تحديد أعمار الأحافير والآثار بواسطة نظائر الكربون وكشف غازات الدفيئة

الدكتورة ليلى صالح العلي 

ثمة طريقة جديدة لتقنية مطيافية تتيح كشفا بصريا عالي الحساسية لثاني أكسيد الكربون المُشع. ستكون الطريقة واعدة جداً لتصبح أداة قياس في أكثر من مجال، منها تقدير العُمْر الكربوني وكشف غازات الدفيئة. ويتيح مطياف صغير مدمج ومحكم قياس تركيز ثاني أكسيد الكربون المُشع الذي يمكن أنَّ يستعمل لتقدير العُمْر الكربوني للآثار والأحافير. ويعتمد عمل هذا الجهاز على تقنية تطويق فجوة الامتصاص المُشَبَّع saturated-absorption cavity ring-down (SCAR) ، ويوفر الكثير من المال والجهد مقارنة بالطرق التقليدية الأخرى. وقد مر بِعدَّة مراحل تطويرية قبل أن يصل إلى أعلى حساسية كشف حتى الآن وهي كشف جزء واحد من كوادرليون جزء في النموذج (الكوادرليون هو 1 وأمامه 15 صفرا). وهذه المقالة الموسعة تتطرق إلى التقنية الجديدة الواعدة، وكيفية تحديد الأعمار بواسطة نظائر الكربون، وآفاقها المستقبلية في مجالات شتى.

يُقصَد بتحديد العُمْر بواسطة نظير الكربون-14(أي النظير C14) الطريقة التي يَتمُ بواسطتِها تحديد عُمْر الأشياء التي تحتوي في تركيبها على مواد عضوية باستعمال خواص نظير الكربون المشع C14.

ويعود ابتكار الطريقة إلى العالم ولّارد ليبي willard Libby في نهاية عام 1940. ففي بداية ثلاثينيات القرن العشرين كان ليبي لا يزال طالب كيمياء في جامعة كاليفورنيا (بيركلي) يسعى إلى نيل الدكتوراه (التي نالها عام 1933 ) يجري تجارب في مختبر الجامعة للإشعاع لمعرفة إمكان وجود عناصر عضوية لها نظائر بعُمْر نصف طويل بما فيه الكفاية ليخدم أبحاث الطب الحيوي. وسرعان ما اكتشف أن عُمْر النصف للنظير C14 هو أطولُ مما كان يُظنُ سابقاً. وأتْبَعَ ذلك في عام 1940 البرهنة على أنَّ تفاعل النيوترونات البطيئة مع نظير النيتروجين N14 هو المسبب الرئيسي لتكوين نظير الكربون C14.

وكان ليبي قد قرأ في وقت ما أنَّ تكوين C14 في الجو يكون بسبب تفاعل النيتروجين في أعالي الجو مع نيوترونات الأشعة الكونية، التي تتباطأ إلى الدرجة المطلوبة لحدوث التفاعل نتيجةً لتصادماتها مع جزيئات الهواء. فألّهَمَه هذا البحث الفكرة عن إمكان تقدير العُمْر بواسطة قياس الكربون المُشع.

وبعد أنْ انتقل ليبي عام 1945 إلى جامعة شيكاغو، نشر مع زملاء له عام 1946 بحثاً عن الموضوع ذكر فيه أنَّ الأحياء تحوي نظائر من كربون غير مُشع إضافة إلى النظير المُشع C14.

ووجد مع زملائه النظير C14 في غاز الميثان الذي جمعوه من مخلفات المجاري. ووجدوا كذلك أنَّ هذا الميثان يختلف عن الميثان الناتج عن حرق البترول؛ إذ إن هذا الأخير كان يخلو من وجود النظير C14.

وذكروا حينذاك أنَّهم متأكدون من إمكان تحديد عُمْر المواد التي تحتوي على كربون عضوي في تركيبها.

وما إنْ نَشرَ العالم ليبي بحثه هذا حتى بدأت الكثير من الجامعات تُنشىء مختبرات لأجل تحديد العُمْر بالكربون المُشع C14، حتى بلغ عددها بحلول عام 1950 أكثر من 20 جامعة. وسرعان ما أصبحت هذه التقنية الأداة القياسية لعلماء الآثار. ونال ليبي جائزة نوبل عام 1960 عن ابتكارة وتطويره لها.

الكربون في الطبيعة

يوجد الكربون في الطبيعة بشكل ثلاثة نظائر، اثنين غير مشعين هما C13 و C12 والآخر كربون مشع هو C14. ومن بين هذه النظائر الثلاثة فإن C14 هو الوحيد النشيط إشعاعياً، إذ يتحلل (أو يضمحل) الكربون المُشع إلى نيتروجين من خلال إطلاقه (أو تحريره) إلكترونا واحدا مع مضاد نيوترينو واحد.

وعلى الرغم من انحلال C14 المستمر وتناقصه خلال آلاف السنين، فإنَّه كذلك دائم التَكَوّن أيضاً في طبقتي الستراتوسفير والتروبوسفير الجويتين نتيجةً لسقوط الأشعة الكونية على هاتين الطبقتين فتتفاعل معها مكوِّنةً نيوترونات، فتقوم النيوترونات بمهاجمة ذرات نظير النيتروجين N14 فيتولد عن هذا التفاعل نظير C14 وبروتون.

ثم يتحد الكربون المُشع مع الأكسجين في الهواء ليكوِّنا ثاني أكسيد الكربون المُشع الذي يدخل في عملية التركيب الضوئي. لكن ثاني أكسيد الكربون هذا سرعان ما يترك الجو ليذوب في البحار والمحيطات، وكذلك تمتصه النباتات في عملية التركيب الضوئي ليدخُلَ بعد ذلك إلى أجسام الحيوانات التي تأكل النباتات.

ونسبة C14 إلى C12 ضئيلة جداً، فهي كنسبة 1.5 جزء إلى ترليون جزء (أي 1.5 الى 1012 )، في حين تبلغ نسبة الكربون المستقر وغير المُشع C13 نحو 1 % من جميع ذرات الكربون. ويتحلل الكربون المُشع إلى نيتروجين وإلكترون ومضاد نيوترينو.

إذا ما ماتت الحيوانات و النباتات فستتوقف عملية تبادل الكربون لهذه الأموات مع محيطها.

ومنذ لحظة موت الحيوان والنبات سيبدأ نظير الكربون C14 بالانحلال الإشعاعي ويبدأ تركيزه في الجو بالاضمحلال. بهذا يكون قياسنا لما يحويه نموذج غير حي، أي ميت، من نبات أو حيوان من C14 مؤشراً إلى معرفة عُمْر ذلك النموذج وحساب الزمن الذي مرّ على مماته!.

وكلما كان النموذج أقدم كان ما هو موجود فيه من C14 أقل.

وعُمْر النصف للمادة يُمَثّلُ الفترة الزمنية اللازمة لاضمحلال مقدار مادة ما إلى نصف ما كانت عليه. فمثلا لو كان لدينا 50 غراما من مادة مُشعّة ووصل إلى مقدار 25 غراما، نتيجةً لانبعاث النظائر المُشعة في فترة 10 سنوات مثلاً، فإنَّ عُمْر النصف لهذه المادة هو 10 سنوات. وسيكون مقدار هذه المادة 12.50غرام بعد مرور عشر سنوات أخرى، وهكذا دواليك، إلخ.

ولأنَّ عُمْر النصف للنظير C14 يبلغ نحو 5730 عاما فإنَّ أقدمَ عُمْرٍ يُقاسُ بهذه الطريقة ويمكن الوثوق بمصداقيته لهذا النظير لن يزيد على خمسين ألف سنة؛ لأنَّ تركيزه سيقل الى نصف مقداره بعد 5730 عاما ثم يصل إلى الرُبع بعد 5730 عاما أخرى ثم يصل إلى الثُمن بعد 5730 عاما أخرى، إلخ.

وهكذا يستمر التناقص في تركيز هذا النظير ليبلغ جزءا واحدا من 256 جزءا من مقداره الأولي بعد مرور نحو ثمانية أعمار نصف

(أي 8 × 5730 = 45840 عام ≈ 5000 عام).

وتحديد العُمْر بالكربون المُشع متحدد بصورة عامة بنماذج ليست أقدم من 50 ألف سنة؛ لأنَّ النماذج الأقدم لا تحوي ما يكفي من C14 الذي يمكن قياسه. وتم قياس أعمار أكبر تصل إلى 75 ألف عام بطرق تحضير متخصصة ونماذج أكبر وبفترات قياس أطول.

تعداد الانبعاثات

كان العالم ليبي يُجري قياسات لمستويات الكربون المُشع في النماذج الحيوانية والنباتية مُستعملاً مِعْداد انبعاث جسيمات بيتا، حيث تقوم هذه الأجهزة بحساب عدد جسيمات بيتا (أي الإلكترونات) المنبعثة عن اضمحلال ذرات C14 في وحدة الكتلة في وحدة الزمن للنموذج قيد الدرس.

وتعرف هذه الطريقة باسم (تعداد بيتا) لأنَّ ما يَتمُ تعداده هو جسيمات بيتا المنبعثة من انحلال C14.

وتعتمد طريقة معداد بيتا على مقارنة النشاط الإشعاعي للنموذج المطلوب بالنشاط الإشعاعي لنموذج قياسي ذي مقدار نشاط معروف. وأكثرالنماذج القياسية المستعملة هي نموذج حامض الأوكساليك oxalic acid، الذي غالباً ما يُستحضر من جذر البنجر الفرنسي. ولعدة عقود تلت إجراء العالم ليبي لتجربته الأولى كانت هذه هي الطريقة الوحيدة المعروفة والمستعملة لتحديد العُمْر بطريقة الكربون المُشع.

المِطيافْ الكُتَلي التَسارعي 

في نهاية السبعينيات من القرن العشرين كان العمل يجري للتوصل إلى تقنية تقوم مباشرةً بحساب عدد ذرات C14 وعدد ذرات C12 في النموذج قيد الفحص. وتم عام 1980 تطوير مطياف كتلي تسارعي (تعجيلي) accelerator mass spectrometer,AMS قادر على حساب النسبة C14 إلى C12 مباشرةً. وبقيت نتائج مِعداد بيتا أكثر دقة مدة من الزمن.

لكن بعد ذلك تفوقت نتائج المطياف الكتلي التسارعي في دقتها وأصبحت الطريقة المختارة في الجامعات ومراكز القياس حول العالم. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف العلماء عن استعمالها.

ولهذه الطريقة أفضلية أخرى وهي أنَّها تستطيع إجراء فحص دقيق على نماذج صغيرة جداً من الكربون لايستطيع معداد بيتا التعامل معها.

واستعمال المطياف الكتلي التسارعي بدل المطياف الكتلي الأبسط ضروري؛ بسبب حاجتنا إلى تمييز نظائر الكربون عن بقية الذرات والجزيئات التي لها الكتلة نفسها تقريباً مثل النظير N14 والنظير CH13.

وسنحتاج لاستعمال نموذجين: أحدهما قياسي والآخر لكربون قديم أو ميت.

وقد تجاهل العلماء بالكامل حتى عام 1990 معرفة أعمار الفنون أو الرسوم الحجرية (بكتوغراف) بسبب النسب القليلة جداً من تراكيز الكربون المُشع، وعدم وجود طريقة كشف تتعامل مع تراكيز قليلة جداً لتحديد عُمْرها.

لكن مع ظهور المطياف التسارعي الذي يمكنه التعامل مع تراكيز كهذه، فقد بدأ العلماء والآثاريون دراسة الفنون الصخرية لبقايا الحضارات.

ومكنتهم هذه الطريقة من توسيع استعمالاتها لتشمل الرسوم على الصخر والأواني الفخارية وأشياء أخرى أفصحت عن أسرار المجتمعات القديمة.

خصائص المطياف الكُتَلي التسارعي

يختلف المطياف الكتلي التسارعي عن بقية أنواع المطيافات الكتلية الأخرى بقابليته لتسريع الأيونات إلى سُرَعات فائقة جداً تبلغ بضعة أجزاء في المئة من سرعة الضوء، وقد تصل إلى نحو 10 % من سرعة الضوء, فَيُمكِّنهُ ذلك من فصل وتفريق النظائر النادرة الوجود عن بقية الجسيمات الدقيقة الأخرى الوفيرة في النموذج. فمثلاً يُمكِّنهُ أنْ يفصل النظير النادر الوجود C14 عن النظير ذي الوفرة الكثيرة C12. وغالباً ما يكون النموذج من كربون الغرافايت فتنبعث منه أيونات C−  (وهذه الأيونات هي ذرات كربون غير متعادلة ذات شحنة سالبة واحدة) التي تُضَخ إلى المسرِّع فتتسرَّع إلى سرعات عالية جداَ، وتمرر من خلال حاجز يُزيل العديد من الإلكترونات بحيث تخرج الأيونات فقط من المسرِّع. وتمرر هذه الأيونات داخل مجال مغنطيسي يؤدي إلى تقويس مساراتها، ويتقوس مسار الأيونات الثقيلة بصورة أقل من تقوس مسار الأيونات الخفيفة. وبهذا تخرج الأيونات المختلفة من المجال المغنطيسي إلى مواضع مختلفة بحسب قيمة كتلتها فيقاس تركيز كل منها.

والخاصية المهمة الأخرى لهذا المطياف هي قابليته أيضاً لمنع مرور المُتَكاتلات الجزيئية بالكامل، ويسمح في حالات أخرى بفصل بعض المُتَكاتلات الذرية atomic isobars مثل ذرات N14 عن ذرات C14.

والمُتَكاتلات الذرية هي ذرات متساوية في وزنها الذري، أي عددها الكتلي، لكنها مختلفة في عددها الذري مثل ذرات N14 وذرات C14 فنجدها متساوية في وزنها الذري لكنها مختلفة في عددها الذري. هذا يجعل كشف النظائر المُشعّة الطبيعية ذات العُمْر الطويل ممكناً.

ويتفوق هذا المطياف كثيراً على معداد بيتا في تعدادهِ لعدد الانبعاثات الصادرة عن نظائر ذات عُمْر- نصف طويل. وفي الواقع، فقد ثبت أنَّ طريقة المطياف التسارعي لها حساسية التقاط للأيونات الاشعاعية تفوق بمقدار 1000 مرة حساسية معداد الانبعاث أو الاضمحلال.

ومن أهم استعمالات المطياف الكتلي التسارعي إيجاد تركيز الكربون المُشع C14 في النماذج الآثارية لتحديد مدى قِدَم تلك الآثار، أي عُمْرها، كما يستعمل في أبحاث الطب العضوي وخصوصاً استعمال النظير لقياس قابلية الامتصاص لعظام المرأة بعد انقطاع الدورة وبدء سن اليأس.

الوقود الأحفوري والعُمْر الكربوني

ذكرت دراسة علمية نشرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم عام 2015 أنَّ الوقود الأحفوري، مثل الفحم الحجري والنفط، قد يَصْبَحُ عائقاً فعلياً أمام تقنية تحديد العُمْر الكربوني بشكل صحيح للآثار؛ إذ سيصبح من الصعب التمييز بين ما هو حديث الصنع وما هو بعُمْر مئات السنين. فالكربون غير المُشع المنبعث نتيجة حرق الوقود الأحفوري سيتسبب بتقليل النسبة بين مقدار الكربون المُشع C14 إلى الكربون غير المُشع؛ أي سيوحي ذلك بقِدَم النموذج قيد الفحص متسبباً بزيادةِ تقدير عُمْر النماذج قيد الدرس من آثار وأشياء أخرى. وأظهرت الدراسة حتمية تأثر تقدير العُمْر لبعض هذه الدراسات خلال العقود الأخيرة بسبب زيادة ما يحرق الإنسان من وقود أحفوري. وهذا سيؤدي إلى عدم معرفة اللوحات المزيفة وعدم مواجهة التجارة غير الشرعية للعاج أو تقييم وتخمين عودة النمو إلى خلايا الدماغ في مرضى الجملة العصبية.

وسبب تأثير الوقود الأحفوري هو كون عُمْره يصل الى ملايين السنين، فنجده خاليا تقريباً من C14 بسبب تلاشيه نتيجةً لنشاطه الإشعاعي.

وبهذا عندما تختلط غازات الوقود الأحفوري المحترق مع الجو ستكون خالية من الكربون المُشع، وسيبدو تركيز C14 أقل، مما يعني أنَّ الغلاف الجوي سيبدو أقدم مما هو عليه لقلة الكربون المُشع فيه. وسينعكس هذا التأثير كذلك على مواد تأخذ ثاني أكسيد الكربون خلال عملية التركيب الضوئي مثل القطن.

واذا استمر حرق الوقود بشكل أكبر، فبحلول عام 2050 سيكون ما يحتويه قميص قطني حديث الصنع من كربون مشع مساويا لما يحويه رداء مر عليه ألف عام، ولن نتمكن من الوثوق أنَّ العُمْر الكربوني الذي قسناه هو حقيقي أم نتيجة تأثير حرق الوقود الأحفوري! فلو قللنا الحرق، سيكون هذا جيداً لدقة تحديد العُمْر الكربوني للأشياء قيد الدرس.

وتفادياً لتأثير حرق الوقود على دقة النتائج فقد بدأ العلماء استعمال ما يُسمى «الكسر الحديث ,the fraction modern».

ويُعَرّف هذا الكسر على أنَّه النسبة بين تركيزي C14 و C12 في النموذج القديم قيد الدرس إلى النسبة بين التركيزين في نموذج حديث تم قياسه عام 1950، حيث كان استعمال الوقود الأحفوري قليلا وغير شائع مثل هذه الأيام، وبذلك لن يؤثر في النتائج.

تقديرات مهمة للعمر الكربوني

عثر عام 1947 على لفائف من البردي أو في كهوف قرب البحر الميت فيها كتابات عبرية وآرامية كان يُظنُ أنَّها تعود إلى طائفة يهودية قديمة. هذه اللفائف ذات أهمية كبرى في دراسة كتب التوراة.

وقاس العالم ليبي عُمْر أحد هذه الكتب عام 1955 فوجده 1917 ± 200 سنة.

وأعيدت الدراسة وجرت دراسات على لفائف أخرى عام 1990 بواسطة المطياف الكتلي التسارعي في مركزين متخصصين مختلفين.

وبينت النتائج أنَّ أعمار هذه اللفائف أتت متوائمة مع الأعمار التي قدرها خبراء تطور الكتابات على هذه اللفائف، وأحياناً أتت بتقديرات عمر أقدم مما كان يُظن.

والفحص المهم الآخر هو فحص بقايا عظام ببغائية من صحراء غوبي في الصين أجراها متحف مونت بلانكو للأحافير في تكساس لأجل تقدير عمرها، وتم فحص عمرها الكربوني بمطياف تسارعي فجاء التقدير بعمر 22020 ± 50 سنة.

مطياف تطويق الفجوة الليزرية

نشرت المجلة التخصصية «optica» التي تصدرها الجمعية الأمريكية للبصريات في إبريل الماضي بحثاً لتسعة باحثين من المعهد القومي للبصريات (INO) والمختبر الأوروبي للمطيافية غير الخطية، وكلاهما في فلورنسا بإيطاليا يتطرق إلى طريقة جديدة لتقنية مطيافية تتيح كشفا بصريا عالي الحساسية لثاني أكسيد الكربون المُشع. ستكون الطريقة واعدة جداً لتصبح أداة قياس في أكثر من مجال، منها تقدير العُمْر الكربوني وكشف غازات الدفيئة. شرح هؤلاء العلماء تصميما لمطياف صغير مدمج ومحكم يتيح قياس تركيز ثاني أكسيد الكربون المُشع ويمكن أنَّ يستعمل لتقدير العُمْر الكربوني للآثار والأحافير.

يعتمد عمل هذا الجهاز على تقنية تطويق فجوة الامتصاص المُشَبَّع saturated-absorption cavity ring-down (SCAR)، ويوفر الكثير من المال والجهد مقارنة بالطرق التقليدية الأخرى.

والجهاز الجديد ثمرة عمل متواصل استمر سنوات عديدة لباحثين في هذين المركزين ومراكز بحثية أخرى، ومَرَّ بِعدَّة مراحل تطويرية قبل أن يصل إلى أعلى حساسية كشف معروفة حتى الآن، وهي كشف جزء واحد من كوادرليون جزء في النموذج (الكوادرليون هو 1 وأمامه 15 صفرا).

طريقة مبتكرة 

إنَّ خطوات إجراء تقدير العُمْر الكربوني المُتَّبعة حاليا مع المطياف التسارعي AMS تتطلب من الباحث أنَّ يرسل نماذجه إلى مراكز فيها ذلك المطياف وينتظر عدة أسابيع قبل أنْ يتسلم نتائج الفحص.

ومع أن هناك أكثر من مئة جهاز AMS في العالم، فإن الأداء المثالي والحصول على درجة كشف عالية جداً لا يتعدى بضعة مواقع تمتاز جميعها بالحجم الهائل للأجهزة وبالتكلفة الباهظة جداً. ونظراً للجهود والمثابرة وعدم الاستسلام فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أجهزة AMS مدمجة أكثر رخصا.

وتقنية هذه المختبرات المتخصصة تعتمد على قياس كمية نظير الكربون المُشع C14 في أي نموذج ذي منشأ عضوي، مثل العظام والأخشاب والأنسجة التي يقل عُمْرها عن 50 ألف عام. أما الجهاز الحالي فهو يعمل الأشياء نفسها لكن بكلفة أقل كثيراً وزمن إنجاز أسرع بكثير.

يخبرنا الباحثون أنَّ هناك جهازاً يدعى (SCAR) يكشف لنا تركيز ثاني أكسيد الكربون المُشع بدقة 0.4 % وهي قريبة من الدقة 0.2 % التي يعطيها أفضل مطياف كتلي تسارعي في العالم. ويَتمُكن هذا الجهاز من تسجيل النتيجة في ساعتين فقط وبكلفة تقل عن نصف ما هي عليه للمطياف التسارعي، وهو سيكون أصغر بنحو 100 مرة منه وستقل كلفته إلى عشر تكلفته. وسيحدث الجهاز ثورة في عالم تقدير العُمْر الكربوني للآثار؛ لأنَّك لن تكون مضطراً لإرسال نماذج ثمينة أو رقيقة إلى مختبرات بعيدة ثم انتظار قدوم النتائج.

وسيكون لهذه التقنية أيضاً تطبيقات لتحسين البيئة، فمثلاً إن قياس تركيز ثاني أكسيد الكربون المُشع يمكن أنْ يستعمل لتمييز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن حرق الوقود الأحفوري عن ذلك الناتج في الجو من مصادر أخرى. ومن حيث المبدأ سَيُمَكِّننا هذا الجهاز من كشف الكثير من الجزيئات مثل الميثان وغازات الدفيئة ومواد كيميائية تخص القضاء والطب العدلي والأمن القومي.

أساسيات فيزيائية للقياس

تعتبر طريقة فجوة المطياف طريقة حديثة جداً تمكننا من قياس الانخماد البصري للضوء نتيجة التشتت أو الامتصاص من قِبَل ذرات وجزيئات النموذج.

وعندما يكون الليزر في حالة رنين مع اهتزازات الفجوة ستزداد الشدة الضوئية بشكل كبير في الفجوة نتيجة التداخل البناء لأمواج الضوء. ومطيافية ليزر تحت الحمراء تسبر (أو تجس) الأنماط الاهتزازية الكمومية للجزيئات، فتقوم جزيئات معينة بامتصاص الأشعة تحت الحمراء التي لها نفس نمط اهتزازها. فيصبح من الممكن قياس تركيز هذه الجزيئات في النموذج.

وحالما نتوقف عن إرسال الضوء الليزري سيبدأ الاضمحلال الأسِّي للشدة الضوئية المتسربة من الفجوة، وعندها نبدأ القياسات.

وخلال مرور شعاع الليزر داخل الفجوة سينعكس الشعاع آلاف المرات بين المرآتين مما يتيح تكون مسار ضوئي طوله عدة كيلومترات، فيسمح بتكوين شدة ضوئية عالية، ومن ثم يسهل قياس انخماد شدة الضوء نتيجة تشته من قِبَل جزيئات وذرات غاز قادر على امتصاص طول موجي مُعَيَّن من الضوء.

عندها ستضمحل شدة الضوء بشكل أسرع، مما يعني أن الضوء سيرتد ما بين المرآتين بعدد مرات أقل من حالة عدم وجود غاز. وسيقوم هذا المطياف بحساب الزمن اللازم لتضمحل شدة الضوء إلى1/e  من قيمتها الابتدائية، ويسمى هذا الزمن «زمن التطويق».

وسيستعمل زمن التطويق هذا لقياس قيمة تركيز المادة المُمتَصَة في الخليط الغازي في الفجوة. والأطياف الاهتزازية لثاني أوكسيد الكربون تختلف فيما اذا كان الكربون C14 أو المعتاد C12.

وبحرق النموذج وفحصه بطريقة المطيافية الليزرية تحت الحمراء يتمكن العلماء من حساب نسبة C14 في النموذج ومن ثم تقدير عمره.

العُمْر الكربوني والعين البشرية

نشرت المنظمة الأسترالية للعلوم والتقنيات النووية ANSTO في عام 2015 بحثا تضمن الدليل على أن معرفة العمر الطويل لبلورة عدسة العين البشرية يمكن أن يكون له علاقة بدراسة أمراض شيخوخة البصر، مثل عدم القدرة على تبئير ما نقرأ ومرض الماء الأبيض وكذلك لمعرفة عُمْر الشخص.

كما نشرت مجلة حياة الإلكترونية عام 2015 بحثاً يشير إلى أن عدسة العين البشرية، التي تقوم بتجميع وتبئير الضوء وإسقاطه على الشبكية، لا تفقد ولا تعوض خلاياها طوال مدة حياة الإنسان.

ويذكر البحث أنه «لأول مرة على مستوى العالم نبين أن جزيئات اللُبَيْدات lipids (وهي مركبات عضوية تشمل ضروبا من الدهن والشمع) لا تنخرط في الفعاليات الأيضِيَّة لجسم الإنسان فنجدها لا تموت ولا تتجدد، وبذلك تكون قد عاشت فترة أطول من بقية اللُبَيْدات في الجسم».

ومن المعروف أن الأنسجة الحية تتعرض باستمرار إلى المص turnover والتعويض وإعادة البناء سواءً في الخلية أو في النسيج. وعلى مستوى الأعضاء البشرية لدينا استثناءان: الأول هو مينا الأسنان التي لا تتعرض لأي تَغَيّر منذ تكونها، والآخر هو عدسة العين. فالشفافية وانعكاس الضوء في عدسة العين الطبيعية يعتمدان على بروتين البلورات. وتملأ هذه البروتينات سيتوبلازما الخلايا المتطورة جداً من ألياف عدسة العين.

وللحفاظ على جودة الابصار، يكون على هذه البروتينات أنْ تأخذ شكل محلول مُرَكَّز في المنطقة اللحائية (القشرية) الخارجية، وتأخذ شكلاً أقرب للزجاج في لب العدسة. وزيادة محتوى المتبلورات يعطي العدسة معامل انكسار عاليا، وهذا ضروري لأجل تبئير الضوء على الشبكية.

وللعين نمط متفرد في النمو حيث تضاف خلايا ليفية إلى عدسة العين التي تكون متكاملة منذ الولادة. وخلايا الألياف المتكونة حديثا تحتضن الخلايا الموجودة مسبقا. ونمط النمو المتفرد هذا قد يوضح غياب المص أو التحول الجزيئي. ويظهر أن الأنواع المختلفة من اللُبَيْدات الفوسفاتية لها استقرارية كيميائية تختلف باختلاف الظروف التي تتعرض لها داخل العدسة.

ومن المعروف أن اللُبَيْدات مهمة لفعاليات الخلايا في الجسم، وبصورة عامة تكون تحولاتها سريعة. وأي فشل في تنظيم التحولات سيعزى إلى وباء أو حالة مرضّية. فمثلاً، نجد أنَّ العين الشائخة تعاني من الماء الأبيض لأن البروتين لم يعد يتوزع بشكل منتظم على مقياس الطول الموجي للضوء.

ويؤمل أن تساعد هذه الدراسة على فهم التطورات الحاصلة في أمراض ذات علاقة بالشيخوخة.

النظير C14 في عدسة العين

تمتص الأنسجة البشرية نظير الكربون C14 من ثاني أكسيد الكربون في الجو، وبذلك تكون محتويات بروتينات العدسة من النظير C14 تعكس وتشير إلى محتويات الجو من هذا النظير في الوقت الذي تكونت فيه عدسة العين البلورية. وسيمكن تحديد العمر الكربوني بدقة بواسطة مقارنة محتويات العدسة البلورية من C14 بما يسمى نبض القنبلة؛ أي رسم خريطة لتوزيع محتوى الجو من C14 منذ الحرب العالمية الثانية (حيث لم يكن هناك زيادة غير طبيعية في محتوى هذا النظير) وحتى زيادة المحتوى أيام الخمسينيات وبداية الستينيات بشكل كبير نتيجةً لزيادة التفجيرات النووية واختباراتها.

ولما كانت هذه التغيرات في التراكيز مؤثرة حتى عند أخذها بشكل سنوي، فإن تقدير العمر الكربوني سيكون دقيقاً بما فيه الكفاية.

ونظراً للتغيرات السريعة من سنة إلى أخرى في مستويات C14 في الجو، مصحوبا بانتقاله السريع إلى الاطعمة النباتية من خلال عملية التركيب الضوئي، فإن توزع C14 الناتج عن نبض القنبلة في الإنسان سيعتمد على سنة ولادته وغذائه وطريقة عملياته الأيضِيَّة أو ديناميكية تبدل الأنسجة في الجسم. يشذ عن ذلك مقدار تركيز C14 في العدسة البلورية؛ إذ يبقى ثابتاً في قيمته عند وقت الوفاة كقيمته عند وقت الولادة.

وقيمة تراكيز C14 نسبةً إلى بقية نظائر الكربون بقيت ثابتة نسبياً بحدود 1.2 جزء إلى تريليون خلال آلاف السنين السابقة بسبب طول عُمْر النصف للنظير والبالغ 5730 عاما. والعمل بهذه التقنية يكون دائماً دقيقاً لنماذج يزيد عمرها عن 300 عام.

تقدير عمر عدسة العين

وأكثر الطرق شيوعاً في تحديد أو تقدير العمر بواسطة الكربون المشع تكون مع نماذج تشمل الرسوبيات وهياكل المرجان والآثار والرسوم الحجرية وغيرها من الأشياء العتيقة، لكن الطريقة وجدت سبيلها أيضاً في الحصول على معلومات تخص مجالات الطب العدلي.

وفي هذا البحث استعمل العلماء مطيافاً كتلياً تسارعياً لقياس مقدار نظير الكربون المشع C14 في عدسات عيون 14 متبرعا. وبعد استخلاصهم لللُبَيْدات من نواة عدسة العين لأجل فحصها وتحليلها، قاسوا مقدار C14 في فئة من الجزيئات سمحت لهم بمعرفة عُمْر التركيب البيولوجي والوقت الذي توقف فيه هذا التركيب عن تبادل الكربون مع محيطه الجوي، أي وقت وفاته. وعكست محتويات العدسة من الكربون المشع C14 ما كان يحتويه الجو من C14 في وقت تكون بلورة العدسة. نستطيع الاستنتاج أن تكون البروتين المتبلور في نواة العدسة قد تكوّن بالكامل وقت ولادة الإنسان مع تكوّن مستمر لكن قليل جداً ومتناقص خلال حياة الإنسان.

نبض القنبلة bomb pulse 

يقصد بنبض القنبلة تلك الفترة الزمنية التي ارتفع فيها مستوى النظير C14 في الغلاف الجوي الأرضي بسبب التجارب النووية منذ عام 1950 وحتى عام 1964.

وبسبب التجارب النووية خلال الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين ارتفعت نسبة تركيز نظير الكربون المشع نسبةً لبقية نظائر الكربون (أي النسبة C14/C ) في الغلاف الجوي. وبعد معاهدة حظر نشاط التجارب النووية عام 1964، بدأت مستويات الكربون المشع بالانخفاض عن طريق انتقاله من الجو إلى المحيطات والأرض.

في الواقع فإن جميع المخلوقات الموجودة بعد الخمسينيات، ومنها الإنسان، تمتاز بوجود تركيز أعلى للنظير C14 فيها. وبسبب التغيّرات غير الطبيعية في تلك الفترة الزمنية لارتفاع مستويات تراكيز النظير المشع C14، فإن جميع المواد العضوية حول العالم تعرضت لامتصاص النظير المشع C14 بشكل كبير، وبذلك ستتاح الفرصة لقياس عُمْر الجزيئات العضوية بدقة أكبر.

ولما كان الكربون المشع أصبح متداخلاً ومندمجاً داخل جميع الأشياء الحية فستكون هذه النبضة مقياسا زمنيا للتراكيز خلال نصف القرن الماضي.

فلو أن شجرة أو أي مادة عضوية أخرى تجمعت فيها تراكيز عالية من ثاني أكسيد الكربون من الجو بعد عام 1955 (مثل شجرة بقيت حية بعد هذا التاريخ) فسيكون فيها تراكيز النسبة C14/C أعلى من نسبة التراكيز فيما كان قبل ذلك الزمن. واختلاف النسب هذا له تأثير مهم؛ وهو أن النباتات والحيوانات التي بدأت حياتها قبل عام 1955 وماتت بعد ذلك التاريخ ستكون قيمة النسبة بمثابة مَعْلَمَةْ marker خاصه لهذه التراكيب سيستفيد منها الباحثون في تخمين سرعة تعويض الخلايا.

Exit mobile version