كان ستيفن هوكينغ طالباً جامعياً بعمر 21 عاماً عندما شخّص الأطباء حالته المرضية بمرض التصلّب الجانبي الضموري1، ورأوا أن ما بقي له من حياة لا يزيد على سنوات معدودة. لكنه أذهل أطباءه ومن خلفهم بقية العالم عندما عاش 55 سنة أخرى (إذ رحل في 14 مارس 2018)، طرح خلالها أفكارا متميزة في الفيزياء ولاسيما الفيزياء الفلكية.
أفكار وكتب شهيرة
قلة من العلماء المعاصرين حظيت أفكارهم ونظرياتهم باهتمام بالغ وثناء لافت مثلما حدث مع أفكار هوكينغ ونظرياته، لكن بعض أفكاره قوبلت بانتقادات من العلماء. وقد اعتبره بعضهم «خليفة» آينشتاين المعاصر، لأنه استطاع أن يدفع فهمنا لقوة الثقالة (الجاذبية) وبنية المكان والزمان في الكون إلى آفاق جديدة. كما استطاع أن يطرح أفكار العلماء ونظرياتهم المعقدة عن الكون ويقدمها سهلة واضحة إلى عامة الناس من خلال محاضراته الجماهيرية، وعبر كتبه الشهيرة. ويكفي أن نذكر كمثال فقط أن كتابه الشهير» «موجز تاريخ الزمن A Brief History of Time» تربع على عرش الكتب الأكثر مبيعاً طوال سنوات عدة.
دفعت المدة القصيرة التي ذكرها الأطباء لحياته المتبقية هوكينغ إلى العمل بسرعة ودأب أكثر. وشجعه الدكتور دنيس سياما ــ وهو الأستاذ الذي أشرف على رسالته لنيل الدكتوراه ــ على المضي في دراساته وأبحاثه على الرغم من مرضه.
يقول عالم الفلك مارتن ريز عنه: «لم يعش هوكينغ طوال تلك المدة فحسب، بل غدا أحد أشهر العلماء في العالم كله، وصار الباحث الرائد في مجال الفيزياء الرياضية، وقدم لنا كتباً رائعة عن الكون، وطبيعة الزمان، وبنية المكان؛ وأعطانا أمثولة عن انتصار الإرادة على فكرة المصير الوشيك».
أبحاثٌ وإنجازات
تمتع هوكينغ بطموح فريد وقدرة متميزة على مواجهة المسائل الكبرى في علوم الكون: تلك الأسئلة التي تتعلق بقوة الثقالة (الجاذبية) وميكانيك الكم ودورها في نشوء الكون وتطوره، ونشوء الثقوب السوداء وتطورها أيضاً.
كانت نظرية النسبيّة العامة لآينشتاين قد افترضت وجود النقاط المتفردة singularities، التي هي مواقع في بنية النسيج الكوني (الزمكان) يتسبب فيها الحقل الثقالي لجسم كوني ما بأن يبدو لانهائي الانحناء، وهي فكرة لم تقنع معظم العلماء حين طرحها. وعلى الرغم من غياب إمكانية إثبات وجود هذه المتفردات رصدياً، فقد قام هوكينغ، بالتعاون مع العالم البريطاني روجر بنروز في عام 1970، بإسقاط تنبؤات النسبيّة وافتراضاتها على الكون كله، ليطرحا فكرة أن الكون بدأ من نقطة متفردة وفق آلية تعرف حاليا باسم نظرية الانفجار العظيم Big Bang theory.
يقول هوكينغ: «أظهرت أبحاثي مع بنروز أنه ــ وفقاً للنسبيّة العامة ــ لا بد من وجود نقطة متفردة لانهائية الكثافة في الثقب الأسود».
كما أظهر هوكينغ أن الكون يمكنه أن يتطور بعد انطلاقه من هذه النقطة المتفردة دون أن يكون تطوره هذا بصورة تامة التجانس فيما يتعلق بتوزع وانتشار مادته، وهذا ما يفسّر بدايات نشوء نجوم الكون ومجراته الأولى.
إشعاع هوكينغ
اهتم هوكينغ بخصائص الديناميكا الحرارية للثقوب السوداء، وكان يتساءل: كيف يمكن للثقوب السوداء أن تحظى بحرارة ثابتة إذا كانت تمتص حرارة جميع الأجسام الساقطة فيها، ودون انبعاث شيء منها بالمقابل؟
للتعامل مع هذه المسألة، لجأ هوكينغ إلى دراستها من منظور ميكانيك الكم، فوجد أن الثقوب السوداء ليست تامة السواد؛ بل يصدر عنها جسيمات بمعدلات ثابتة من منطقة أفق الحدث التي تحيط بها؛ وهو الإصدار الذي بات يعرف باسم إشعاع هوكينغ Hawking Radiation.
يحدث هذا الإشعاع لأن التذبذبات الكمومية الموجودة على حدود منطقة أفق حدث الثقب الأسود تطلق أزواجاً من الجسيمات متعاكسة الشحنة: تسقط جسيمات الشحنة السالبة منها باتجاه الثقب الأسود وتختفي فيه، في حين تنطلق الجسيمات الموجبة إلى خارج منطقة أفق الحدث وتنجو. كانت النسبيّة العامة قد افترضت استمرار تضخّم الثقوب السوداء ونموها مع الوقت. لكن إدخال هوكينغ عامل النظرية الكمومية إلى مسرح القصة أظهر أن بإمكان الثقوب السوداء أن «تتبخر» في النهاية وتتلاشى، إذا استمرت آلية الإصدار المذكورة آنفاً طوال زمن بقدر عمر الكون ذاته، وأدت إلى تقليص كتلة الثقب الأسود وخسارته حرارته وطاقته إلى أن يزول من الوجود في النهاية. وكانت هذه أول صيحة في الفيزياء تقول بعدم بقاء الثقب الأسود ثابتاً على حاله؛ وهي فكرة ما زالت بانتظار إثباتها رصدياً.
أوتارٌ وأكوان
أدى إسقاط هوكينغ نظرية ميكانيك الكم على مثال حافة الثقوب السوداء إلى تطوير فهم العلماء لها، وصولاً إلى إدراك أنها ليست تامة السواد، وأنها تطلق إشعاعاً مميزاً عند أفق حدثها. لكن ما كان مطلوباً أيضاً هو إسقاط النظرية ذاتها على منطقة قلب الثقب الأسود. ولفعل هذا يجب أن تتوافق النظرية مع القوانين الفيزيائية الكونية الأخرى لتقديم نظرية شاملة قادرة على التفسير. تكمن المشكلة في عدم كفاية عدد الأبعاد المعروفة حالياً (ثلاثة للمكان، وواحد للزمان) لإخراج النظرية الشاملة ــ نظرية كل شيء. يتمثل أحد الحلول المقترحة في نظرية الوتر string theory التي تقول بوجود أبعاد متعددة أخرى. تصوّر نظرية الوتر الأبعاد الثلاثة المعروفة كـ «غشاء» يطفو مثل فقاعة في فضاء متعدد الأبعاد. وهو طرح سيكون إثباته هدفاً للأبحاث الحالية والمستقبلية.
يُعّد مصادم الهادرونات الكبير (الذي بنته المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN في منطقة الحدود الفرنسية ــ السويسرية) بداية جيدة في هذا الطريق. لكنه ليس كافياً بعد. وعلى الرغم من أن قدرته ما زالت دون إمكانية تقديم إثبات لهذا، فإنه جعل من نظرية الجاذبية الكمومية علماً تجريبياً.
يقول هوكينغ: “يرغب العلماء في معرفة الكيفية التي نشأ بها الكون، وكيفية عمله. وقد عرفنا الشيء الكثير عنه. لكننا إذا سُئِلنا: كيف جاء هذا الكون كله إلى الوجود؟ فالحقيقة هي أنه ليس لدينا إجابة واحدة بعد. على الأقل ليس الآن… لقد اعتقدنا ذات حين أننا نوجد في مركز الكون. ثم اعتقدنا أن الشمس هي مركز الكون. لاحقاً، أدركنا أننا إنما نوجد على حافة مجرة هي واحدة فقط من بلايين كثيرة سواها. وسيكون علينا عاجلاً القبول بتواضع أن كوننا هذا هو واحد من أكوان كثيرة غيره”.
ولم ينل نوبل
قلّد هوكينغ في حياته العديد من الجوائز العلمية والأوسمة والتشريفات المنوهة بأبحاثه ونظرياته. لكن نوبل لم تكن إحداها. وعلى الرغم من أن اكتشافه النظري لإشعاع هوكينغ أحدث ضجة كبيرة بين العلماء، وكان كافياً برأي الكثير لنيل جائزة نوبل عنه، فإن مشكلة هذا الاكتشاف النظري هي أنه ظل نظرياً، دون إثبات رصدي حتى الآن من قبل العلماء. ولو حدث الإثبات في حياة هوكينغ لكان حصوله على نوبل الفيزيائية أمراً مؤكداً.