عالم من الأرق والوعي والأحلام حقائق عن النوم

بقلم: داود الشراد

يمثل النوم حالة دورة طبيعية من الاسترخاء لأجسام الكائنات الحية ودماغها، ويحدث عادة لساعات ليلاً وتنخفض خلاله الحركات الإرادية والشعور بما يحدث من حولنا، ولا يمكن اعتباره فقداناً للوعي، بل تغير لحالة الوعي بحيث يمكن إيقاظ صاحبها منها، سواء كان إنساناً، أو حيوانا.
ولا تزال الأبحاث جارية لمعرفة الوظيفة الرئيسية للنوم، إلا أن هناك اعتقاداً شائعاً أنها ظاهرة طبيعية لإعادة تنظيم نشاط الدماغ والنشاطات الحيوية الأخرى في الكائنات الحية.

ولا يعتبر النوم فقداناً للوعي، أو غيبوبة، وإنما حالة خاصة يمر بها الإنسان، وتتم خلالها نشاطات محددة.
وحينما يكون الإنسان مستيقظاً فإن لدى المخ نشاط كهربائي محدد، ومع حلول النوم يبدأ هذا النشاط بالتغير، وتساعدنا دراسة النوم على تحديد ذلك بصورة دقيقة؛ فالنائم يمر خلال نومه بعدة مراحل، لكل منها دورها، فهناك المرحلة الأولى والثانية، اللتان يكون النوم خلالهما خفيفاً وتبدأان مع بداية النوم. والمرحلتان مهمتان لاسترداد الجسم نشاطه، ويؤدي عدم بلوغهما إلى النوم الخفيف غير المريح، والتعب، والإرهاق خلال النهار. وبعد نحو 90 دقيقة تبدأ مرحلة الأحلام، أو ما يعرف بمرحلة حركة العينين السريعة REM، وهي مرحلة مهمة لاستعادة الذهن نشاطه.
ويعرف المرور بجميع المراحل بدورة النوم الكاملة. ويجتاز الإنسان خلال النوم الطبيعي (ما بين 6 و8 ساعات) ما بين 4 و6 دورات كاملة.
قد يسبب الحرمان من النوم ضرراً جسدياً فعلياً، كما تفعل حوادث السير، أو قد يؤدي إلى خلل شامل في زمن غير مناسب (اصطدام من نوع آخر)، ما يسبب اختلالات معرفية حادة منها : تراجع الإنتاجية، وصعوبة في التركيز، ومشكلات في الذاكرة والتحفيز، حتى إننا ربما لا نعود نحب هواياتنا بالمستوى نفسه. وهنالك أخطار صحية متزايدة مثل ارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب، والبدانة، والجلطة الدماغية، والسكري، والسرطان وحتى الأمراض العصبية التنكسية مثل ألزهايمر. قد يكون الحرمان من النوم أحد أكبر التهديدات الصحية غير المرئية في هذا السياق، ومثل هذا التهديد لا يسهل مواجهته عبر مقاربتنا العادية التي تقضي بتناول أدوية أفضل، أو زيادة جرعاتها.

الساعة الحيوية
أظهرت أبحاث حديثة أن الحرمان من النوم يتأثر بعامل وراثي، بجانب عامل آخر غير معروف. وفي عام 2009، حدثت طفرة لمعرفة ذلك، حينما أجريت دراسة لمعرفة سلوك النوم عند البشر في جامعة كاليفورنيا، عبر رصد خلل مثير للفضول في بيانات النوم. من بين مئات الأشخاص الذين تمت دراستهم على مر السنين، برز شخصان: أم وابنتها كانتا تنامان طوال ست ساعات في الليلة (يعتبر هذا المستوى من النوم شائباً بالنسبة إلى معظم الناس)، لكن بقي أداؤهما جيداً.
ومن خلال تحليل حمضهما النووي، عثر على طفرة محددة في مورثة (كروموسوم) chromosome مسؤولة عن تنظيم إيقاعات الساعة الحيوية، وهي تجعلهما على ما يبدو مختلفتين عن نظرائهما المحرومين من النوم. ثم أدخلت تلك الطفرة داخل مورثات الفئران. وكان الأثر واضحاً: بدأت الحيوانات التي تحمل الطفرة تنام لفترة أدنى من نظرائها، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تابعت تقديم أداء جيد بعد نحو ست ساعات من دون نوم (إنه وقت طويل بالنسبة إلى الفئران). أما المجموعة التي لا تحمل الطفرة، فقد أظهرت إشارات مألوفة على نقص النوم.
كانت تلك النتيجة أساسية مفادها أنه إذا انعكست طفرة واحدة على مدة النوم، ومن ثم على الوظيفة المعرفية فذلك يطرح احتمال وجود مورثات إضافية تؤدي الدور ذاته. ولهذا طبقت النظرية مع توأمين كان يجري دراسة أنماط نومهما. عمد أعضاء البحث إلى تجزئة المورثة ذاتها، التي رصدتها في عينة التوأمين، لمعرفة ما إذا كان بالإمكان إيجاد الطفرة نفسها، أو أخرى ذات صلة كي يتكرر أثر الحرمان من النوم. وجرى تطبيق ذلك على توأمين ذكرين عمرهما 27 عاماً، يحمل أحدهما الطفرة. ولم تكن المعطيات تشبه تلك التي حللت سابقاً بالكامل، لكنها كانت ترتبط بالمورثة التي تنظم الساعة الحيوية أيضاً.
تبين أن أحد التوأمين الذي يحمل الطفرة كان ينام في الليلة الواحدة أقل بساعتين من شقيقه. وعند مراقبة أداء الثنائي في الاختبار النفسي لليقظة تبين أن التوأم الذي يحمل الطفرة يقدم أداء أفضل من شقيقه.
وحين سمح للتوأمين بالتعويض عن مدة النوم التي خسراها خلال الدراسة، احتاج التوأم الذي يحمل الطفرة إلى زمن أدنى كي يستعيد قواه (أقل بمئة دقيقة تقريباً). وفي يوليو 2014 نشرت نتائج الأبحاث، وظهرت متغيرة وراثية، تسمح لحامليها خلال ست ساعات بالاستفادة من المنافع التي يجنيها معظم الناس الآخرين خلال ثماني ساعات.

المورثات
وأظهرت الاستنتاجات أن عينات الطفرة تبقى ضئيلة، حتى عند جمعها مع البيانات السابقة. وبالتعاون مع مجموعات دولية معنية بالنوم من بريطانيا وكوريا الجنوبية والصين، أمكن جمع ما بين نصف مليون ومليون مشارك. والعمل على تجزئة المورثات العشرين المرتبطة بتنظيم إيقاعات الساعة الحيوية، بحثاً عن الطفرتين اللتين تم العثور عليهما، وعن أي متغيرات جديدة يمكن أن تؤثر على الناحية الفيزيولوجية من النوم.
قد تكون النتائج مهمة بالنسبة إلى المهن التي تحرم الناس من النوم لفترات طويلة. وقد يساهم تحديد تلك المتغيرات في توقع الناس الذين يتأثرون بقلة النوم وأولئك الذين لا يتأثرون. ويمكن أن نستعمل البيانات الوراثية لمساعدتنا على ابتكار أفضل برامج العمل لبعض الأفراد. لكن الأهم من ذلك على الأرجح أن النتائج قد تحسن نوعية حياة ملايين البشر الذين يواجهون حرماناً مزمناً من النوم. وفي حال تحديد تلك المتغيرات الوراثية، سنحصل على لمحة عن البيانات الحيوية التي تؤثر على حاجتنا إلى النوم وحين يفهم العلماء تلك البيانات سيتمكنون من اختبار جزيئات محددة تؤثر على بعض مسارات النوم (إنه طريق محتمل لابتكار وتطوير أدوية وعلاجات جديدة) وحتى لو لم نكن نحمل طفرات مهمة، يمكن أن نستعمل تلك الطفرات لمعرفة المزيد عن طبيعة النوم. إذا تمكنا من تقليد مفعولها، فقد نتوصل إلى تحسين نوعية النوم وتقديم أداء أكثر فاعلية حتى لو نمنا لفترة أقل.

قلة نوم المراهقين
ليس صحيحاً أن النوم مضيعة للوقت فقد دعت الكلية الأمريكية لطب الأطفال في منتصف عام 2014، المدارس الأمريكية التي يرتادها أولاد بين العاشرة والثامنة عشرة من العمر إلى تأخير موعد بدء الدراسة إلى الثامنة والنصف صباحاً، أو حتى بعد ذلك، علماً أن %85 من المدارس تبدأ حالياً عملها المدرسي في وقت أبكر.
ولعل الغاية من ذلك معالجة نقص النوم المتفشي بين المراهقين، ومساعدتهم على التحكم في التبدل في ساعتهم الحيوية، المرتبط بسن البلوغ. فهذا التبدل يحولهم إلى محبين للنوم، فيخلدون إلى النوم، ويستيقظون بعد ساعتين مما اعتادوه حينما كانوا أصغر سناً.
وتكشف دراسات عدة فوائد للتأخير في بدء الدراسة، أظهرت دراسة تتبعت طوال ثلاث سنوات نحو 9 آلاف طالب في ثماني مدارس ثانوية قبل وبعد قرار التأخر في بدء الدراسة تحسناً في العلامات، وتراجعاً في معدل حوادث السيارات التي يرتكبها مراهقون بنسبة %65.
ولعل من الأمور المهمة التي أمكن ملاحظتها أيضاً لتأثيرات قلة النوم، تلك المرتبطة بأعراض الرئة؛ إذ إن انقطاع التنفس أثناء النوم (حالة مزمنة حيث يسبب عدم انتظام التنفس اضطراباً حاداً في النوم). ويبدو أن المسألة تتعلق بالتنفس لكنها تترافق مع تداعيات عيادية واسعة، يمكن ملاحظة أهمية ارتباط الموضوع بحياة الناس، ومدى كفاءة العلاج المناسب.

النوم في الظلمة
غرفة النوم الحديثة ممتلئة بالأضواء، بدءاً من شاشات الحواسيب المتوهجة، وأجهزة الراديو المزودة بساعة، وصولاً إلى أي عدد من الأجهزة الإلكترونية اللامعة. تكمن المشكلة في واقع أن التعرض المزمن للضوء أثناء الليل يؤدي إلى مجموعة من المشكلات الصحية.
ولكي ندرك السبب الذي يجعل التعرض المزمن للضوء سيئاً لهذه الدرجة أثناء الليل، يجب أن نفكر بمسار التطور البشري. قبل نهاية العصر الحجري، كان البشر يتعرضون لنوعين مختلفين من الضوء الطبيعي المسؤول عن تنظيم الإيقاع اليومي. خلال النهار كانت تسطع الشمس، وخلال الليل يظهر القمر والنجوم، وربما ينبعث الضوء من نيران المخيمات. كان النمط المزدوج بين النهار والليل متواصلاً، فحذت برمجتنا الحيوية حذوه.

دور المخ
إن كبح هرمون الميلاتونين Melatonin عامل أساسي لفهم السبب الذي يجعل الإضاءة الصنعية في الليل مسيئة لنا. هذه المادة الحيوية تنجم عن الغدة الصنوبرية الدماغية Pineal Gland ليلاً (حين يكون الجو مظلماً) لتنظيم دورة النوم واليقظة، تخفض ضغط الدم ومستويات الغلوكوز، وحرارة الجسم (إنها ردود فيزيولوجية أساسية وهي مسؤولة عن النوم المريح).
والجزء الدماغي الذي يسيطر على الساعة الحيوية هو «نواة التكيف» (مجموعة خلايا موجودة في قشرة الدماغ Cortex) تتجاوب هذه الخلايا مع مؤشرات الضوء والظلام. وتستشعر الأعصاب البصرية في عيوننا الضوء وتنقل مؤشراً إلى نواة التكيف، فتبلغ الدماغ بأن الوقت حان للاستيقاظ. كما أنها تطلق عمليات أخرى، منها رفع حرارة الجسم وإنتاج هرمونات مثل هرمون الكورتيزول، وتكون معدلات الكورتيزول منخفضة نسبياً خلال الليل، ما يسمح لنا بالنوم. لكنها تكون بمعدلات أعلى خلال النهار، ما يسمح بإعادة الاستقرار إلى معدلات الطاقة وتنظيم وظيفة جهاز المناعة.
لكن الإضاءة الصنعية في الليل تزيد معدلات هرمون الكورتيزول ما يعيق النوم، ويطلق سلسلة من المشكلات المرتبطة بمعدلات الدهون في الجسم، ومقاومة الإنسولين، والالتهاب المنهجي. وذلك ما يؤدي إلى نقص في النوم، وإعاقة التنظيم العصبي للشهية.
لكن إذا كانت غرفتنا مظلمة خلال الليل، فإنه لا يصل أي مؤشر بصري إلى نواة التكيف، لذا تفرز أجسامنا كمية الميلاتونين الضرورية. كذلك يتم تنظيم معدلات الميلاتونين وفق نسبة التعرض للضوء خلال اليوم السابق.

الإضاءة قبل النوم
أظهرت الدراسات أن التعرض لضوء الغرفة قبل موعد النوم يقصر مدة الميلاتونين بفترة تصل إلى 90 دقيقة، مقارنة بالتعرض للضوء الخافت. كذلك، يؤدي التعرض لضوء الغرفة للنوم إلى كبح معدلات الميلاتونين بنسبة تفوق %50. وهي نتيجة لافتة.
أما الإفراط في النوم فيؤدي إلى حالة يدعوها العلماء ثمالة النوم. لا تسبب هذه الحالة أي ضرر عصبي إلا أن محاولتك الخاطئة لتخزين الراحة تجعلك تشعر بتثاقل، لأنك تربك جزء الدماغ الذي يتحكم في دورة الجسم اليومية.
يحدد جهاز ضبط النظم الحيوي شبه اليومي مجموعة من الخلايا المتكتلة في الحصين (قرن أمون) Hippocampus، وهو جزء بدائي صغير من الدماغ يتحكم في الجوع، والعطش، والعرق)، وتيرتنا الداخلية. ويعتمد جهاز الضبط هذا في المقام الأول، على إشارات ضوئية من العين فيدرك متى يحل النهار ويبعث برسائل كيميائية تجعل سائر خلايا الجسم تعمل وفق الساعة ذاتها.
يفترض العلماء أن جهاز الضبط هذا يتطور ليعلم الخلايا في جسمنا كيفية ضبط طاقتها يومياً. وحينما تفرط في النوم، يحدث خلل في الساعة الحيوية، فتبدأ بإعلام الخلايا بأمر مختلف عما تختبره مولدة شعوراً بالتعب. نتيجة لذلك، قد تنهض من السرير في الحادية عشرة صباحاً، إلا أن خلايا جسمك ربما تكون قد بدأت تستهلك طاقتها منذ الساعة السابعة. يشبه هذا الأمر ما يعانيه الإنسان من إعياء الفارق الزمني (Jet lag) عند السفر بين مناطق زمنية متباعدة.
الإفراط في النوم لا يفشل مخططاتك للتنزه يوم العطلة فحسب؛ بل إنه إذا اعتدت الإفراط في النوم دائماً فإنك تعرض نفسك لخطر الإصابة بالداء السكري وأمراض القلب والسمنة. فقد اكتشفت دراسة حديثة طبقت على الممرضات أن من تنام منهن من تسع إلى 11 ساعة كل ليلة يعانين مشكلات في الذاكرة، ويعتبرن أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب، مقارنة بمن ينمن ثماني ساعات بالتحديد (تعتبر من لا تنام فترات كافية أكثر عرضة لهذه الأخطار). وعلى نحو مماثل، ربطت دراسات أخرى الإفراط في النوم بالداء السكري والسمنة، حتى الموت المبكر.
قد يميل من يعملون طوال الليل أو في ساعات الصباح الأولى إلى الإفراط في النوم للتعويض عن الاستيقاظ قبل بزوغ الفجر، أو النوم بعد شروق الشمس. لذلك ينصح الأطباء باستعمال ستائر سميكة حاجبية، وأضواء صنعية لتخطي هذه المشكلة، عوضاً عن اللجوء إلى الأدوية والمكملات الغذائية. كذلك يمكن لتطبيقات، مثل Entrain التابع لجامعة ميشيغان، وهو نظام متوازن يؤدي للتزامن المتبادل، ومساعدة الناس على ضبط ساعتهم اليومية بتحديد كمية ونوع الضوء الذي يتعرضون له خلال اليوم.
وحينما تخلد إلى النوم، يمر جسمك بمراحل نوم مختلفة. فتقوم عضلاتك وعظامك والأنسجة الأخرى بأعمال الإصلاح خلال النوم العميق قبل أن تدخل في مرحلة حركة العين السريعة REM. ولكن إذا لم يكن سريرك وغرفة نومك مريحين (حرارة مرتفعة، أو منخفضة جداً، أو سرير غير مرتب، أو تتخلله انتفاخات)، فإن الجسم يمضي فترات أطول في مرحلة النوم الخفيف السطحي. ولما كنت تحتاج إلى الراحة، فإنك تنام فترات أطول.

Exit mobile version