الجدل القائم وضع علماء الأعصاب أيديهم على مشكلة أخرى تتمثل في عدم وجود طريقة متفق عليها فيما بينهم لتعريف الوعي وتحديد طرق لقياسه، ومن دون تعريف عملي سيكون من المستحيل إيقاف التجربة قبل أن تتجاوز الحدود. يقيِّم الأطباء عادة مستوى الوعي من خلال رصد استجابة للألم أو محفزات أخرى كالضوء، لكن هذا غير ممكن في حالة العضوانيات.
وإحدى النظريات التي تحاول شرح ماهية الوعي هي نظرية المعلومات المتكاملة Integrated information theory، التي تفيد بأن الوعي هو نتاج لمدى كثافة ارتباط الشبكات العصبية عبر الدماغ. وكلما زاد عدد الخلايا العصبية التي تتفاعل مع بعضها بعضا، زادت درجة الوعي- ويُستدل عليها بقيمة تسمى فاي “ϕ”. إذا كانت فاي أكبر من الصفر، فإن الكائن الحي يعتبر واعيًا. يشك بعض الباحثين في قدرة عضوانيات الدماغ على تطوير وعي يصل إلى هذه الدرجة، ويتفق معظم العلماء على أنه حتى الآن لم يخلق أحد الوعي في المختبر.
قد يكون ربط هذه الأدمغة الصغيرة بأعضاء وأنسجة أخرى خطوة مفيدة، هذا ما فكر فيه فريق بحثي بريطاني تمكن في عام 2019 من استزراع دماغ صغير بالقرب من العمود الفقري لفأر وربطه بالحبل الشوكي وعضلات الظهر، وعندما حدث الاتصال العصبي بين الدماغ والعمود الفقري بدأت العضلات بالتقلص تلقائيًا.
الأبحاث والانتهاكات الأخلاقية
حتى الآن لا يوجد أي قواعد لتنظيم الأبحاث التي تجرى على عضوانيات الدماغ، لكن النقاش لايزال مستمراً. ويعتقد بعض الباحثين أن علماء الأعصاب بحاجة إلى قواعد حاسمة مثل ضرورة مطالبة العلماء بتبرير عدد الأدمغة التي يستخدمونها، واستخدامها فقط في الأبحاث التي لا يمكن إجراؤها بأي طريقة أخرى، والحد من مقدار الألم الذي قد تتعرض له العضوانيات أثناء التجارب، والتخلص منها بطريقة إنسانية.
يقترح بعض الباحثين أن يقارن العلماء أنماط مخطط كهربائية الدماغ (EEG) لعضوانيات دماغية مستزرعة من خلايا فئران بأنماط مخطط كهربائية الدماغ لدى الفئران الحية، مما قد يشير إلى أي مدى يمكن للعضوانيات البشرية أن تمثل الدماغ البشري الحقيقي.
ليست عضوانيات الدماغ النوع الوحيد من الأعضاء أو الأنسجة الشبيهة بالأعضاء التي طوّرها العلماء؛ إذ تمكن الباحثون من استزراع عضوانيات أعضاء أخرى مثل القلب والكبد والمريء في المختبرات، وهي تسهم بشكل كبير فى استكشاف جوانب مجهولة من أمراض كثيرة لا يوجد لها علاج حتى الآن، كما أنها تمنح الأمل بأن تكون بديلا من عمليات نقل الأعضاء الصعبة والمُكلفة.