مصطفى يعقوب عبد النبي
لعلنا لا نجاوز الصواب إذا قلنا إن تاريخ العلم في فترة الحضارة العربية الإسلامية يشوبه قدر كبير من التزوير والتدليس والتشويه، ولم تسلم العلوم العربية من انتقاص في القدر أو التهوين من القيمة، فقد بلغ الأمر ببعض المستشرقين ومن تبعهم من مؤرخي العلم من الغربيين أن يسقطوا العطاء العلمي للعلماء العرب في فترة الحضارة العربية الإسلامية التي امتدت نحو ثمانية قرون وشهدت إنجازات عديدة اعترف بها المنصفون.
وعلى سبيل المثال، فقد حظيت الرياضيات العربية بالقدر الأكبر من التجاهل والإهمال، بل وإسقاطها من تاريخ العلم تماما لدى بعض المستشرقين أو مؤرخي العلوم، على الرغم من أن البصمة العربية كانت واضحة على الرياضيات، ممثلة في أشهر الألفاظ وأكثرها دورانا على الألسنة وفي الكتابات العلمية وغير العلمية أيضا، كالصفر الذي عرفه العالم عن طريق العرب. ولعل تاريخ الرياضيات لم يعرف ثورة مثلما أحدثه (الصفر ) من ثورة كبرى في تاريخ العلم بوجه عام وتاريخ الرياضيات بوجه أخص، فلولاه لما تقدمت فروع الرياضيات ولا المدنية على النحو الذي نشهده حاليا في عصر الحواسيب. وهنالك أيضا (الجبر) و(اللوغاريتمات) وغيرهما من إنجازات العلماء العرب في الرياضيات.
اكتشاف قانون التباديل
لعل قصة الإبداع العلمي للعرب في الرياضيات تكتمل فصولا عندما نقول إنه لا يزال في جعبة التراث العربي الكثير، بعضها بحاجة إلى من ينفض عنه غبار النسيان المتراكم عليه منذ قرون من خلال باحثين متميزين.
وتمكن كاتب المقال من كشف علمي في الرياضيات لم يتحدث عنه أحد سابقا، وهو سبق العرب في اكتشاف ما يعرف في الرياضيات بقانون التباديل. و(قانون التباديل) Permutation Law هو من قوانين الجبر المهمة، ويعد ركيزة أساسية فيما يسمى في أدبيات الجبر بـ(قانون التوافيق) Combination، وكذلك كل من (نظرية ذات الحدين) Binomial Theorem، ونظرية الاحتمالات Probability Theory. فما هو (التباديل)؟ وما هو قانونه؟.
تقول كتب الجبر الحديثة: التباديل هو ترتيب لكل أو بعض الأعداد من الأشياء بطريقة معينة، فمثلا تباديل ثلاثة أحرف a ,b ,c مأخوذة كلها كل مرة هو:
Abc وcab و cba و bac و bca و acb .
وتباديل الرقم الطبيعي n يكون مضروب n ويرمز له! n، وقانون التباديل في هذه الحالة:
n= n. (n – 1)(n- 2) ……….2.1
وكمثال على قانون التباديل، فإنه لو كان لدينا كلمة من خمسة أحرف، فإن تباديل هذه الأحرف الخمسة بلغة الرياضيات؛ مضروب خمسة، يكون على النحو الآتي:
مضروب خمسة =
5 × 4× 3 × 2 × 1 = 120
والرمز nPr يمثل عدد التباديل (الطرق أو الترتيبات) لعدد n من الأشياء مأخوذة r كل مرة. لذلك يمثل 8P3 عدد تباديل 8 أشياء مأخوذة 3 كل مرة. ويستعمل في بعض الأحيان الرمز ( P(n,r وله المعنى نفسه للرمز nPr.
فتباديل n من الأشياء المأخوذة r كل مرة هي:
nPr =n(n-1)(n-2)……(n-r+1)
مثال: أوجد قيمة تباديل 5P3 أي أوجد قيمة تباديل لعدد 5 مأخوذة 3 مرات
60 = 3× 4× 5= 5P3
هذا هو المدون في مراجع الجبر الحديثة بكل لغات العالم.
حساب التوافيق
وقد بدأ التفكير في التباديل مطلع القرن السابع عشر الميلادي مع ظهور نظرية الاحتمالات. وفي الفترة نفسها اكتشف عالم الرياضيات الفرنسي باسكال أداة لحساب التوافيق.
وإذا كان الرمز nPr يمثل الحالة العامة لقانون التباديل، والرمز! n يمثل الحالة الخاصة من القانون، فإن العرب عرفوا الحالتين معا؛ العامة من القانون والخاصة منه أيضا. أما عن سبق العرب في اكتشاف هذا القانون، فربما يتبادر إلى الذهن أن هذا الاكتشاف قد جاء في أحد مؤلفات التراث العلمي المنسية في الرياضيات، غير أن الأمر على النقيض من ذلك تماما، بل هو أمر يدعو إلى العجب والإعجاب معا؛ لأن قانون التباديل جاء في أبعد مؤلفات التراث العربي عن الرياضيات، فقد وجدنا القانون في أحد معاجم اللغة وتحديدا في أول معجم للعربية وهو معجم (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 175هـ فقد جاء في المقدمة:» قال الخليل:» اعلم أن الكلمة الثنائية تنصرف على وجهين نحو « قد , دق «، والكلمة الثلاثية تنصرف على ستة أوجه، وهي نحو: ضرب ضبر، برض بضر، رضب ربض. والكلمة الرباعية تنصرف على أربعة وعشرين وجها، وذلك أن حروفها وهي أربعة أحرف تضرب في وجوه الثلاثي الصحيح، وهي ستة أوجه فتصير أربعة وعشرين وجها، يكتب مستعملها، ويلغى مهملها.والكلمة الخماسية تنصرف على مائة وعشرين وجها، وذلك أن حروفها، وهي خمسة أحرف تضرب في وجوه الرباعي، وهي أربعة وعشرون حرفا، فتصير مائة وعشرين وجها، يستعمل أقله ويلغى أكثره».
ويمكن التعبير عن ذلك كله رياضيا وفق قانون التباديل على النحو الآتي:
الكلمة الثنائية = 2×1= 2
الكلمة الثلاثية =3×2×1 =6
الكلمة الرباعية = 4×3×2×1 = 24
الكلمة الخماسية =5×4×3×2×1 =120
ومن خلال قانون التباديل الذي اكتشفه الخليل أمكن حصر الألفاظ في اللغة العربية المستعملة منها والمهملة، فقد جاء في (تاج العروس) لمرتضى الزبيدي نقلا عن (مختصر العين) لأبي بكر الزبيدي (ت 379 هـ) قوله: «عدّة مستعمل الكلام كله ومهمله ستة آلاف ألف وستمائة ألف وتسعة وخمسون ألفا وأربعمائة (6659400)، المستعمل منها خمسة آلاف وستمائة وعشرون، والمهمل ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفا وسبعمائة وثمانون (6693780)، عدة الصحيح منها ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفا وأربعمائة، والمعتل ستة آلاف. والمستعمل من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة واربعة وأربعون، والمهمل منه….Nلخ».
للشعر مكان أيضا
ولم يقتصر الأمر على الحصر الإجمالي لألفاظ اللغة، المستعمل منها أو المهمل، بل كان أكثر تفصيلا، فقد تم حصر الألفاظ الثنائية الحروف المستعمل منها والمهمل، وكذلك الألفاظ الثلاثية والرباعية وحتى الألفاظ الخماسية، كل على حدة مستعملها ومهملها.
واستكمالا للتأكيد على معرفة العرب بقانون التباديل، فإن هناك بيتا من الشعر قدِّر له أن يكون ذا شأن في مجال التباديل. جاء في كتاب ( الفروق ) لشهاب الدين الصنهاجي القراقي (…ـ 684 هـ =…ـ 1285 م) وهو عالم في الفقه والأصول مصري المولد والمنشأ والوفاة:…… وتقرير ذلك بتقديم الكلام على أربعين ألفا وثلاثمائة وعشرين بيتا من الشعر اشتمل عليها بيت نظمه الفقيه العلامة زين الدين المغربي ولخص حساب عدده وهو قوله:
بقلبي حبيب مليح ظريف
بديع جميل رشيق لطيف
وهو من بحر المتقارب ثمانية أجزاء على فعيل – يقصد فعولن في لغة العروض – كل جزء منها في كلمة يمكن أن ينطق بها مكان صاحبتها فتجعل كل كلمة في ثمانية مواضع من البيت؛ فالكلمتان الأوليان يتصور منهما صورتان بالتقديم والتأخير، ثم تأخذ الثالثة فتحدث منها مع الأولين ستة أشكال بأن تعملها قبل الأولين وبعدهما، ثم تقلبهما وتعملها قبلهما وبعدهما، ثم تعملها بينهما على التقديم والتأخير فتحدث الستة، فيكون السر فيه ضربنا الأولين في مخرج الثالث واثنان في ثلاثة بستة، ثم تأخذ الرابع وتورده على هذه الصور الست، وكل واحد من الستة له ثلاث كلمات يحصل بعمل الرابع قبل كل ثلاثة وبعد أولاها وبعد ثانيها وبعد ثالثها أربع صور، فتصير الستة أربعة وعشرين، وكذلك تفعل بالخامس والسادس والسابع والثامن، ومتى حدثت صورة أضفنا إليها بقية البيت فتبقى الأولى ثمانية وكذلك بقية الصور، فيأتي العدد المذكور من الآلاف بيوتا تامة كل بيت فيها ثمانية. وبيان ذلك أن تضرب أربعة وعشرين في مخرج الخامس وهو خمسة تكون مائة وعشرين، تضربها في مخرج السادس وهو ستة تكون سبعمائة وعشرين، تضربها في مخرج السابع وهو سبعة تكون خمسة آلاف وأربعين، تضربها في مخرج الثامن وهو ثمانية تكون أربعين ألفا وثلاثمائة وعشرين بيتا من الشعر وهو المطلوب”.
وبلغة الرياضيات المعاصرة وبتطبيق قانون التباديل على عدد أجزاء (كلمات) البيت الشعري، وهي ثمانية نجد أن:
n! = n (n-1)(n-2) …….3.2.1
أي إن:
مضروب 8 = 8× 7×6×5×4×3×2×1 = 40320
قانون الخليل
إن هذا السبق في هذا الوقت المبكر جدا، أي في عصر الفراهيدي، يجب أن يسجل في تاريخ الرياضيات، ولعلنا لا نطلب كثيرا إذا اقترحنا أن يسمى قانون التباديل بـ (قانون الخليل) أسوة بالكثير من القوانين التي أطلقت على اسماء مكتشفيها من علماء الغرب. كما أنه من الأجدر على واضعي المناهج الدراسية في الرياضيات في المدارس والجامعات أن يشار إلى هذا السبق في معرض دراسة قوانين التباديل والتوافيق.