العلوم الاجتماعية

الــروح العلمية للعلوم الاجتماعية

د. محمود الذوادي

لا تقتصر النظرة السلبية لمصداقية علمية علم الاجتماع على بعض علماء الاجتماع أنفسهم فحسب؛ إذ لعلماء ما يُسمى بـ(العلوم الصحيحة) رؤية أكثر سلبية بالنسبة لإمكانية تحقيق علمية العلوم الاجتماعية بصفة عامة. ففي سنة 2000 نشرت المجلة البريطانية The New Scientist افتتاحية أنكرت فيها قدرة العلوم الاجتماعية على إنشاء رصيد معرفي حقيقي حول الظواهر المدروسة، وتساءلت عما إذا كان هذا العلم يستطيع إخبارنا عن الكيفية التي نتصرف بها إزاء أندادنا البشر؟

إجابة صاحب الافتتاحية عن ذلك كانت سلبية جداً؛ ففي نظره فإن العلوم الاجتماعية ليست أداة صالحة للإجابة عن ذلك السؤال وما شابهه.
ويمثل موقف كاتب الافتتاحية إبعاداً واضحاً للعلم من شؤون معشر البشر. ففي زمن العولمة وأزمات الهويات الثقافية ومشكلات البيئة والصناعات الخطرة على المحيط والمجتمعات والأفراد، هل يجوز احترام علم لا يؤمن، استناداً إلى رؤى خاطئة، بأن المختصين في العلوم الاجتماعية يستطيعون التوصل إلى إنشاء علوم ذات مصداقية في فهمها وتفسيرها للظواهر المرتبطة بشؤون الناس ومجتمعاتهم؟
ومثل هذا الموقف من طرف المختصين في العلوم «الصحيحة» والعلوم الاجتماعية يمثل موقفاً ذا رؤية ضيقة جداً بالنسبة لطبيعة العلم.
إنه موقف غير مقبول إطلاقاً في زمن يشهد بازدياد توجهاً بين العلماء والباحثين لصالح التعاون بين التخصصات المعرفية، بهدف دراسة الظواهر كأشياء معقدة، وذلك من خلال رؤية جديدة للعلم تدعو الباحثين والعلماء لكي يكونوا أصحاب عقول واسعة، ترحب بالرؤى والأفكار التي تساعد على إنشاء معرفة علمية رحبة ومتماسكة وذات مصداقية.

وسائل كسب المعرفة العلمية
وفي مقابل الشك في الروح العلمية لعلوم الإنسان والمجتمع؛ يرى آخرون أن تلك العلوم يمكن أن يكون لها مصداقية علمية إذا كان لها عناصر الاستراتيجية العلمية السهلة الفهم وهي: المفاهيم والفرضيات والنظريات والمقاييس والمتغيرات. فالطريقة التي تُدمَج بها تلك العناصر مع بعضها بعضاً تمثل حجر الزاوية في المنهجية العلمية.
ونظراً لأنَّ العلوم الاجتماعية والإنسانية تركز على دراسات سلوك الأفراد والمجتمعات، فإن تبني إطار فكري نظري يُبرز السمات التي يتميز بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس، يُعتبر استراتيجية بحثية منهجية صالحة لكسب الروح العلمية في دراسة شؤون الناس والمجتمعات البشرية.

أربع خطوات منهجية
وتتكون منهجيتنا الساعية للنجاح في رفع المستوى العلمي لأبحاث العلوم الاجتماعية والإنسانية في مسيرة استكشافية من أربع خطوات:

1 – الإنسان كائن ثقافي بالطبع:
هناك معطيات بحثية وفكرية سمحت لنا بإرساء الإطار الفكري لهذه الأطروحة الثقافية الجديدة القائلة بأن الإنسان كائن ثقافي بالطبع. وتعني هذه العبارة أن الإنسان يتميز عن بقية الكائنات الأخرى بمنظومة ثقافية تتلخص في التالي: اللغة والفكر والدين والمعرفة والعلم والقيم والأعراف الثقافية. فرصيد منظومة ذلك التراث غير المادي والثقافي أهم من نظيره المادي؛ لأنه يمثل مركزية الإنسان. وتستند مقولتنا هذه إلى ملاحظات فكرية وبحثية شخصية جديدة حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من عالم الحيوانات، مثلاً:

1 – يتصف النمو الجسمي (البيولوجي الفيزيولوجي) لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الحيوانات.
2 – يتمتع أفراد الجنس البشري بأمد حياة أطول من عمر معظم الحيوانات.
3 – ينفرد الجنس البشري بأداء دور السيادة/الخلافة في هذا العالم دون منافسة حقيقية له من طرف كل الأجناس الأخرى.
4 – يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة الرموز الثقافية المذكورة سابقاً.
5 – يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي البيولوجي الفيزيولوجي من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي المشار إليه في النقطة السابقة من ناحية ثانية.

2 – العلاقة بين المعالم الخمسة:
والسؤال البحثي والفكري المشروع بهذا الصدد هو: أولاً: هل ثمة علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الإنسان؟ ثانياً: هل تؤثر منظومة الرموز الثقافية تأثيراً حاسماً في المعالم الأربعة الأخرى؟ وإذا كانت الاجابة بنعم؛ فإن ذلك يزكي مقولة الإنسان كائن ثقافي بالطبع المشار إليها آنفاً.
وهناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و2؛ إذ إن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سِنّ أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات.
أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان فإنها أيضاً ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان، من جهة، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من جهة أخرى.
وبالنسبة لسيادة الجنس البشري فهي ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلميْن 5 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلميْن هو منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة / الخلافة على وجه الأرض.

3 – مقدرة مقولتنا على التفسير:
إن منظومة الرموز الثقافية تسمح أيضاً بتفسير المعلمين 1 و 2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى أن عملية النمو الشاملة عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية (المادية) والجبهة الرموزية الثقافية (غير المادية). خلافاً للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهذا يعني أن نمو الكائن البشري على مستويين يؤدي بالضرورة إلى بطء عملية النمو ككل عنده؛ أي على الجبهتين. وبعبارة أخرى؛ فإن انصراف كل جهود عملية النمو عند الإنسان إلى جبهتين لا جبهة واحدة يعطل سرعة النمو على الجبهتين عند الإنسان؛ أي إلى بطء في النمو الجسدي وبطء في النمو الرموزي الثقافي. ويلخص الرسم المرفق مركزية منظومة الرموز الثقافية في ذات الإنسان، فيعطي بذلك مشروعية قوية لمقولة الإنسان كائن رموزي ثقافي بالطبع.

4 – ميلاد نظرية جديدة ومفهوم جديد:
وهناك مشروعية فكرية ومنهجية لوصف هذا الإطار التحليلي للرموز الثقافية بأنه يمثل نظرية؛ لأن النظرية هي ذلك الإطار الفكري الذي يفسر عدداً من الظواهر المختلفة. وهذا ما تُبيّنه مقولة الرموز الثقافية عندنا. فالمعالم 1، 2، 3، و5 المميزة للإنسان في الرسم هي حصيلة لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان. ومن هنا تأتي أولوية مشروعية استعمال الرموز الثقافية لبناء نظرية لفهم وتفسير طبيعة الإنسان وسلوكات الناس وشؤون مجتمعاتهم.
وأدت مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان عندنا إلى بروز مفهوم جديد نسميه البيولوجيا الرموزية الثقافية CS Biology، أي إن الرموز الثقافية تؤثر حتى في هندسة جسد الإنسان من حيث بطء نموه وطول أمد حياته. إنه مفهوم معاكس لمفهوم السوسيوبيولوجيا الذي يرى أنه يمكن تفسير الكثير من السلوكات الاجتماعية والثقافية البشرية انطلاقاً من معطيات بيولوجيا الإنسان.
ويتبين مما سبق أن كل عناصر منظومة الرموز الثقافية هي العناصر الأساسية الأولى التي تزودنا بفهم طبيعة الإنسان وتفسير كل ّ من أسباب مميزاته عن بقية الكائنات وسلوكاته المختلفة عنها، والتي سمحت له في الماضي وتسمح له في الحاضر وستسمح له في المستقبل، بالمحافظة على دوره السيادي على وجه الكرة الأرضية وما فوقها. وتنسجم مقولة هذه السطور مع منظور العلم الحديث الذي يرى نفسه على أنه سبيل لفهم الظواهر وتفسيرها والتنبؤ بمستقبلها. >

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى