جرثومة المعدة

خطر كامن يهدد نصف سكان الأرض

د. عبدالرحمن لطفي أمين

لطالما مثّل اسم (جرثومة المعدة) رعبا لدى معظم من عرف أخطارها، وعانى تأثيرها، لاسيما بعد ازدياد عدد المصابين بها في الآونة الأخيرة، وانتشارها بصورة كبيرة في شتى أنحاء العالم حتى باتت تهدد نصف سكان المعمورة.

وهذه الجرثومة، التي غفل عنها العلماء كثيراً وظلت مخفية إلى أن اكتشفت في عام 1982، تصنف كمسرطن بشري، لارتباطها بسرطان المعدة الذي يعد السبب الثالث الأكثر شيوعًا للوفاة بالسرطان في العالم، كما ترتبط بأمراض شائعة مثل عسر الهضم والقرحة الهضمية.

اكتشف العَالِمان الأستراليان وورن ومارشال Robin Warren and Barry Marshall هذه الجرثومة التي تسمى باللاتينية Helicobacter pylori وترجمتها (الملوية البوابية). وتوصلا إلى أن معظم حالات قرحة والتهاب المعدة سببها مستعمرات الجرثومة. وكان السائد سابقا أن معظم حالات قرحة المعدة سببها التوتر والأطعمة الحريفة والبهارات والشاي والقهوة وغيرها. ولم يجد العالمان وقتها (1982) أي ترحيب بدراستهما، وقوبلت فرضية العلاقة بين الملوية البوابية والقرحة الهضمية بفتور. واستفز هذا الأمر واحدا من العالمين هو مارشال حيث شرب طبق بتري Petri Dish – وهو طبق تتم فيه زراعة البكتيريا – كان يحوي مزرعة من بكتيريا الملوية البوابية الحية المستخرجة من معدة مريض، وذلك لإثبات صحة فرضيته. وبعد مدة أصيب مارشال بالتهاب في المعدة. عندها طلبت منه زوجته أن يتناول المضاد الحيوي لأن رائحة فمه كانت كريهة بسبب تلك البكتيريا، وبالفعل اختفت تلك الأعراض منه في غضون أسبوعين. ثم نشر مارشال وزميله تلك الدراسة في عام 1984 في الدورية الطبية الأسترالية، فأحدثت ضجة إعلامية كبيرة. وفي عام 2005، حاز العالمان جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا لاكتشافهما دور الملوية البوابية في التسبب بمرض التهاب المعدة والقرحة الهضمية.

وجرثومة المعدة تؤدي دورًا مهمًا في بيئة المعدة الطبيعية، لكنها ترتبط بتكون قرحة الاثني عشر والإصابة بسرطان المعدة. ومع ذلك، فإن أكثر من %80 من الأفراد المصابين بالبكتيريا لا يعانون أي عرض.

ربما يصاب أكثر من %50 من سكان العالم بالملوية البوابية في الجهاز الهضمي العلوي، وهي أكثر شيوعًا في الدول النامية عنها في الدول المتقدمة.

وصف البكتيريا

بكتيريا الملوية البوابية ذات شكل حلزوني (ملوي) لذا سميت باسم الملوية، ويبلغ طولها نحو ثلاثة ميكرومترات وقطرها نحو 0.5 ميكرومتر. ويعتقد أن الشكل الحلزوني للبكتيريا هو الذي يعطيها القدرة على اختراق بطانة الطبقة المخاطية mucus layer في المعدة. وقد تتحول البكتيريا من الشكل اللولبي إلى شكل آخر ربما يكون قابلا للحياة لكنه لا يستطيع اختراق جدار المعدة. كما تحتوي البكتيريا على أربعة إلى ستة أسواط تعطيها سرعة عالية في الحركة والاختراق.

تكيف البكتيريا مع بيئة المعدة 

لتجنب البيئة الحمضية في الجزء الداخلي من المعدة (lumen)، تستخدم جرثومة المعدة أسواطها لتتحرك وتختبئ في بطانة الطبقة المخاطية من المعدة للوصول إلى الخلايا الظهارية epithelial cells تحتها، حيث تكون أقل حمضية. ولدى هذه الجرثومة القدرة على الإحساس بتدرج الرقم الهيدروجيني في الطبقة المخاطية، ومن ثم تتوجه نحو المنطقة الأقل حمضية. هذا أيضا يحافظ على تثبيت الجرثومة ومنعها من الانجراف في تجويف المعدة.

وتتكون قرحة المعدة والاثني عشر عندما تسمح تداعيات الالتهاب لحمض المعدة وحمض البيبسين الإنزيمي الهضمي بطمس الآليات التي تحمي المعدة والأغشية المخاطية للاثني عشر. ويعتمد مكان غزو جرثومة المعدة، أي مكان القرحة، على حموضة المعدة. فالأشخاص الذين ينتجون كميات كبيرة من الحمض، تغزوهم الجرثومة بالقرب من المدخل البوابي pyloric antrum (المخرج إلى الاثني عشر) لتجنب الخلايا الجدارية التي تفرز الحمض في قاع المعدة (بالقرب من المدخل إلى المعدة). أما الأشخاص الذين ينتجون كميات عادية أو منخفضة من الحمض، فإن بإمكان البكتيريا أيضًا غزو باقي أجزاء المعدة.

تحرض الاستجابة الالتهابية التي تسببها البكتيريا الغازية بالقرب من المدخل البوابي نوعا من الخلايا يسمى خلايا G على إفراز هرمون الغاسترين Gastrin، الذي ينتقل عبر مجرى الدم إلى الخلايا الجدارية في قاع المعدة. يحفز الغاسترين الخلايا الجدارية لإفراز مزيد من الحمض في تجويف المعدة، وبمرور الوقت يزيد من عدد الخلايا الجدارية أيضًا. يؤدي الحِمل الحمضي المتزايد إلى الإضرار بالاثني عشر، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى تكون تقرحات فيه.

وعندما تغزو الجرثومة مناطق أخرى من المعدة، قد تؤدي الاستجابة الالتهابية إلى ضمور في بطانتها وفي النهاية إلى قرحة في المعدة. وهذا أيضا قد يزيد من خطر الإصابة بسرطان المعدة.

وبائية العدوى

يصاب نحو نصف سكان العالم ببكتيريا الملوية البوابية، مما يجعلها العدوى الأكثر انتشارًا في العالم. ويبدو أن العمر الذي يكتسب فيه شخص ما العدوى بهذه البكتيريا يؤثر في النتيجة المرضية للعدوى. فالأشخاص الذين يصابون في سن مبكرة يكون الالتهاب المعدي لديهم أكثر حدة، وقد يعقبه التهاب معدي ضموري مع خطر لاحق لاحتمال الإصابة بقرحة معدية أو سرطان معدي أو كليهما. أما الإصابة في سن أكبر فتسبب تغييرات معدية مختلفة قد تؤدي إلى قرحة الاثني عشر. وعادة يتم اكتساب العدوى في مرحلة الطفولة المبكرة في جميع الدول. ومع ذلك، فإن معدل إصابة الأطفال في الدول النامية أكبر منه في الدول الصناعية. وقد يكون سبب ذلك سوء الظروف الصحية، وربما يرافق ذلك استخدام أقل للمضادات الحيوية لأمراض غير ذات صلة. وفي الدول المتقدمة، لا يصاب الأطفال عادة بذلك، لكن نسبة المصابين تزيد مع تقدم العمر، فتبلغ نحو %50 لمن تزيد أعمارهم عن 60 سنة مقارنة بنحو %10 ممن هم بين 18 و 30 سنة. ويعكس ارتفاع معدل انتشار الإصابة بين كبار السن وجود معدلات أعلى للإصابة في الماضي، عندما كان هؤلاء الأفراد أطفالًا وليس بسبب عدوى أحدث في عمر متأخر. وفي الولايات المتحدة، تنتشر العدوى بشكل أكبر بين الأمريكيين من أصل إفريقي أو إسباني، والسبب على الأرجح هو العوامل الاجتماعية الاقتصادية. ويعزى انخفاض معدل العدوى في الغرب إلى ارتفاع معايير النظافة والاستخدام الواسع النطاق للمضادات الحيوية.

كيف تنتقل العدوى؟

تعتبر الإصابة بالبكتيريا الملوية معدية، على الرغم من أن طرق انتقال العدوى لا تزال مجهولة. وقد ينتقل المرض من شخص إلى آخر إما من الفم إلى الفم أو من البراز إلى الفم. وتمشيا مع طرق النقل هذه، فقد تم عزل البكتيريا من البراز، واللعاب، وطبقات الجير في الأسنان لبعض الأشخاص المصابين. وتظهر النتائج أن البكتيريا تنتقل بسهولة من الطبقة المخاطية للمعدة أكثر من اللعاب. ويحدث الانتقال بشكل رئيسي داخل العائلات في الدول المتقدمة، كما أنها تنتقل من المجتمع في البلدان النامية. وقد تنتقل البكتيريا عن طريق الفم بشرب المياه الملوثة بالفضلات.

علامات الإصابة وأعراضها

تظهر الأبحاث أن هناك نحو %85 من الذين تسكن البكتيريا الملوية معداتهم لا يعانون أعراضا أو مضاعفات. وقد تبدأ العدوى الحادة فجأة فيصاب المريض بالتهاب المعدة الحاد فتظهر أعراضه على شكل ألم في البطن (ألم في المعدة) أو غثيان. وعندما يتطور المرض إلى التهاب معدي مزمن، فإن الأعراض، إن وجدت، غالباً ما تتمثل في عسر الهضم، وآلام في المعدة، وغثيان، وانتفاخ، وتجشؤ، وأحيانا تقيؤ أو براز لونه أسود.

يحدث ألم المعدة عادة عندما تكون المعدة فارغة، بين الوجبات، وفي ساعات الصباح الباكر، لكن يمكن أن تحدث أيضًا في أوقات أخرى. تشمل أعراض القرحة الأقل شيوعًا الغثيان والقيء وفقدان الشهية، وقد يحدث في مراحل متأخرة نزيف أيضا. وهذا النزيف ربما يسبب فقر الدم (الأنيميا) مما يؤدي إلى وهن وتعب وضعف عام. وإذا كان النزيف غزيراً، فقد يحدث القيء الدموي أو البراز الدموي melena.

خطورة العدوى

إن خطر الإصابة بالقرحة الهضمية في الأفراد المصابين بالملوية البوابية يراوح بين 10 و %20، أما خطر الإصابة بسرطان المعدة لديهم فيراوح بين 1 و %2. وقد يؤدي التهاب مدخل بواب المعدة إلى قرحة الاثني عشر، في حين أن التهاب جسم المعدة قد يؤدي إلى قرحة المعدة وسرطان المعدة. وأظهرت دراسة أجريت عام 2013 ارتباطا بين وجود البكتيريا في المعدة ووجود زوائد القولون والمستقيم، وكذلك مع سرطان القولون والمستقيم.

ووجود البكتيريا لا يعتبر مرضًا بحد ذاته، لكنه حالة مرتبطة بعدد من اضطرابات الجهاز الهضمي العلوي. ولا يُوصي الأطباء باختبار الملوية البوابية بشكل روتيني. إلا أنه يوصى بإجراء الاختبار إذا كان المريض مصاباً بمرض القرحة الهضمية أو بعد التنظير المعدي واكتشاف وجود سرطان المعدة، أو في المراحل المبكرة من سرطان المعدة، وفي حالات معينة من عسر الهضم.

توجد عدة طرق للاختبار، بما في ذلك طرق الاختبار الغازية invasive وغير الغازية non-invasive. قد تكون الاختبارات غير الغازية للعدوى بالبكتيريا الحلزونية مناسبة وتشمل اختبارات الأجسام المضادة في الدم، واختبارات مستضدات البراز، أو اختبار تنفس اليوريا الكربوني (حيث يشرب المريض مادة اليوريا المسماة 14C – أو 13C، التي تعمل البكتيريا على استقلابها، مما يؤدي إلى تكون مادة ثاني أكسيد الكربون التي يمكن اكتشافها في التنفس).

وتعتبر الخزعة بالمنظار وسيلةً غازية لاختبار عدوى الملوية البوابية. من الصعب اكتشاف العدوى البسيطة عن طريق الخزعة، لذلك يجب أخذ عينات متعددة. أما الطريقة الأكثر دقة للكشف فهي بالفحص النسيجي من موقعين بعد أخذ عينة بالتنظير الداخلي، جنبا إلى جنب مع اختبار اليوريا الكربوني السريع أو زرع الميكروب.

علاجات مناسبة 

يمكن علاج معظم أنواع البكتيريا بالمضادات الحيوية، إلا أن زيادة مقاومة تلك المضادات تجعل الباحثين في حاجة إلى البحث عن استراتيجيات علاجية جديدة؛ قد يشمل هذا الوقاية في شكل التطعيم. وأجريت أبحاث عدة لتطوير لقاحات فعالة تهدف إلى توفير استراتيجية بديلة للسيطرة على عدوى الملوية البوابية والأمراض ذات الصلة، بما في ذلك سرطان المعدة. ويدرس الباحثون المواد المساعدة المختلفة والمستضدات وطرق التمنيع للتحقق من أنسب نظام لإحداث المناعة. وتوصل باحثون هولنديون إلى لقاح أثبت فعاليته للوقاية من القرحة المعوية وسرطان المعدة.

لا يزال هناك تساؤل حول الاستراتيجية المناسبة للعلاج. إن المضادات الحيوية هي الخيار الأول للعلاج، لكنها ليست المتاحة المطبقة حالياً ضد بكتيريا الملوية البوابية. ومن ثم، يمكن وضع خيارات أخرى للعلاج، ومنها على سبيل المثال البروبيوتيك.

البروبيوتيك

قد يعمل البروبيوتيك كنهج بديل لمحاربة المعضلة الحالية للتحكم في مشكلة مقاومة مضادات البكتيريا. وقد تحقق الأطباء من الآثار الوقائية للبروبيوتيك على الملوية البوابية. وتبين أن معظم البروبيوتيك الذي فحصه الأطباء مفيد للأصحاء والمرضى. وحتى الآن، تم استخدام سلالات مختلفة من البروبيوتيك مع أو من دون مواد مساعدة للقضاء على البكتيريا. وفيما يتعلق بالنتائج المتغيرة التي تم الكشف عنها، فإنه يمكن استخدام البروبيوتيك فقط لمساعدة الأطباء على زيادة فعالية العلاج بالمضادات الحيوية، مع الأخذ في الاعتبار أن البروبيوتك ليس الحل النهائي والأفضل المقترح للتغلب على العدوى بالبكتيريا الملوية.

ومن أمثلة البروبيوتيك تناول بكتيريا حمض اللاكتيك التي تبين أنها تمارس تأثيرًا قمعيًا على عدوى الملوية البوابية، إضافة إلى الزبادي (الروب) المحتوي على العصيات اللبنية Lactobacillus وبكتيريا بيفيدو Bifidobacterium لأنها تحسن من معدلات استئصال البكتيريا الملوية.

إن القضاء على الملوية الهضمية يقلل من الإصابة بسرطان المعدة والقرحة الهضمية وأمراض عسر الهضم. لكن سلطات الصحة العامة لا تزال متأنية في النظر في فوائد الفحص والمعالجة لتلك البكتيريا كوسيلة للحد من المراضة والوفيات المرتبطة بالعدوى. هناك أيضا مخاوف بشأن الاستخدام الواسع النطاق للعلاج الاستئصالي بالمضادات الحيوية، لما لذلك من أثر فيما يختص بمقاومة مضادات الميكروبات وزيادة انتشار بعض الأمراض التي ترتبط بالملوية البوابية، مثل ارتجاع المريء والربو والسمنة.

Exit mobile version