حسني عبد الحافظ
اعتبر كثير من العُلماء الوصول إلى بحيرة فوستوك الجليدية إنجازاً كبيراً، لا يقل أهمية عن إنجاز الهبوط الأوَّل على سطح القمر، فهي بُحيرة ليست كغيرها من البحيرات؛ إذ تقع على عُمق يبلغ نحو 3700 متر، تحت طبقة الجليد الكثيفة، في القارة القطبية الجنوبية (إنتارتيكا)، وظلَّت معزولة تماماً عن العالم الخارجي ملايين السنين، واكتشفت في عام 1996 عن طريق الرصد بالأقمار الصنعية، ومجسات الاستشعار، ورادارات المسح الاسترجاعي للضوء. ومُنذ أشهر عدة، أمكن اختراق الكُتلة الجليدية السميكة، التي تغطِّي سطح البحيرة، ومن ثم الولوج إلى العالم البكر المُظلم. إنها بحيرة فوستوك VOSTOK، مستودع أسرار العالم المفقود مُنذ نحو 20 مليون سنة.
ووفق بيانات الرصد، فإن طول بحيرة فوستوك يبلغ نحو 250 كيلومتراً وعرضها نحو 50 كيلومتراً.
وكلمة (فوستوك) في اللغة الروسية تعني «الشرق»، وقد سميت بذلك كونها تقع شرق القارة القطبية الجنوبية، وأيضاً لكونها تقع تحت محطة الأبحاث الروسية (فوستوك).
وعلى الرغم من أن جو المنطقة سُجِّل فيه أبرد درجات الحرارة على كوكب الأرض، إذ بلغت 89.2 درجة مئوية تحت الصفر.وعلى الرغم من وجود كُتلة جليدية كثيفة دائمة فوق سطحها، وتدنِّي درجة حرارة مياه البحيرة إلى ما دون ثلاث درجات تحت الصفر، فإن هذه المياه تظل مُحتفِظة بحالة السيولة. وفي تفسيرهما لذلك يقول كُل من العالمين الروسيين إيغور زاتيكوف، وأندريه كابيتسي: «إن الطبقة الجليدية العُليا، تؤدي دور (التُرمُس) الذي يحفظ الحرارة في الداخل، وإن حرارة باطن الأرض تُسِّخن الجليد، وهذا ما يُشكِّل البحيرة تحت طبقة الجليد السميكة، ويجعل المياه سائلة».
عمليات الحفر
عقب اكتشافها، بدأت عمليات التخطيط لاختراق الطبقة الجليدية التي تغطيها، وكان الاتجاه إلى استخدام مُعدَّات حفر ذات تقنيات مُتقدِّمة، للتعامل بحذر مع البيئة البكر، والحفاظ على سلامتها، لاسيما بعد تزايد الاحتجاجات من المُنظَّمات المُدافعة عن البيئة. وكان فليري لوكين رئيس البعثة الروسية في القطب الجنوبي قد قال إنه تم «تطوير مُعدَّات جديدة للحفر، من قِبل باحثين في معهد سانت بطرسبورغ للفيزياء النووية، ومن شأن هذه المُعدَّات ضمان عدم تلويث المنطقة في دائرة الحفر المستهدفة». وطمأن الدول الأخرى الموقعِّة على مُعاهدة القطب الجنوبي، إلى أن عمليات الحفر لن تؤثر على البحيرة، بحجة أنَّه عند الاختراق ستندفع المياه في البئر، وتتجمد، مما يدفع السوائل الكيميائية خارج البحيرة، ويختمها. وحتى الخامس من فبراير 2011، أمكن الحفر حتى عمق 3720 متراً (نحو 12200 قدم)، ثم توقَّف الحفر لنحو 10 أشهر، واستؤنف بعد ذلك حتى صار الوصول إلى سطح البحيرة قاب قوسين أو أدنى.
واستُخدِمت في عمليات الحفر بالمرحلة الأخيرة ما يُعرف بتقنيات الحفر الحراري النظيف، التي يُعوَّل فيها على زيت السيليكون السائل، وشارك فيها عُلماء من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة.
وبأخذ العيِّنات عند هذا العمق وبالفحص الدقيق لها؛ تبين أن البحيرة منحوتة بطبقة جليدية، مُنذ نحو 20 مليون سنة، مما يجعلها كنزاً ثميناً للباحثين والعلماء، سيعولون عليه كثيراً في أبحاثهم المُتعلِّقة بمجالات عدة، مناخية وإحيائية وجيولوجية ونحوها.
ولحِرصهم على الوصول إلى سطح البحيرة دون أدنى معدل لتلوث مياهها، تركوا الطبقة الجليدية المُتبقِّية، التي لا تتجاوز سماكتها عشرات الأمتار، ولما أيقنوا أن وسائل الحفر التي ستُستخدَم في المرحلة الأخيرة، لن تؤثر في مياه البحيرة، بدأوا في ثقب الطبقة الشفافة من الجليد، إلى أن وصلوا للمياه. وفي الخامس من فبراير 2012، نجح فريق العمل في رفع آلة الحفر، التي احتفظت بعينة من مياه البحيرة، تُقدَّر بنحو 35 متراً، وبحسب الوكالة الفيدرالية للأنواء الجويَّة والبيئية، في وزارة الموارد الطبيعية الروسية، فإنَّ هذه العيِّنة لم تصمد بحالتها السائلة أثناء الرفع، حيث تجمَّدت، وسُرعان ما نُقِلت إلى وعاء مختبري مُعقَّم، لإجراء المزيد من الفحص والتحليل لها.
أشكال من الحياة
وكانت البيانات الأوَّلية أظهرت أن بحيرة فوستوك، التي يُقدَّر عُمق مياهها بنحو 1000 متر، تحوي أنواعاً كثيرة من أشكال الحياة، وهذا يُعد شيئاً مُذِهلاً، لاسيما أن العُزلة عن البيئة الخارجية (الجوية)، دامت ملايين السنين. وأمكن العثور على نوع غير معروف من البكتيريا، يرى العُلماء أنه «كنز استراتيجي” لمعرفة بعض أسرار وخفايا الحياة على كوكب الأرض قبل العصر الجليدي.
ويُشير سان يكوغن إلى أن هذا الاكتشاف «سيُساهم في توفير الكثير من المعرفة حول الأحياء وتطوُّر الحياة في الظروف القاسية، وكذا الدراسة العِلمية للتطوُّر الجيولوجي للمنطقة القطبية الجنوبية، إلى ما بعد فترة تجلُّدها».
ويُضِيف فاليري لوكين: «حققنا اكتشافات كبيرة من خِلال دراسة العيِّنات التي تم الحصول عليها خلال عمليات الحفر، في جليد القطب الجنوبي، فقد حصلنا على الحمض النووي للبكتيريا التي تعيش في الينابيع الساخنة، ووجودها في الجليد السميك، قد يكون مؤشراً على وجود نشاط الطاقة الحرارية الأرضية، في قاع بحيرة فوستوك. إنَّ تجاربنا وأبحاثنا يُمكن أن نستخدمها على مادة شاملة تساعدنا على تنفيذ تجارب فضائية، للبحث عن الحياة في كواكب المجموعة الشمسية».
وكان فريق بحثي يترأسه سيرغي بولات الأستاذ في مختبر الجينات بمعهد سانت بيتر سبرغ للفيزياء النووية، قد أشار إلى احتمال أن تكون تلك المُسطَّحات المائية المعزولة، هي بيئات لأشكال من الحياة البكتيرية لم يشهدها العلم من ذي قبل، فبعد أن نحَّوا كُل العوامل المُمكنة لحدوث تلوث، وجدوا أنَّ الحمض النووي لم يتعرض لأي نوع من الأنواع المعروفة لديهم في قائمة البيانات، وهم يطلقون على هذا النوع من الحياة نوعاً غير مُصنف، وغير معروف بعد، لقد جرى تسليط الاهتمام على نوع معين من البكتيريا، التي لم يتعد حمضها النووي نسبة %86، مقارنة بأشكال الحياة الأخرى التي كانت موجودة من قبل، إن بلوغ مستوى %90، عادة يعني أن ذلك الكائن غير معروف.
وكان بعض العُلماء المُشاركين في فحص وتحليل العينات الأولية من البحيرة، قد أكَّدوا أن مسألة البحث عن مظاهر الحياة في بحيرة فوستوك، شبيهة بعمليات البحث عن الحياة على الكواكب الأخرى في المنظومة الشمسية. ووفق تقرير علمي مُشترك ساهم في وضعه عُلماء من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن البحيرة تمتلك موائل فريدة من نوعها للبكتيريا extremophile القديمة، وأنه يُمكن عزل الجينات الجرثومية، التي تحتوي على الخصائص المُتقادمة، رُبما مُنذ ما يزيد عن مليون سنة مضت.
وذكر التقرير أن البيانات الأولية تُشير إلى أن مياه البحيرة تحتوي على تركيزات من الأنزيمات المؤكسدة في بيئة يسودها الظلام الدامس، وأنه ربما تكون الكائنات الحيَّة التي تعيش في البحيرة قد تطوَّرت بطريقة فريدة من نوعها، وفق الظروف البيئية السائدة، والتي تتشابه إلى حد كبير مع بيئة القمر يوروبا (أحد أقمار كوكب المشتري)، وكذا بيئة القمر إنسيلادوس (أحد أقمار كوكب زحل)، وهذا يُعزز إمكانية العثور على مياه في هذين القمرين. وحديثاً ظهرت فرضية جديدة للعالم جون بريسكو من جامعة بوزمان، مفادها: أن بحيرة فوستوك تحتوي على كميَّة من الأكسجين تساوي عشرة أضعاف ما هو موجود في البحيرات الأُخرى تحت الجليد في منطقة (داري فالي) بالقطب الجنوبي، وهذا يعني أن البحيرة ليس فيها شكل واحد من الحياة، وإنما تعِج بأشكال مُتباينة من الحياة البدائية، كما أن قاع البحيرة يُمكن أن يحتوي على عضويات غير هوائية.
سجلات مناخية
ويتفق عدد من عُلماء البيئة على أن البحيرة، والقِشرة الجليدية التي تغطيها، توفِّران سِجلاً مناخياً للعصور السحيقة، وذلك من خِلال دراسة وتحليل العناصر والنظائر المُشِعَّة في مياه البحيرة والقشرة الجليدية.
ويشير غيرمان ليتشينكوف الباحث المُتخصص في موارد أنتاركتيكا بالمعهد الروسي للأبحاث العلمية، إلى أن الغوص في مياه البحيرة، والوصول إلى قاعها سيُحقق فوائد لا حدود لها لمعرفة أسرار المناخ، ليس فقط في نطاق القارة القطبية الجنوبية، بل العالم قاطبة، ويُمكن أن نعوِّل عليها في الدراسات الخاصة بتكوين طبقات الغلاف الجوي، وكيفية تطورها خِلال ملايين السنين، والوقوف على الأسباب الحقيقية للتحوُّلات المناخية، ومدى تأثيرها في حالات الانقراض المُتعاقبة للكثير من الكائنات.
إن ما تحتفظ به بحيرة فوستوك من أسرار، يُمكن أن يغير العديد من الفرضيات والنظريات العلمية، لاسيما فيما يتعلَّق بتغيُّر المناخ والانقراض وتطوَّر الحياة على كوكب الأرض. وكان طاقم تلفزيوني من كاليفورنيا رافق فريقاً للإنقاذ البحري، مُكلَّفاً بمهمة في القارة القطبية الجنوبية، صوَّر نتوءات جليدية غامضة، في الناحية الغربية من بحيرة فوستوك. وأشار مُتحدث باسم البحرية الأمريكية إلى أن حكومة بلاده «تسعى إلى منع بث شريط الفيديو، الذي أثار كثيراً من الجدل العلمي»!! لكن رئيس الشركة المالكة للتلفزيون قال إن مِلكيَّة الفيديو تعود للشركة ومن حقها بثه حينما تريد.
وقد خضع الفيديو الغامض والمُثير للجدل للفحص من قبل فريق بحثي في المؤسسة الوطنية للعلوم بواشنطن، بمُشاركة اثنين من ضباط البحرية الأمريكية، وخرج الفريق بتقرير يفيد بأن المنطقة التي صوِّرت تقع بالقُرب من بحيرة فوستوك، وربما تكون منطقة حفريات أثرية ضخمة مُمتدة إلى عشرات الكيلومترات تحت طبقات الجليد. وإذا كان الأمر كذلك فإن كثيراً من الأسئلة ستثار حول عِلاقة بحيرة فوستوك بهذه الحفريات، وهل كان ثمة حضارة تقوم على ضفاف هذه البحيرة، في العصور القديمة..؟!