الطب وصحة

المعلوماتية الحيوية ومحاربة الأمراض الفيروسية

د. عبده عبده الفقي

لاتزال الأمراض الفيروسية أحد أهم الأسباب المؤرقة للبشرية، وأحد العوامل المؤدية إلى انهيار الدول واندثار الحضارات . وهذه الأمراض تحصد أرواح آلاف الأشخاص سنويا، وتتفوق على الأمراض الأخرى بسرعة الانتشار وكثرة واختلاف طرق العدوى، إضافة إلى قدرتها الغريبة على التكيف والتغير المستمرين.ونستذكر هنا الكيفية التي تسبب بها فيروس الأنفلونزا بموت ملايين الأشخاص في العقد الثاني من القرن العشرين. لكن ثمة مبشرات للبشرية تتمثل في إمكان المعلوماتية الحيوية التركيبية محاربة تلك الأمراض والقضاء عليها، وتخليص البشرية من ويلاتها.

ويعد التهاب الكبد الوبائي الفيروسي والحصبة ومتلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) من أهم الأمراض الفيروسية التي تصيب مئات الملايين من البشر في العالم. وبينما تؤثر الفيروسات الآنفة على الإنسان هناك أيضاً أمراض فيروسية أخرى تصيب الحيوان، مثل الحمى القلاعية التي تؤثر على الثروة الحيوانية. وهناك فيروسات قادرة على أن تنتقل من الحيوان إلى الإنسان. وتكمن خطورة هذا النوع من الفيروسات في قدرته على ذلك الانتقال أثناء التعامل المباشر مع حيوانات مصابة ، ثم احتمال انتقالها من إنسان إلى آخر ، ومن ثم تتحول إلى وباء يصعب السيطرة عليه، مثل أنفلونزا الطيور ومتلازمة الجهاز التنفسي الشرق أوسطية. هذه الفيروسات يجب دراستها جيداً بكل الوسائل المتاحة للحيلولة دون اتشارها وتحولها إلى أوبئة. ولم تنج النباتات أيضاً من فيروسات تؤثر بصورة سلبية على إنتاجية بعض المحاصيل.

أمراض فيروسية حديثة

ثمة عدد من الأمراض الفيروسية التي ظهرت حديثا، ومنها:

متلازمة الجهاز التنفسي الشرق أوسطية

ظهر هذا المرض للمرة الأولى في جدة بالسعودية في يونيو من عام 2012 ، حيث تم التعرف إلى فيروس جديد يعرف حاليا بفيروس كورونا الشرق الأوسط (نسبة إلى شكل الفيروس الذي يشبه التاج). ينتقل هذا الفيروس من الإبل إلى الإنسان عن طريق الاختلاط المباشر بينهما، ويصيب الجهاز التنفسي مسببا التهاب الشعب والقصبات الهوائية والرئة. يتميز الفيروس ببطء الانتشار، إذ سجلت 1917 حالة إصابة حتى بداية عام 2017 ، لكن مكمن الخطورة يتمثل في أنه من كل ثلاثة مصابين تحدث حالة وفاة واحدة. وتنتشر متلازمة الجهاز التنفسي الشرق أوسطية في دول الخليج العربي وإيران وكوريا الجنوبية.

التهاب الكبد الوبائي الفيروسي C

جرى اكتشاف الفيروس للمرة الأولى في عام 1989 م. وحاليا يصيب الفيروس نحو 200 مليون شخص في العالم ويتسبب بمضاعفات عدة منها تليف الكبد وبعض السرطانات الكبدية. ومن أسباب انتشار الفيروس نقل الدم الملوث، واستخدام الحقن أكثر من مرة، وأدوات الحلاقة لأكثر من شخص. تحتل مصر المركز الأول عالمياً من حيث انتشار المرض، ويقدر المصابون فيها بأكثر من 14 مليون شخص.

فيروس زيكا

بدأ الفيروس بالظهور في دول غرب ووسط إفريقيا في سبعينيات القرن الماضي. وكان بطيء الانتشار، ثم ظهر بوتيرة مختلفة بدءاً من عام 2015 ، فانتشر في بعض الدول اللاتينية خاصة البرازيل، ثم توسع ليشمل الأمريكتين وبعض الدول الإفريقية والأوروبية. ينتشر الفيروس عن طريق لدغات بعض أنواع البعوض. وجرى التأكد من وجود ارتباط بين إصابة الأم بفيروس زيكا أثناء الحمل وإصابة الجنين ببعض أمراض الجهاز العصبي المصاحبة لصغر حجم الرأس في عام 2016 .

المعلوماتية الحيوية التركيبية

المعلوماتية الحيوية التركيبية فرع من المعلوماتية الحيوية يعتمد على دراسة وتحليل التركيب الثلاثي الأبعاد للجزيئات الحيوية الكبيرة مثل البروتينات والأحماض النووية، ويستند إلى البيولوجيا التركيبية التي تهتم بالحصول على ذلك التركيب لفهم الوظيفة الحيوية لتلك الجزيئات ودراسة آلية ارتباطها بالمركبات والمثبطات.

يتم الحصول على التركيب الثلاثي الأبعاد من خلال طرق عملية ونظرية. تشتمل الطرق العملية طريقتين هما: التحليل البلوري باستخدام الأشعة السينية، والرنين المغنطيسي النووي لمحلول الجزيئات الحيوية. أما الطرق النظرية فتعتمد على التشابهات في التسلسل لوحدات بناء الجزيء الحيوي (الأحماض الأمينية في حالة البروتين). فباستخدام قواعد البيانات التي تحتوي على التتابعات والأخرى التي تحتوي على التركيب الثلاثي الأبعاد للجزيئات الحيوية، تستطيع برامج حاسوبية متخصصة تجميع وبناء ذلك التركيب، فتتحول المعلومات من بعد واحد (التتابعات) إلى ثلاثة أبعاد.

وللمعلوماتية الحيوية التركيبية دور مهم في مكافحة إنزيم البلمرة الفيروسي، فعادة يتكون الفيروس من مادة وراثية يحيط بها غلاف من البروتين. وعندما يصل الفيروس إلى خلية العائل يحقن هذه المادة الوراثية داخل الخلية لتتحكم في آلية الخلية لإنتاج نسخ جديدة من الفيروس ومن ثم إصابة خلايا أخرى. وللتغلب على انتشار الفيروس داخل خلايا العائل ابتكر الباحثون أدوية ومركبات تستطيع الوصول لإنزيمات الفيروس وتثبيطها بحيث لا يستطيع الفيروس إنتاج نسخ جديدة. تمر عملية إنتاج الأدوية المضادة للفيروسات بمراحل عدة قبل إتاحتها للجمهور. وتعد النمذجة الجزيئية – التي تعتمد بصورة مباشرة على المعلوماتية الحيوية التركيبية – أولى الخطوات بهذا الصدد؛ إذ نستطيع من خلال بيانات التركيب الثلاثي الأبعاد للإنزيمات الفيروسية محاكاة ارتباط المركبات المثبطة على الموقع النشط للإنزيم وتوقع فاعلية هذه المركبات قبل تجربتها عملياً لتوفير الوقت والجهد والمال.

يتم ترجمة المادة الوراثية للفيروس بعد حقنها داخل خلية العائل إلى بروتينات تكون وظيفتها بناء نسخ جديدة من الفيروس. يقسم العلماء هذه البروتينات إلى بروتينات وظيفية وأخرى هيكلية، وظيفة الأولى بناء الغلاف الفيروسي الذي يحمي المادة الوراثية للفيروس بعد خروجه من خلية العائل. أما البروتينات الوظيفية فيطلق عليها أيضاً الإنزيمات الفيروسية ولها عدة وظائف مهمة لإكمال دورة حياة الفيروس وبناء نسخ جديدة. وتثبيط أحد هذه الإنزيمات يترتب عليه القضاء على الفيروس. ومن أهم الإنزيمات الفيروسية إنزيم البلمرة (Polymerase) الذي ينسخ المادة الوراثية لتكون هذه النسخ بمثابة المادة الوراثية للفيروسات الجديدة التي تتكون داخل خلية العائل. وترتبط النسخ الجديدة من المادة الوراثية للفيروس بالبروتينات الهيكلية المخلقة داخل خلية العائل لتكوين فيروس جديد يُحدث إصابات بخلايا أخرى.

إنزيم البلمرة

يتميز إنزيم البلمرة بطيه الثابت في معظم الفيروسات، الذي يتميز بثلاثة نطاقات تشبه كف اليد اليمنى: نطاق الأصابع ونطاق الإبهام ونطاق راحة اليد. تقبض النطاقات الثلاثة على المادة الوراثية لنسخها. يحتوي نطاق راحة اليد على اثنين من أحماض الأسبارتيك المتتالية التي تعتبر بمثابة الموقع النشط لإنزيم البلمرة. وقد حصل العلماء على مركبات قادرة على الارتباط بهذا الموقع النشط، والعمل على الإقلال من فرصة وصول النيوكليوتيدات للإنزيم، ومن ثم يتوقف عمل الإنزيم وانتشار الفيروس عند المرضى المصابين بالالتهاب الكبدي الوبائي C. يطلق على هذه المركبات التي تستهدف الموقع النشط لبروتين معين “مضادات الفيروسات ذات المفعول المباشر”. وكان أول هذه المركبات الناجحة هو السوفوبريفير (دواء السوفالدي) الذي أقرته منظمة الغذاء والدواء الأمريكية في ديسمبر عام 2013 .

توضح الصورتان المرفقتان مقدار التشابه بين الطي الخاص بإنزيم البلمرة المتعلق بالتهاب الكبد الوبائي C وذلك الخاص بفيروس كورونا الشرق الأوسط وفيروس زيكا. وعلى الرغم من وجود اختلاف كبير في تتابعات الأحماض الأمينية فإن الطي متشابه بدرجة كبيرة، لاسيما حول الموقع النشط. ويظهر في الصورة الأولى ارتباط النيوكليوتيد GTP بالإنزيم عن طريق روابط هدروجينية يتم من خلالها نقل النيوكليوتيد للحمض النووي الريبوزي الجديد. تمت دراسة بعض الأدوية المضادة لإنزيم البلمرة الخاص بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي C على فيروس كورونا الشرق الأوسط باستخدام الحواسيب، وكانت النتائج لاثنين من الأدوية مبشرة؛ حيث أظهرت محاكاة ارتباط المركبين IDX-184 وMK0608 بالمكان النشط نتائج أفضل من الدواء المستخدم غالباً ضد الفيروسات (الريبافيرين). وأظهرت نتائج محاكاة الارتباط لأدوية الالتهاب الكبدي

الوبائيC على إنزيم البلمرة الخاص بفيروس زيكا إمكان استخدام هذه الأدوية ضد فيروس زيكا، نظراً لتشابه طي الإنزيم وطريقة تفاعل الأدوية مع الإنزيم. وتأكدت هذه النتائج مختبريا ، حيث ثبت فاعلية دواء السوفوسبيوفير على مرضى فيروس زيكا في يوليو عام 2016 .

مركبات جديدة

نستطيع باستخدام النمذجة الجزيئية والمعلوماتية الحيوية التركيبية التنبؤ بارتباط المركبات بالإنزيمات الفيروسية، ومقارنة قوة ارتباط هذه المثبطات بالمكان النشط للإنزيم الفيروسي. وتمكننا هذه الطرق النظرية أيضا من ابتكار مركبات جديدة وتجربتها حاسوبياً، ومقارنة ارتباطها بالمكان النشط للإنزيم بمثيلاتها من المركبات المستخدمة أو تحت الدراسة الإكلينيكية قبل أن نجري عليها الدراسات المختبرية، ومن ثم نوفر الوقت والجهد والمال.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى