علم الجينات والوراثة

تقنية كريسبر.. ثورة في الهندسة الجينية

محمد المندعي

من الصعب تذكر ثورة اجتاحت علم الأحياء بسرعة أكثر من تقنية كريسبر؛ فبعد أن أثبت الباحثون إمكانية استخدام هذه التقنية الواعدة في تعديل الجينات انتشرت بسرعة كبيرة، وتجلى ذلك في زيادة المنشورات وبراءات الاختراع والتمويل المتعلق بها. وثمة مراحل مر بها تطور هذه التقنية وصولا إلى الآفاق الواعدة لها حاليا.

ففي عام 1987 نشر عالم ياباني تسلسلا جينيا يسمى (iap) يعود إلى البكتيريا المعوية (إي كولاي) ، وسعى مع فريقه إلى فهم عمل الجين من خلال تتبع تسلسل بعض الحمض النووي DNA المحيط به. وبدلاً من العثور على البروتينات المفتاحية للجين وجدوا أمرا غامضاً؛ خمس قطع متماثلة من الحمض النووي ، كل منها تتألف من 29 قاعدة بنائية، وهي متشابهة في كل قطعة.

هذه التسلسلات المتكررة مفصولة عن بعضها بعضا بواسطة 32 كتلة أساسية تدعى الفواصل (Spacers). وبعكس التسلسلات المتكررة فكل من الفواصل تمتلك تتابعا فريدا . وهذه التركيبة الوراثية لم يلاحظها العلماء في أي كائن حي. وعندما نشر الباحثون اليابانيون نتائج بحثهم لم يكونوا مدركين أن ما اكتشفوه سيحدث ثورة علمية في المستقبل. فبعد خمس سنوات أدرك الباحثون أن هذه التكرارات موجودة في كثير من أنواع البكتيريا، وغيرها من الكائنات الحية الوحيدة الخلية.

بنية كريسبر وكاس

في عام 2002 أطلق العالم الهولندي رود جانسن على هذه التراكيب البينية اسم كريسبر، وهي اختصار لعبارة (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats) التي تعني (التكرارات المتجمعة المتناوبة القصيرة المنتظمة التباعد). ولاحظ فريق جانسن أمرا آخر بشأن تسلسل كريسبر، وهو أنه يكون دائما مصحوبا بمجموعة جينات قريبة منه تدعى مورثات كاس (Cas) وهي اختصار لعبارة (CRISPR-associated genes) أو الجينات المرتبطة بكريسبر، وترمز للأنزيم الذي يستطيع قطع الحمض النووي .

وبعد ذلك وضع العالم يوجين كونين فرضية تقول إن البكتيريا تستخدم أنزيمات (كاس) للاستيلاء على أجزاء من الحمض النووي الفيروسي ثم تدرجها في تسلسل كريسبر الخاص بها، وعندما يأتي فيروس آخر فإن البكتيريا تميز الفيروس الغازي من خلال تسلسل كريسبر.

كانت فرضية كونين محفزة للعالم رودولف بارانغو لاختبار هذه الفرضية التي يحتمل أن تكون صفقة ضخمة له مع شركة دانيسكو ( Danisco ) المصنعة للبن الزبادي؛ إذ تعتمد شركة دانيسكو على البكتيريا في تحويل الحليب إلى اللبن، وأحيانا تُفقد كل استنباتات البكتيريا بسبب تفشي الفيروسات. وقد ذكر كونين أن البكتيريا تستخدم كريسبر كسلاح ضد الفيروسات.

لاختبار هذه الفرضية قام بارانغو بإصابة البكتيريا المخمرة للبن بسلالتين من الفيروسات. وهذه العاثيات قتلت الكثير من الميكروبات لكن بعضها بقيت حية. وعندما تضاعفت البكتيريا المقاومة تحول نسلها إلى مقاوم أيضاً، وحدث بعض التغير الجيني. وتبين أن جينوم البكتيريا محشو بقطع الحمض النووي من الفيروسات في فواصلها، و عندما قطع الباحثون هذه الفواصل وأخرجوها فقدت البكتيريا مقاومتها.

تحرير الجينوم

وفي عام 2012 قدمت جينيفر دودنا وزملاؤها من جامعة كاليفورنيا ببيركلي أول برهان على قدرة كريسبر على إنتاج أداة جديدة لتحرير الجينوم؛ إذ جهزوا الجزيئات التي تدخل الميكروب وتقص بدقة الحمض النووي في المكان الذي حدده العلماء.

وفي يناير 2013 قطع الباحثون قطعة محددة من الحمض النووي في خلايا الإنسان واستعاضوا عنها بقطعة أخرى. وفي الشهر نفسه أعلنت فرق منفصلة من الباحثين تحقيق نجاح مماثل.

بين الأخلاق ومصلحة البشر 

اختلف الباحثون فيما إذا كانت تقنيات التحرير الجيني منافية للأخلاق أو تصب في مصلحة البشر، فبعض العلماء يرى أن إزالة القلق تجاه هذه التقنيات ستمهد الطريق لها للتطور ومعالجة الأمراض المستعصية، وأن الوقت قد حان لتقييم سلامة وفعالية (كريسبر-كاس 9) في الخلايا البشرية التناسلية، في حين تؤيد المجموعة الأخرى عدم تعديل جينوم الخلايا الجنسية لأنها منطقة محرمة و يجب عدم الاقتراب منها.

وتطرق تقرير نشر في إبريل 2015 إلى استعمال الباحثين تقنية كريسبر في هندسة الأجنة البشرية، وأنه لم يبق أي من الأجنة حيا، وفشلت الأبحاث في التوصل إلى ولادة ناجحة. وأثار هذا التقرير جدلاً أخلاقيا حول استخدام هذه التقنية في إجراء تعديلات جينية في الجينوم البشري. وحذر العلماء من استغلال هذه الأبحاث في تحويرات وراثية غير علاجية، كما أن هذه المخالفة الأخلاقية قد تثير موجة من الغضب العام ومن ثم تعوق منطقة واعدة للتطور العلاجي.

ومن الأخطاء التي تثير قلق الباحثين أن تتسبب الإنزيمات المستخدمة في هذه التقنية في طفرات بمواقع مختلفة عن المواقع المستهدفة المتسببة في الأمراض.

الدفع الجيني

يعود تأريخ الدفع الجيني Gene drive إلى عدة عقود إلا أن تطبيق هذه التقنية واجه عراقيل عدة إلى أن تم اكتشاف نظام التحرير الجيني (كريسبر- كاس 9 ).

تستغرق التعديلات الجينية وقتاً طويلاً للانتشار في جماعات الحيوانات البرية. وتتباطأ وتيرة ثباتها في الجماعات، فالطفرة التي أجريت على أحد الكروموسومين اللذين يشكلان الزوج الصبغي تورث لدى %50 فقط من النسل.

لكن الجمع بين تقنية (كريسبر- كاس9) وتقنية الدفع الجيني يؤدي إلى زيادة كفاءة نقل هذه التعديلات إلى النسل بصورة كبيرة، وهذا يعني أن الطفرات ستسري في مجموعة الكائنات المستهدفة بسرعة مضاعفة لسرعة المعدل العادي؛ إذ إن الطفرة الجينية في بعوضة ما يمكنها أن تنتشر من خلال عدد كبير من البعوض خلال موسم واحد. وإذا أدت هذه الطفرة إلى تقليل نسل البعوض، فإن ذلك سيؤدي إلى انقراض أو إبادة فصيلة البعوض من الوجود ومن ثم إبادة طفيليات الملاريا التي تحملها .

بيد أن المخاطرة بإحداث خلل في النظام البيئي قد تؤدي إلى ظهور فئة أخرى من الآفات، وقد تؤثر على المفترسات في السلسلة الغذائية، لذا يتطلب الأمر مزيدا من النمذجة الرياضية لتوقعها وحسابها.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى