حازم محمود فرج
من تحليقٍ يلامِسُ الحلقات الذهبية لكوكب زحل، إلى غوصٍ في غلافِهِ الغازي، سطّرت الأيام والساعاتُ والدقائق الأخيرة لبعثة كاسيني Cassini mission العظيمة مأثرة علمية جديدة.
واختتمت البعثة أخيرا رحلة تواصلت نحواً من 20 عاماً بين الكواكب والأقمار والحلقات. ففي أواخر العام 2016، أرسل فريق علماء هذه البعثة تعليمات إلى المركبة لتغيير مدارها، وإنهاء ملحمتها الكبيرة. هكذا بدأت المركبة سلسلة دورات مدارية شاهقة فوق قطبي كوكب زحل تعِدّها لإنجاز خطوتها الأخيرة: الدخول في فضاء الحلقات ذاتها والهبوط الكبير نحو الكوكب والاقتحام النهائي لغلافه الغازي في شهر سبتمبر 2017. وضعت مناورات الاقتحام هذه حداً لعمل بعثة مديدة العمر، لكنها منحتها أيضاً وقتاً كافياً لرصد حادثة أخرى فريدة، هي حادثة الانقلاب الصيفي لكوكب زحل.
بدت مرحلة الخاتمة الكبرى لبعثة كاسّيني وكأنها مهمة مختلفة تماماً عن كل ما سبق من تاريخ البعثة. إذ ستدنو المركبة فيها كثيراً من الكوكب كي تتمكن من إنجاز أبحاث وأرصاد علمية قريبة من ارتفاع 1700 كم فقط فوق سحبه، وهذا ما سيعرّضها لأخطار بالغة. لكن هذه المرحلة الأخيرة من عمل البعثة ستمنح العلماء فرصة معرفة تفاصيل أكثر عن حلقات زحل وطقسه وبنيته الداخلية. كما ستمنحهم حادثة الانقلاب الصيفي فرصة رصد التغيّر البطيء لفصول الكوكب، وأثرها عندما تضيء مناطقَه الشمالية وأطرافاً من منظومة حلقاته الأيقونية والكثير من أقماره الجليدية: كل هذا من زاوية رؤية جديدة كليّاً، تكشف معالمَ توارت بين الأضواء والظلال على الكوكب.
لقد حطّمت بعثة كاسّيني الفضائية معظم الأرقام القياسيّة في رحلات استكشاف الكواكب. فمع نهاية عقدها الأول حول زحل في العام 2014، كانت المركبة قد أتمّت 206 دورات مدارية، والتقطت 332,000 صورة، وأنجزت 132 عبوراً قرب أقمار زحل، وقدم علماؤها 3039 بحثاً علمياً عن زحل وعالمه، واكتشفت سبعة أقمار جديدة له. كما مكّنت محركات كاسّيني الجبّارة ومرونة برمجياتها المتطورة مهندسي طيرانها من إعادة رسم مسار البعثة مراراً لإجراء دراسات مستحدثة للقمر تيتان Titan المشبع بالميثان، والقمر انسيلادس Enceladus ونفّاثاته المائية. أما مرحلة تمديد عمل البعثة فقد وصلت بهذه الأرقام القياسيّة إلى عقدٍ ثان من الاستكشاف.
لكن من شأن بعثات الاستكشاف العظيمة أيضاً أن تبلغ خاتمة لها. ففي يوم 15 سبتمبر الماضي، لاقت بعثة كاسّيني مصيرها بصورة خطٍ ناري يعبر سحب سماء زحل، بعد أن أبدع مهندسو طيرانها بتوجيهها بدقة كي لا تسقط على أحد القمرين، انسيلادس أو تيتان، اللذين يمثلان بيئة محتملة لحياة بيولوجية غير أرضية.
مدارٌ جديد
يذكر علماء البعثة أن عدد أقمار كوكب زحل لم يكن معروفاً بدقة قبل كاسّيني. كما كانت المعلومات عن قمره الكبير تيتان قليلة جدا. واستطاعت كاسيني اختراق غلافه الضبابي الكثيف، وكان أمراً مثيراً جداً أن تكشف مشاهد عليه شديدة الشبه بما يوجد على الأرض: فبدت حقول رمال مناطقه الاستوائية والوسطى بوضوح صارخ. وأدرك العلماء منها أن تيتان هو قمرٌ بالغ التعقيد جيولوجياً وجغرافياً؛ كثير الشبه بالأرض في بعض صفاته، وبعيد عنها في صفات أخرى.
وبحجمه الذي يفوق حجم كوكب عطارد، قدّمت قوة ثقالة تيتان الكبيرة للعلماء أداة تحكم طوال فترة عمل البعثة؛ إذ مثّلت آلية رائعة لضبطِ مسار كاسّيني وإعادة توجيهها حول زحل. ومن دون تيتان، كان الأمر سيتطلب كمية متعذرة من الوقود اللازم لتسيير المركبة مسافات كبيرة جداً طوال فترات مديدة. وكان دوره حاسماً في إنجاز جميع التعديلات على مسار كاسّيني لتوجيهها إلى داخل الحلقات ضمن مسافة هي الأقرب إلى الكوكب منذ وصول البعثة إليه.
لكن تيتان لم يكن أول جرم فضائي يمكّن كاسّيني من تعديل مسارها؛ إذ سبق للمركبة أن حصلت على أربع «دفعات ثقاليّة» على كامل طريق رحلتها من الأرض إلى زحل، تمثّلت بعمليتي عبور قرب كوكب الزهرة، وعملية عبور واحدة قرب الأرض، وعملية عبور أخيرة قرب كوكب المشتري صورّت المركبة أثناءها ملك الكواكب وحفنة من أقماره.
وعلى طول طريقها إلى تلك النهاية، استكشفت المركبة عشرات الأقمار الأخرى، ورصدت سحب زحل، ودرست غلافه المغنطيسي. لكن دوراتها المدارية الأخيرة منحت حلقات زحل صدارة المشهد؛ وهي تلك الدورات التي قدمت أعظم مردودٍ علمي، ومثّلت أدق وأخطر لحظات مدة عمل البعثة كلها. هكذا أرسل العلماء في شهر نوفمبر 2016 المركبة لتلامس الحلقات في البداية، ثم نجحوا بسحب نقطة حضيضها إلى أقرب مسافة ممكنة من الكوكب. وفي شهر إبريل الماضي أنجزت المركبة بنجاح 20 دورة مدارية قطبية، عبرت في نهايتها من داخل منظومة حلقات زحل العظيمة بصورةٍ تشبه مرور الخيط من ثقب الإبرة.
اكتشافات متلاحقة
ترى كارولين بوركو، رئيسة فريق تصوير بعثة كاسّيني، أن علماء البعثة نجحوا في الحصول على بعض أعظم اكتشافاتها في منظومة حلقات زحل بفضل دمج عمليات التصوير العالية الدقة وعمليات الاحتجاب خلف الحلقات المرصودة راديوياً، وبالأشعة فوق البنفسجية، وتحت الحمراء. أدى دمج هذه التقانات إلى الحصول على صورة رائعة جداً أظهرت أن الجسيمات في فضاء الحلقات تتصرف بترابط معاً لوقتٍ أطول مما اعتقد في السابق، كما يبدو أنها تتكتل وفق آلياتٍ غير معروفة أو متوقعة.
تسلط اكتشافات أرصاد الحلقات الضوء على أقراص الحطام الأولية ــ أقراص النشوء ــ التي تقود عملية تشكّل الكواكب. كما مكّنت الدورات المدارية الجديدة كاسّيني من الحصول على صور محسّنة للأقمار القريبة من الحلقات. أظهرت صور أقمار باندورا وبروميثيوس وابيميثيوس معالم غريبة الهيئة عليها، مثل أخاديد وفوهات ضحلة تملؤها مادة بدا أنها سالت فجأة على جدرانها، مع وجود بروزات صخرية ناصعة على امتداد أطرافها. تحدّدُ هذه الانزلاقات الطينية تيارات طويلة من مادة تحركت في ظروف قوة ثقالة ضعيفة لأقمار صغيرة بقدر هذه. وقد دفعت مشاهد هذه الحركات العلماء للإسراع بإعداد نماذج نظرية جديدة يمكنها تفسير مشاهد الحركة المرصودة في ضوء ظروف ضعف جاذبية هذه الأقمار.
حلقاتٌ ذهبية
عندما بدأت كاسّيني دخولها فضاء الحلقات، لجأت إلى استخدام صحنها الكبير كدرع حماية من الصخور والحجارة، مع الإبقاء على هوائيها في اتجاه تحليقها. وبعد زوال خطر الاصطدامات، أعاد العلماء توجيهه نحو الأرض ثانية. كان لا بد من ذلك من أجل إرسال نتائج بيانات التجارب المباشرة والكثيرة إلى الأرض. لقد أراد العلماء إجراء قياسات جيدة لقوة ثقالة زحل، ومعرفة مدى رياحه. كما رغب العلماء في التأكد من وجود أي تمايز في بنية الكوكب، كأن يكون له نواة صخرية كبيرة. وقد اعتقد الفريق بإمكانية معرفة هذا كله مع بدء المركبة دوراتها الختامية. كما كان أحد أهم القياسات المطلوبة هو تحديد كتلة حلقات زحل. وعندما بدأت كاسّيني مرحلة دورات الخاتمة الكبرى القريبة من زحل، عملت على رسم خريطة لحقله المغنطيسي والثقالي تساعد على كشف سر معدّل تدويمه، وتكشف وجود أي تذبذب في استقامة محور حقله المغنطيسي. ومكنت دورات الخاتمة الكبرى كاسّيني من إلقاء نظرة قريبة على حلقات زحل، لتعرف بذلك مزيداً عن بنيتها وتكوينها وتفاعلها مع الكوكب وأقماره. يمكن أن تساعد المعلومات الجديدة على تفسير اللون الذهبي المميز للحلقات.
بداية النهاية
بدت الدورات المدارية المخططة لكاسّيني فوق قطبي زحل أشبه بتمرين «بروفة» نهائي استعداداً للأيام الأخيرة التالية، وهي الدورات التي مثّلت المرحلة الأسرع وتيرة والأكثر خطورة في عمر البعثة كلها. وعلى الرغم من خطورتها، فإن هذه الدورات تمنح إطلالة جيدة على الجزء الخارجي الأبعد في منظومة الحلقات الرئيسية، وأيضاً فرصة إنجاز بعض التجارب والأرصاد العلميّة الفريدة. بعد عملية تعديل المسار الأخيرة، بدأت المركبة مرحلة الخاتمة الكبرى. وعند أدنى نقطة لها من مدارها الجديد، عبرت كاسّيني من داخل الطرف الأقرب في منظومة حلقات زحل ولامست أعالي غلافه الغازي. استغرقت المركبة مدة 6 أو 7 أيام فقط كي تنجز كل واحدة من دورات الخاتمة الكبرى، وجعلت دوراتها السابقة ــ الأبعد مسافة والأطول مدة ــ تبدو بطيئة بالمقارنة. كما مثّلت مرحلة الخاتمة تلك طريقة تحليق خطرة جدا في بيئة جديدة تماماً على كاسّيني، عبرت فيها بين غبار حلقات الكوكب عن يسارها، وأعالي غلافه الغازي عن يمينها.
خاتمة كبرى
مثّلت دورات الخاتمة الكبرى وقتاً عصيباً وحافلاً لفريق علماء كاسّيني التي كان لديها الكثير من العمل لتنجزه في أيامها الأخيرة، خاصة بعد إدراك العلماء أن مصيرها قد حسم بعد عبورها الأخير قرب تيتان، وأنها ستنهي ملحمتها العظيمة باقتحام مميت في غلاف زحل الغازي بتاريخ 15 سبتمبر 2017. وكحصان عمل يكدح في آخر لحظات حياته، واظبت كاسّيني على جمع عينات من غازات زحل وتحليلها وتسجيل البيانات العلمية أثناء اقتحامها غلافه الغازي إلى نهايتها، وإرسال النتائج والصور الأخيرة إلى الأرض.
في الدقائق واللحظات الأخيرة من عمر البعثة، ومع بدء كاسّيني توهجها في سماوات زحل الغائمة دائماً، كانت هذه المركبة الأسطورية قد بدأت سقوطها الأخير بعد نفاد معظم كمية وقودها، وانتهت ملحمة بعثة كاسّيني التي تواصلت 20 عاماً بصورة إشارة لاسلكية تذوي بهدوء إلى صمتها الأخير والمهيب.