سائر بصمه جي
لم تكن الجراحة التجميلية عند القدماء منفصلة كأحد فروع الطب التخصصية عن الجراحة العامة، شأنها في ذلك شأن كل فروع العلوم الأخرى؛ لذلك فإننا سنتناول في هذا المقال الحديث عن مراحل تطور الجراحة عموماً والجراحة التجميلية خصوصاً، ونجيب عن التساؤل: هل كان للعرب والمسلمين موطئ قدم في هذا النوع من الجراحة؟ وقبل الخوض في إسهامات العرب والمسلمين لابد لنا من المرور على الحضارات السابقة لحضارة العرب، وتحديد كل ما قدمته هذه الحضارات، لنتلمس ما أضافه الأطباء العرب والمسلمون في هذا المجال.
ربما تنبه الإنسان إلى الجراحة مع أول جرحٍ أصابه، وبدأ يفكر في كيفية علاجه وإيقاف نزفه، وهكذا فقد عُرفت الجراحة منذ القدم. وربما كانت أولى آلات الجراحة قطعة من حجر الصوان. وقد ظهر دليل على نشر الجمجمة في بعض الهياكل العظمية لأناس من العصر الحجري. وفي هذه العملية تُثقَب جمجمة المريض، ربما في محاولة لإخراج أرواح كان المعالجون يظنون أنها تسبب الصداع وعِلاّت أخرى. وقد ثبَّتت القبائل البدائية الأَرجل المكسورة بالجبائر في الأزمنة المبكرة، كما استُعمل الكَي لوقف النزف، وعملية الختان، التي كانت تجري وسط طقوس دينية معينة، تُعد من العمليات الأولى.
الطب حول العالم
كشفت بردية (إدوين سميث) أن الطب المصري كان قائماً على العقلانية، والخبرة والملاحظة، وهي تصف 48 مشاهدة في جراحة العظام والجراحة العامة. وأسفرت اكتشافات مقابر عمال الأهرام حديثاً عن وجود أدلة في المومياوات على إجراء عملية جراحية بالمخ لعامل من العمال كان قد عاش مدة عامين بعد إجراء العملية. وربما تكون أولى عمليات الجراحة «التجميلية» قد عرفت منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، عندما عالج قدماء المصريين رضوض الوجه، وقد اكتشف ذلك في تجاويف بفك سفلي يرجع تاريخه إلى نحو عام 2650 ق. م.
وتُعد القارة الآسيوية المنشأ الأصلي للجراحات التجميلية التقويمية وتحديداً في الهند، ويعود أقدم وصف محفوظ لتدخل جراحي يدخل في إطار الجراحة التجميلية التقويمية إلى القرن الثامن قبل الميلاد، حيث كانت عملية ترميم الأنف وصيوان الأذن عن طريق نقل الجلد، وكذلك إعادة ترميم الأنف، حيث كان قطع الأنف بصورة وحشية عقوبة شائعة في الهند.
وكان الهندوس القدماء جراحين ماهرين، وعرفوا على الأَقل 125 آلة جراحية، كما طوروا طرائق فنية لجراحة التجميل بالاستعاضة عن الأنُوف والآذان التي يتم قطعها. وقد استخدم الطبيب الهندي الكبير سوسروثا Susrutha ترقيع الجلد في القرن الثامن قبل الميلاد، واستمر استخدام هذه التقنيات حتى أواخر القرن الثامن عشر، وفقاً لتقارير منشورة في مجلة Gentleman>s Magazine (عدد أكتوبر 1794).
كما ظهر في الهند القديمة، نظام من نظم الممارسة الطبية، يطلق عليه اسم أيورفدا، يؤكد على الوقاية من المرض وعلاجه. وخلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، أظهر الممارسون لطريقة أيورفدا معرفة مثيرة للإعجاب عن الأدوية والجراحة، كما أجرى الجراحون الهنود بنجاح أنواعاً كثيرة من العمليات، منها عمليات البتر وجراحة التجميل.
واستفاد اليونانيون من الإرث الذي تركته كل الحضارات السابقة. وجاء في الفصل الثاني من ملحمة (الإلياذة) أن هوميروس ذكر كثيراً من المعلومات الطبية بصفة عامة والجراحية بصفة خاصة، فمثلاً ذكر الطبيب (اسكليبوس) الذي يتمثل في شخصه الأصول الدينية التي انحدر منها التعليم الطبي اليوناني، ففي عهد هوميروس ومن جاء بعده، ازدهرت تعاليم اسكليبوس في كثير من المعابد اليونانية، وسرعان ما رُفع اسكليبوس إلى مصاف الآلهة كما فعل المصريون القدماء مع (إيمحتب) قبل ذلك بنحو 25 قرناً. وتظهر الدراسات التاريخية أن الأطباء اليونانيين (خصوصاً أبقراط) تأثروا فيما يخص العلاجات الجراحية كثيراً بنظيرتها المصرية. ويوثق لنا الكاتب اليوناني سلسيوس (بين 25 ق.م – 50م) أول رواية عن استخدام قطعة من أنسجة الجسم في ترميم أجزاء متأذية من الجسم.
ومن جانبهم تمكن الرومانيون من استخدام تقنيات بسيطة؛ مثل إصلاح الأضرار في الآذان بدءاً من القرن الأول قبل الميلاد. ويعتقد أن الإمبراطور جوستنيان الثاني الذي كان معروفاً بأنفه المبتور – ما أدى إلى خلعه من العرش – استفاد من الجراحة التجميلية حيث أجريت له جراحة لأنفه, لكن هذه الجراحة سرعان ما اندثرت. أما جالينوس (200-130م) الطبيب الروماني الشهير، فيبدو أنه كان يتمتع بمهارات في الجراحة، استخدمها في علاجاته.
العرب والمسلمون
لم نعثر على وثيقة تؤكد معرفة الجاهليين من العرب بفن الجراحة، وإنما كان التطبيب في الجاهلية ذا شعبتين:
1. شعبـــــة تقوم في جوهرها على الكي بالنار، واستئصال الأطراف الفاسدة، والتداوي بشرب العسل، ومنقوع بعض الأعشاب النباتية، واللجوء إلى التمائم والتعاويذ على يد الكهان والعرافين.
2. شعبة تركز على الحمية في العلاج، وعلى إسداء النصيحة، وليدة الخبرة، مثل قولهم: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء»، و«القديد مهلك لآكله».
ومن الأسماء التي تصادفنا في هذا العصر: ابن حذيم التميمي الذي يضرب به المثل، والحارث بن كلدة الثقفي (50 هـ/670م)، الذي تعلم الطب في بلاد فارس، ومارسه في بلاد الفرس والعرب، وزهير بن جناب، وزينب طبيبة بني أود، وابن أبي رمثة، الذي يعتقد أنه كان يمارس الجراحة. وبعد ظهور الإسلام؛ أصبح للعرب فضل كبير على فن الطب عموماً والجراحة خصوصاً، حيث عُرف هذا الفرع من الطب بأسماء عدة منها: عمل اليد، وصناعة اليد، وعلاج الحديد لما يدخل فيه من استخدام أدوات تصنع من الحديد. وكانوا يطلقون على الجرّاح كلمة (الجرائحي الآسي) أو (دستكار)؛ وهي كلمة فارسية الأصل أخذت من (دستكاري) وهي ترجمة للكلمة العربية التي تعني عمل اليد، أما الطبيب غير الجراح فكان يطلق عليه اسم (الطبائعي).
والاهتمام العربي والإسلامي بموضوع الجراحة بدأ منذ القرن الأول للهجرة؛ أي قبل عصر البدء بالترجمة ونقل معارف الأمم الأخرى إلى العربية. فقد اكتشفت بعض الآلات الجراحية أثناء الحفريات التي جرت في موقع مدينة الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص سنة (21هـ/641م). ومن هذه الأدوات: (الدَّست) وهو يشبه الحقيبة التي تحفظ فيها المباضع، وهذه المباضع أنواع تختلف أشكالها باختلاف الوظائف التي تؤديها؛ فمنها مبضع شق الجلد وهو حاد الطرفين، ويستخدم في حالة فتح مكان في الجلد فوق الشرايين حتى يتمكن الجراح من ربطها. والمبضع المعطوف؛ ويكون أحد طرفيه حاداً ويستخدم لاستئصال اللوزتين وغير ذلك.
ويعزو بعض مؤرخي الطب إلى (بولس الأجانيطي) (690-625م) تأثيره في تعزيز دور صناعة الجراحة بين الأطباء العرب والمسلمين عموماً، والجراحة التجميلية خصوصاً، لأنه مارسها في الأنف والحنك، إضافة إلى تأثرهم بجالينوس وأبقراط. ومن المؤكد معرفة العرب والمسلمين (بالمرقّد) أو المخدر أو البنج، واستخدامهم له في العمليات الجراحية، كما عرفوا الكاويات في الجراحة.
تطور الجراحة
من الناحية النظرية، تناول عليّ بن العباس المجوسي (ت384هـ/994م) الجراحة بإسهاب في كتابه (الكامل في الصناعة الطبية)، وتطرق الفصل العاشر من هذا المصنف إلى الجراحة السريرية، وهي أحد فنون الجراحة التي لم يعرفها العالم وقتئذ، وقد خصص الفصل الأول من الجزء الثاني للعلاجات التجميلية. أما ابن سينا (ت427هـ/1037م) فقد أفرد فصلاً كاملاً في كتابه (القانون في الطب)، لعلم الجراحة، وتكلم في المقالة الرابعة منه عن التجميل. وفي القرن السابع الهجري ظهر كتاب ابن الُقف أبو الفرج بن يعقوب (ت685هـ/ 1286م) (عمدة الإصلاح في صناعة الجراح)، الذي تناول جميع أوليات الجراحة، باستثناء طب العيون.
أما من الناحية العملية؛ فقد أبدع العرب في مجال الجراحة العامة، إذ أجروا عمليات جراحية في القصبة الهوائية، وفي معظم أعضاء البدن كالبطن، والمجاري البولية، إضافة إلى تجبير الكسور، والخلع، وعمليات الأنف والأذن والحنجرة، والولادة القيصرية. وكانوا يخيطون الجروح خياطة داخلية لا تترك أثراً ظاهراً من الجانب الخارجي. وخاطوا مواضع العمليات بخيط واحد باستخدام إبرتين، واستخدموا الأوتار الجلدية وخيوطاً صنعوها من أمعاء القطط وحيوانات أخرى في جراحات الأمعاء ورتق الجروح؛ لأن الجسم يمتصها دون أن تلحق به أذىً. وتوصلوا إلى أساليب عدة في تطهير الجروح وطوروا أدوات الجراحة وآلاتها. وكان للجراحين العرب فضل كبير في استخدام عمليتي التخدير والإنعاش على أسس تختلف عما نقلوه من الأمم الأخرى. وكانوا حريصين حتى في العمليات الجراحية العامة على الجانب التجميلي فيها، بحيث لا تسبب العملية تشويهاً ظاهرياً لعضو المريض بعد الشفاء.
الجراحة التجميلية
مارس الأطباء العرب هذا النوع من الجراحة في الشفة والأنف والأذن ومواضع أخرى من الجسم، حينما تطرأ عليها الضخامة من نتوء بارز أو قطع أو انسداد أو تشوه، بحيث تعود هذه الأعضاء إلى حالتها الطبيعية فيرتفع القبح الناشئ عن اللحمة الزائدة. ولابد لنا بداية من التعريف برائد الجراحة العربية في هذا المجال، وهو الطبيب أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (ت 404هـ/1013م) الذي كان رائداً في مجال الجراحة التجميلية. فقد تحدث الزهراوي في كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) عن لفتات تجميلية لم يسبق إليها، وخصص المقالة التاسعة عشرة لأدوية الزينة والتجميل. كما تناول استعادة شكل الحاجب المشوه والحفاظ عليه في الجراحة، وكان من الذين أكدوا على عدم جدوى استئصال الورم العظيم المتمادي الذي يصعب استئصاله كاملاً.
ويعد الزهراوي أول من استعمل التعليم بالحبر قبل القطع وتثبيت العلامات قبل إجراء العملية الجراحية لتحقيق الدقة، وهو ممارسة شائعة اليوم. كما أرسى الزهراوي مبدأين مهمين في الجراحة العامة: الأول هو ضرورة الخياطة الأولية، والثاني هو ضرورة كشط أو شق الجرح الملتئم قبل محاولة الخياطة الثانية.
لذلك فهو أول من علم تلاميذه الخياطة التجميلية، وذلك بتخييط الجروح بشكل داخلي بحيث لا يتركها مرئية. وللوصول لهذه الغاية كان الزهراوي أول من استعمل الحرير على هيئة خيوط لربط الشرايين النازفة أثناء الجراحة، وليس كما يدَّعي أطباء الغرب بأن أمبروا باري Pare Ambroise كان أول من قام بهذه العملية بعد 555 سنة من وفاة الزهراوي. كما كان أول من استعمل شعر ذيل الخيل لخياطة الجروح وخياطة الأنف. ويعد أول من عالج تشوهات سقف الحلق والفم.
عمليات تجميلية
سنستعرض فيما يأتي بعض العمليات الخاصة بالجراحة التجميلية التي مارسها الأطباء العرب والمسلمون:
1. شقاق الشفة (نقصان الشفة، فلح الشفة Harelip): تكلم عن هذا النوع الطبيب الرازي في كتابه الحاوي بعد نقده لطريقة جالينوس، أما الزهراوي فطرح طريقة الكي بدلاً من الجراحة.
2. إخراج العقدة من الشفة: أولاه الزهراوي عناية جمالية خاصة، حيث أوصى بقلب الشفة وإجراء الشق من الجهة الداخلية حتى لا يظهر موضع العملية من الخارج.
3. الرباط تحت اللسان: وهو الرباط الذي قد يولد الطفل به ويعيقه عن الكلام، أو يكون بسبب جرح اندمل ولم يعالج حينها بصورة صحيحة، وقد طرح الزهراوي طريقة علاجه وإجراء عمليته.
4. ثآليل الأنف: طرح كل من علي بن العباس والزهراوي طريقة علاجها وكيفية استئصالها جراحياً وكيميائياً.
5. انسداد فتحة الأذن الخارجية: كانت طريقة الزهراوي في علاج هذا النوع أفضل من طريقة علي بن العباس وابن القف وغيرهما، وصنع لهذا النوع من الجراحة مبضعاً خاصاً له.
6. قِصر الجفن (الشترة Ectropion): من ممارسات الجراحة التجميلية المتقدمة ما طبقه الزهراوي على العين أيضاً. وقد اتفق كل من الزهراوي وعلي بن العباس على طريقة علاج هذا النوع من الحالات، لكن مع تخصيص الزهراوي لمبضع خاص لها.
7. إصابات العين: برع في علاج هذا النوع علي بن عيسى الكحال (ت 430هـ/1039م)، وأصبح مرجعاً لمن جاء بعده.
8. تشوهات الأصابع: وهو علاجهم لوجود أصابع زائدة، كما ورد عند علي بن العباس والزهراوي.
9. أورام جلدة الرأس: وهي الأورام الشحمية الصغيرة التي تظهر في جلدة الرأس، وقد عالجها الزهراوي وابن سينا.
10. ثدي الرجال: تحدث الزهراوي عن جراحات تجميلية متقدمة جداً مثل علاج تضخم ثدي الرجل (أو ما يسمى بالتثدي)، ويقول في شرحه لعملية تصحيح ضخامة الثدي نتيجة زيادة حجم الجلد التي لا يمكن علاجها بالاستئصال الغدي البسيط: «افتح جرحين تكون حافتاهما متطابقتين، ثم استأصل الجلد والنسيج الغدي بينهما وخيط حافتي مكان الاستئصال». وهذه الطريقة لا تزال متبعة في بعض الحالات حالياً، كما عالج هذا النوع علي بن العباس.
11. ثآليل البطن: وهي الثآليل التي تظهر لبعض الأشخاص في بطونهم وتسمى (بالفطرية) لشبهها بالفطر، ويقول الزهراوي في علاجها: «للعمل في قطعها أن تنظر، فإن كان لون الثؤلول أبيض رطباً رقيق الأصل فاقطعه بمبضع عريض ولتكن بحضرتك المكاوي في النار، فكثيراً ما يندفع عند قطعها دم كثير، فتبادر إن غلبك الدم فتكويها»، ثم يحذر من يجري العملية من أن يختلط عليه الأمر بينها وبين الورم السرطاني فيقول: «واحذر أن تعرض لقطع ثؤلول يكون كمد اللون قليل الحمى سمج المنظر فإنه ورم سرطاني».
12 – الأعضاء البديلة: وأخيراً لابد أن نشير إلى صناعة أعضاء للإنسان بديلة من تلك التي فقدها، كان قد عرفه الأطباء العرب والمسلمين؛ فقد أجاز الفقهاء استخدام الخشب أو الجلد أو المعادن النفيسة كالذهب والفضة كمواد بديلة تجميلية. والقاعدة التي ارتكزوا عليها في ذلك هي توجيه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لعرفجة بن سعد الذي أصيب أنفه في وقعة يوم كلاب، فصنع له أنفاً من فضة، لكنه صدِئ وتعفن، فأمره الرسول الكريم بأن يتخذ أنفاً من ذهب كونه لا يصدأ. أما عن تعويض الأسنان المفقودة بسبب سقوطها، فينصح الزهراوي بإعادة تثبيتها بأسلاك مصنوعة من الذهب، أو تعويضها بأسنان مصنوعة من عظام البقر.
أثر الجراحة العربية على أوروبا
في العصور الوسطى، كان الجراحون والحلاقون الأوروبيون يُجرون العمليات، وقد اختص الحلاق بعملية فَصْد الدم، لأن الطبيب الجرّاح كان يعتقد أنها تحط من قدره كثيراً. ومن فصد الدم هذا تكّونت سارية عرفت بسارية الحلاق وهي مخططة بالأحمر والأبيض، حيث يرمز الأحمر للدم والأبيض للضمادة. وعندما منع البابا أنوسنت الثاني، في القرن الثالث عشر الميلادي العمليات الجراحية كلها وحرَّمها استغل الحلاقون ذلك الوضع وأصبحوا الجراحين البدلاء. واعتبرت الجراحة التجميلية مهنة مخلة بالشرف، الأمر الذي أسهم في تأخر علم الجراحة كثيراً، حتى عصر ترجمة الأعمال العربية إلى اللاتينية. وعندما انتقلت شهرت الزهراوي إلى غرب أوروبا، لقب باسم البوكاسيس (Albucasis) كما لقِّب بجراح العرب، وجهوده الكبيرة التي بذلها لتطوير الطب جعلته من أشهر جراحي زمانه، بل إن معاصريه من أطباء أوروبا ومن تلاهم رأوا فيه المرجعية العلمية الأكبر حتى من جالينوس. وحقيقة هذا باديةٌ في أن معظم الكتب الجراحية في العصور الوسطى كانت تشير إلى الزهراوي أكثر من إشارتها إلى جالينوس.
وساعدت عودة الاهتمام بالطب في عصر النهضة على جعل كتاب الزهراوي (التصريف) المرجع الطبي الأكثر شهرة. ومما ساهم في ذلك أيضاً بساطة الأسلوب القائم على التقديم الواضح والتفكير المنطقي. وينقل الجراح الفرنسي غاي دو تشولياك في كتاب (الجراحة العظيمة) عام 1363 عن (التصريف) أكثر من 200 مرة، كما ينقل عن (التصريف) جراح فرنسي شهير آخر هو جاك ديليشامب (1513 – 1588) في مناسبات كثيرة جداً بصورة تعزز مرجعية الزهراوي في الطب، وخصوصاً الجراحة في كل تخصصاتها طوال العصور الوسطى وحتى عصر النهضة. وبرز الزهراوي في أوروبا حتى أصبح كتابه (التصريف) مرجعاً شديد الأهمية في العديد من العلوم والأعمال ذات الصلة بالطب، ويدرّس في جميع جامعاتها إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، بعد أن صار فن الجراحة مقبولاً هناك، ولعلنا نجد بهذه الآثار الإجابة عن التساؤل الذي قدمناه في أول المقال.