د. وحيد محمد مفضل
المناخ يتغير من حولنا، هذه حقيقة لم يعد هناك مجال لإنكارها أو حتى تجاهلها، لاسيما في ضوء التغيرات البيئية الشديدة والتقلبات المناخية القاسية التي نشهدها، والتي لم تعد هناك منطقة في العالم بمنأى عنها أو عن تداعياتها السلبية المتمثلة في زيادة عدد الأعاصير والعواصف الجوية والترابية وتصاعد موجات الجفاف والقيظ وغير ذلك مما يدل على تغير المناخ العالمي بصورة واضحة ومؤثرة.
لكن المشكلة الحقيقية ليست على ما يبدو فيما هو واقع حاليا، حتى وإن بدا قاسيا ومدمرا في بعض الأحيان، بل تبدو حقيقة فيما هو آت وواقع مستقبلا من تداعيات سلبية بيئية واجتماعية واقتصادية ممتدة وطويلة الأثر، لاسيما في ضوء تزايد التوقعات المتشائمة بارتفاع منسوب سطح البحر إلى مستويات قياسية، واحتمال غرق أجزاء ساحلية شاسعة في العالم.
وبهذا الخصوص فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تفاقم تأثير ظاهرة التغير المناخي في العالم عموما ومنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص، وهي منطقة ثرية بالثروات الطبيعية البيئية فضلا عن الموارد البشرية، مما يعني أن حجم الخسائر الناتجة على هذه المنطقة – التي كانت أجزاء كبيرة منها أحراجا وغابات كثيفة في الماضي- سيكون مضاعفا، قياسا إلى أهميتها وإلى الثروات والخيرات الكثيرة التي تنعم بها.
الدفيئة والتغير المناخي
تعزى مشكلة التغير المناخي بحسب الاعتقاد السائد إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري Global Warming، الناتجة عن تأثير ظاهرة الدفيئة (الصوبة الزجاجية) Greenhouse Effect، أي احتباس الحرارة داخل الغلاف الجوي للأرض، بسبب زيادة مستوى الانبعاثات الغازية الصناعية وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، والتي تعمل في هذه الحالة كغلاف زجاجي يشبه في تأثيره تأثير الدفيئة، من حيث السماح بدخول أشعة الشمس الخارجية إلى داخل الأرض وعدم السماح لها بالنفاذ ثانية، ما يعني تنامي ارتفاع درجة الحرارة داخل الدفيئة مقارنة بالجزء المحيط بها، وهذا هو تماماً وضع كوكب الأرض حالياً.
وتعتبر غازات ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء والميثان، والأوزون وأكاسيد النيتروجين ومركبات الكلوروفلوروكربون من أهم الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وعلى الرغم من أن وجود هذه الغازات، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، ضروري للمحافظة على استمرار الحياة بشكلها الحالي، إذ من دونها ربما تصل الحرارة على الأرض إلى ما دون 15 درجة تحت الصفر، فإن الإسراف في استهلاك وحرق الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات والموائل الطبيعية وتلويث البحار والمحيطات، حوّل هذه النعمة الصالحة إلى نقمة طالحة، حيث أدى تراكم هذه الغازات وزيادة تركيزاتها بشكل مطرد إلى تعاظم تأثير الدفيئة، ومن ثم حبس كميات إضافية من الحرارة داخل الغلاف الجوي، مسببة في النهاية ظاهرة الاحتباس الحراري.
أسباب ارتفاع مستوى سطح البحر
بغض النظر عن المحرك الأساسي وراء تغير المناخ العالمي، وما إذا كانت النشاطات البشرية هي المسؤولة عن ذلك كما يؤمن المؤيدون لفكرة التغير المناخي أم العوامل الطبيعية أو غيرها كما يرى المتشككون البيئيون، فإن ارتفاع منسوب سطح البحر في حد ذاته قد يحدث لأكثر من عامل فيزيائي آخر غير ذوبان المناطق الجليدية الحادث بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وإن بقي هذا العامل هو الأكثر تأثيرا على المدى البعيد.
ويعتبر التمدد الحراري لمياه المحيطات – أي تغيّر منسوب الماء بسبب تغير درجة الحرارة، حيث تشغل المياه الدافئة حجماً أكبر من المياه الباردة – ثاني أهم العوامل المسؤولة عن ارتفاع مستوى سطح البحر خلال الفترات الزمنية الطويلة. غير أن ارتفاع منسوب سطح البحر قد يحدث أيضا نتيجة بعض التغيرات التكتونية المفاجئة مثل حدوث حركة أرضية للأسفل، أو بسبب زحزحة صفائح الأرض الصخرية أو تداخلها معا تحت البحار والمحيطات، ما يؤدي إلى اتساع المناطق المحيطية، ومن ثم تغير منسوب سطح البحر. وقد ينخفض أيضا هذا المنسوب بصورة بطيئة وتدريجية نتيجة انضغاط التربة التحتية وهبوطها لاسيما في المناطق الغنية بالطبقات الطينية مثل الدلتات الساحلية. إضافة إلى هذه العوامل، فإن تراكم الرسوبيات على قاع البحر، وتدفق المياه العذبة من الأنهار والسدود، يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر، لكن بشكل طفيف جدا ونسبي قياسا مثلا إلى تأثير ذوبان الكتل الجليدية أو التمدد الحراري للمياه.
ظاهرة قديمة
والواقع أن ارتفاع منسوب سطح البحر أو انخفاضه ليس بأمر جديد أو نادر الحدوث على تاريخ كوكبنا الأزرق، وهو ما يبدو جليا من استقراء التاريخ الجيولوجي القديم الذي يشير إلى مرور الأرض بعدة فترات جليدية، أدت بدورها إلى تغير مستوى سطح البحر على مستوى العالم بصورة كبيرة. وحدثت هذه التغيرات نتيجة أسباب وعوامل طبيعية وفيزيائية بحتة، ولم يكن للإنسان أو النشاط البشري عموما أي دور فيها.
غير أن تنامي النشاطات البشرية وارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون وبقية غازات الدفيئة في الجو منذ بداية الثورة الصناعية أسهم على ما يبدو في تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة الحرارة على سطح الأرض، ما أدى بدوره إلى عودة منسوب سطح البحر للارتفاع خلال العصر الحديث، بعد أن كان مستقرا – إلى حد ما- طوال الثمانية آلاف عام الماضية.
وبهذا الخصوص، تظهر تقديرات الكتاب السنوي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن مستوى سطح البحر ارتفع فعليا بمقدار سنتيمترين خلال القرن الثامن عشر، وبمقدار 6 سنتيمترات خلال القرن التاسع عشر، وبنحو 19 سنتيمتراً خلال القرن العشرين، وهو ما قد يعطي دلالة على تأثير النشاطات البشرية البالغ في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وعلى دورها في إعادة تشكيل الشواطئ ورسم خطوط السواحل عبر العالم.
نماذج المناخ والتوقعات المستقبلية
تظهر نتائج نماذج المناخ العالمية الصادرة عن علماء لجنة الأمم المتحدة للتغير المناخي (IPCC) أن الزيادة في درجة الحرارة على سطح الأرض ربما تبلغ 4 درجات في المتوسط بنهاية القرن الحالي، إذا لم يحد العالم من إطلاق غازات الدفيئة وخفضها جذريا عن المعدلات الحالية.
وبحسب هذه النماذج فإن هذه الزيادة ستتباين من منطقة جغرافية إلى أخرى، إذ ستقتصر على درجتين مئويتين في منطقة جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، في حين ستتعرض منطقة الجزيرة العربية والشام وشمال أفريقيا إلى زيادة تراوح بين 3 و 5 درجات مئوية.
وتوضح النتائج المستنبطة من تطبيق نماذج المناخ أن هذا الاحترار سيؤدي إلى زيادة معدلات البخر، ومن ثم زيادة كميات السحب عن معدلاتها، مما سيسهم في تغير نمط توزيع ونسب وتوقيتات سقوط الأمطار في العالم، كما سيؤدي إلى تغيرات كبيرة في الضغط الجوي، ومن ثم مسارات الرياح السائدة، وهذا بدرجة يتوقع معها زيادة الجفاف والتصحر في مناطق محددة من العالم دون أخرى، وزيادة وتيرة وشدة العواصف والأعاصير الساحلية والفيضانات المدمرة.
كما يتوقع أن يتسبب الاحتباس الحراري في ضعف حركة التيارات الساحلية الدافئة في المحيطات وتغير مداها ومساراتها، بما يمكن أن يجعل أوروبا الشمالية مثلا أكثر برودة مما هي عليه حاليا، وبما يمكن أن يتسبب في اختفاء مساحات شاسعة من غابات القرم (المانغروف) الساحلية والشعاب المرجانية في المناطق الاستوائية، وهما من أكثر الموائل البيولوجية ثراء وإنتاجية.
غير أن أخطر التأثيرات المتوقعة للاحتباس الحراري تتمثل في إمكانية ذوبان أجزاء كبيرة من المناطق الجليدية في القارة القطبية، وزيادة حجم الكتل المائية في المحيطات والبحار الداخلية، ومن ثم استمرار ارتفاع منسوب سطح البحر، وطغيان البحر على أجزاء واسعة من السواحل المتاخمة، لاسيما قبالة المناطق المنخفضة والدلتات النهرية، وغيرها من التكوينات والمظاهر الأكثر عرضة لهذا الارتفاع.
وتظهر النتائج التي توصلت إليها لجنة الأمم المتحدة للتغير المناخي حدوث زيادة في مستوى سطح البحر على مستوى العالم بمعدل 1.7 مليمتر سنويا في المتوسط خلال القرن الماضي، وهو ما تؤكده القياسات الميدانية المأخوذة بواسطة قياسات المد والجذر الساحلية، والتي تشير إلى ارتفاع مستوى سطح البحر عالميا بنحو مترين ما بين عامي 1870 و2000. غير أن القياسات المأخوذة بواسطة الأقمار الاصطناعية (السواتل) الفضائية المتخصصة وتقنية الاستشعار عن بعد تظهر أن مستوى سطح البحر ارتفع على مستوى العالم بنحو 84 مليمترا ما بين عامي 1993 و2017، أي بمعدل 3.2 مليمتر في العام تقريبا، ما يعني تسارع وتيرة ارتفاع مستوى سطح البحر وبلوغه معدلات خطرة.
وبحسب تقديرات لجنة الأمم المتحدة للتغير المناخي فإن هذا الارتفاع مرشح للاستمرار، بما يتوقع معه أن يرتفع هذا المستوى بمقدار 50 إلى 100 سنتيمتر بحلول نهاية هذا القرن، إذا لم يتم خفض الانبعاثات الغازية الضارة والحد من تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري.
ارتفاع مستوى سطح البحر في الخليج
يبدو الخليج العربي حاليا مستقراً من الناحيتين الجيولوجية والتكتونية، إلا أن مراجعة تاريخه الجيولوجي القديم تكشف عن تعرضه منذ العصر الرباعي الذي بدأ قبل نحو 1.8 مليون سنة والعصور الحديثة التالية، إلى تقلبات شديدة في المناخ أدت إلى تغيرات مؤثرة في مستوى سطح البحر بلغت ذروتها قبل نحو 120 ألف عام.
وبهذا الخصوص فقد كان مستوى سطح البحر في الخليج إبان العصر الجليدي المتأخر – أي منذ 20 ألف عام- أقل من منسوبه الحالي بما بين 120 و 130 مترا، مما أدى إلى انكشاف أجزاء كبيرة من قاع الخليج وضفتيه الشمالية والجنوبية. والمثير في الأمر أن النظام النهري لدجلة والفرات كان يخترق حوض الخليج حتى مضيق هرمز خلال الأزمنة السحيقة، بل كان جزء يسير من مياهه العذبة يصب في نهاية المطاف في خليج عمان!. غير أن تعرض المنطقة والكرة الأرضية عموما لفترة دفء قبل 14 ألف عام أدى إلى ذوبان طبقات الجليد ثانية، مما أسهم في ارتفاع منسوب سطح البحر من جديد وغمر الخليج ثانية بالمياه. وأسهمت كل هذه التغيرات في إعادة تشكيل التكوينات والمظاهر الجيومورفولوجية المحيطة، وأدت في النهاية إلى ظهور الخليج بشكله الحالي. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على شواطئه الحالية والجزر الموجودة فيه والتي لم تكن على هذا الحال أو الشكل في السابق، بل تدخلت عوامل طبيعية كثيرة -وأكثرها تأثيرا عامل ارتفاع منسوب سطح البحر- في تشكيلها وظهورها على هذه الهيئة.
توقعات مستقبلية
أما فيما يتعلق بالتوقعات المستقبلية لتأثير مشكلة التغير المناخي على الخليج العربي ومنطقة الخليج عموما، فهناك دراسات عديدة تشير إلى احتمال تعرض أجزاء كبيرة من السواحل العربية المطلة على الخليج العربي وخليج عمان – والتي تقدر طوليا بنحو 7000 كيلومتر- لخطر الغمر، هذا في حالة ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد. ومن بين كل دول المنطقة يتوقع أن تكون البحرين وقطر هما الأكثر تأثرا بمثل هذا الارتفاع؛ نظرا لانخفاض مستوى معظم الأراضي في كل منها عن مستوى البحر، إذ تظهر التوقعات أن البحرين ربما تفقد ما بين 10 إلى %20 من إجمالي مساحتها بسبب غمر سواحلها بالمياه حال ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد. أما قطر فربما يتعرض %3 من أراضيها للغمر في حالة ارتفاع مستوى سطح البحر بالمقدار نفسه، تزيد إلى 8 % في حالة ارتفاعه بمقدار 3 أمتار. وهنالك مساحات كبيرة من الإمارات منخفضة ومعرضة لخطر الغمر لاسيما قبالة السواحل المطلة على عجمان وأم القيوين وأبو ظبي.
دراسة حديثة
وفي المنحى نفسه توقعت دراسة صدرت أواخر عام 2017 عن جامعة الدول العربية وعدة منظمات تابعة للأمم المتحدة أن تزيد درجة الحرارة في منطقة الخليج وبقية أجزاء العالم العربي بحلول منتصف القرن الحالي ما بين 1.7 و2.6 درجة مئوية، مع احتمال بلوغ هذا الارتفاع مستويات قياسية بحلول عام 2100، ليصل ما بين 3.2 و4.8 درجة كاملة. ووفق هذه الدراسة فإن المناطق الداخلية غير الساحلية ستكون الأكثر تأثرا بهذا التغير وستشهد أعلى درجات حرارة متوقعة مقارنة ببقية أجزاء العالم العربي، وأن معدل سقوط الأمطار سيتراجع في بعض المناطق وبخاصة في أعالي وادي دجلة والفرات، في حين سيزيد في مناطق أخرى خاصة في جنوب وشرق الجزيرة العربية.
غير أن تداعيات ارتفاع مستوى سطح البحر -إذا ما صدقت التوقعات المذكورة – لن تقتصر على مجرد غمر المناطق الساحلية، ذلك أن معظم المناطق الساحلية تحظى في العادة بدرجة تنوع أحيائي مرتفعة وثراء لافت بالأراضي الرطبة والكائنات المنتجة والموائل الطبيعية خاصة الشعاب المرجانية وغابات القرم، وهي فضلا عن ذلك تكون مواقع جذب سياحي ونقاط تمركز للنشاطات التنموية البشرية والتجمعات السكانية، ما يعني أن الخسارة الناتجة عن غمر هذه المناطق ستكون بالغة الصعوبة وممتدة لأكثر من قطاع.
وللخروج من هذا المأزق، فإنه يجب وقف تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وتجنب تأثيراتها السلبية، وهذا لن يتأتى -كما توصي لجنة التغير المناخي التابعة للأمم المتحدة- إلا بخفض نسبة الانبعاثات الغازية العالمية بمقدار 50 % بحلول العام 2050 مقارنة بما كانت عليه قبل عام 1990، والحفاظ على مستويات الكربون عند مستوى 450 جزءا في المليون أو دون ذلك، وغير ذلك مما يحول دون ارتفاع متوسط درجة الحرارة لأكثر من درجتين مئويتين مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة الصناعية.
إن جميع دول العالم تبدو في قارب واحد حاليا، ما يعني أن عليها التعاون وتنسيق الجهود من أجل إنقاذ هذا القارب من الغرق، والوصول به وما فيه من بشر ومجتمعات إلى بر الأمان.