د. سمير محمود
أكاديمي وباحث متخصص في الإعلام العلمي (السعودية)
إذا كان لجائحة كورونا المسببة لمرض كوفيد-19 من فضل، فإنها أعادت قضايا الصحة والسلامة إلى دائرة الاهتمام العالمية، كما أعادت الاعتبار ولو جزئيًا للعلوم والتقنية والأبحاث والتطوير في سباق البشرية من أجل الحد من انتشار الفيروس المفترس وتحوراته التي ضربت معظم دول العالم.
والمتابع لعدد الدراسات والأبحاث التي أجريت خلال تلك الجائحة، يدرك دون مجال للشك أن العلوم والتقنية كانت ولا تزال هي المحرك لتقدم الأمم، والسبيل لحل المشكلات في الحاضر والمستقبل. وهو ما طرح تساؤلات كثيرة عن دور الإعلام مع طوفان المعلومات الكاذبة حول الجائحة، وعن اللقاحات ومشكلاتها، ودور الذكاء الاصطناعي ولغة الآلة وتعلمها في خدمة العمل الإعلامي، وسبل تبسيط العلوم عبر اليوتيوب ومنصات ووسائل التواصل في زمن الإعلام الجديد، وواقع الإعلام العلمي ومؤسساته الفاعلة في المنطقة العربية.
وشكلت معظم هذه التساؤلات محاور المنتدى العربي للإعلام والتواصل العلمي الذي نظمته افتراضيًا سايكوم إكس SciComm X، على مدار أربعة أيام في الفترة من 21 وحتى 25 فبراير 2021، بشراكة مع عشر مؤسسات علمية رفيعة المستوى في مقدمتها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الشريك الرئيسي لأعمال المنتدى.
واستعرضت نائبة رئيس مجلس الإدارة والرئيسة التنفيذية لشركة التقدم العلمي للنشر والتوزيع التابعة لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ومديرة برنامج نشر المعرفة العلمية والتكنولوجية في المؤسسة الدكتورة ليلى الموسوي في كلمتها في افتتاح المنتدى دور المؤسسة في تعزيز دور العلم والتكنولوجيا والابتكار في المجتمع، وتشجيع البحث العلمي، ونشر الثقافة العلمية، وترسيخ المعرفة العلمية السليمة لدى الجمهور.
حقائق وأرقام
المنتدى العربي للإعلام والتواصل العلمي هو الحدث الافتراضي الأول من نوعه باللغة العربية الذي يضم جميع أطياف الأطراف المعنية بمجالات الإعلام والتواصل العلمي في العالم العربي. وقد بحث في نسخته الأولى بناء القدرات ومواجهة التحديات، حيث يبرز بناء القدرات كضرورة ملحة في مجالات الإعلام والتواصل العلمي التي لا تزال في أطوارها الأولى بالعالم العربي، كما يواجه الإعلام والتواصل العلمي تحديات غير مسبوقة في عالم يعج بالمعلومات الزائفة، إضافة إلى تحديات خاصة في العالم العربي تواجهها تلك المجالات.
بهذه الكلمات تحدث سعد لطفي الرئيس التنفيذي لشركة سايكوم إكس، والمؤسس المشارك في المنتدى الذي تضمن 36 جلسة ما بين ورشة وحلقة نقاشية تحدث فيها 70 متخصصا من عشر دول عربية، وشارك فيها أكثر من 500 من المهتمين بقضايا العلوم من مختلف دول العالم، منهم خبراء في الإعلام العلمي، ورؤساء تحرير، ومحررون تنفيذيون، وأكاديميون، وإعلاميون علميون.
وقالت الدكتورة بثينة أسامة، رئيسة تحرير النسخة العربية لشبكة العلوم والتنمية SciDev.Net، إن المنتدى استهدف تحقيق التشبيك والتواصل بين مجتمع الإعلام والتواصل العلمي في العالم العربي، وتقديم ورش وبرامج تدريبية متخصصة تساعد على بناء قدرات المهتمين بهذا المجال في المنطقة.
وباء المعلومات في زمن كورونا
ركزت إحدى جلسات المنتدى على التحديات التي واجهت المنظمات الصحية الدولية في إيصال المعلومات خلال عام منذ بدء جائحة كوفيد-19، والكيفية التي تمكنت بها من مواجهتها، مثل انتشار المعلومات المضللة والمغلوطة، وعرضت الحلول التي لجأت إليها ووجدتها مفيدة في تخطي تلك العقبات. وخلصت الجلسة إلى ضرورة الحصول على المعلومات المتخصصة من مصادرها وثيقة الصلة بالموضوع المطروح؛ فالطب له أهله ورجالاته بتخصصاته المتنوعة، وحين يتعلق الأمر بالأوبئة والأمراض المعدية فإن لها متخصصين يختلفون تمامًا عن الممارسين العامين أو أطباء الجراحة وغيرها، وأوصت بالتحقق من موثوقية المعلومة العلمية لاسيما إذا ما تصلت بصحة الإنسان، فالمعلومة الخاطئة تقتل مثلها مثل التشخيص الخاطئ والعلاج الخاطئ تمامًا.
واتصالًا بالجلسة السابقة، أبرزت الجائحة أهمية الإعلام والتواصل العلمي من قبل جميع الأطراف المعنية بالصحة العامة. لذا ركزت إحدى الحلقات النقاشية على دور المنظمات الطبية الدولية في توصيل المعلومات الصحية أثناء الجائحة، إضافة إلى أدوارها الإعلامية الأخرى، من خلال التعاون مع المجتمع العلمي والإعلام والسلطات الصحية الحكومية والمؤسسات غير الحكومية ذات الصلة في مكانها ووقتها تمامًا، لأنها تعد بمثابة مرجعية يمكن الاعتداد بتقاريرها وإجراء مقارنات على مستوى دول الإقليم وعلى مستوى الدولة الواحدة خلال مراحلة زمنية مختلفة من عمر الوباء وعبر السلاسل الزمنية، وكلها أدوات مهمة في تعزيز التواصل العلمي، وإثراء المحتوى المتصل بالشؤون الصحية والعلمية.
الأطفال والطب والعلوم
قدمت الدكتورة علياء أبو كيوان تجربة متميزة أمام المنتدى تحت عنوان “قصة فيروس: تجربة الكتابة العلمية للأطفال” شاركت فيها تجربتها في تبسيط العلوم من خلال قصة أدبية للأطفال. وحظيت هذه التجربة باهتمام كبير من الحضور لأنها طرحت على المشاركين عدة تحديات فيما يتعلق بتناول وتبسيط العلوم لشريحة الأطفال الذين يبلغ عددهم عشرات الملايين في العالم العربي، ولديهم نهم ملحوظ في متابعة التطبيقات الإلكترونية والألعاب عبر الأجهزة اللوحية، ويتمتعون بحاسة خيال وتخيل فائقة لعوالم الفضاء والكائنات الخارقة والظواهر الطبيعية والفلكية. وأثارت جائحة كورونا شغف الصغار بمعرفة خبايا وأسرار هذا الفيروس الذي ألبس البشرية كمامة وفرض شروطه وقواعده في النظافة والتعقيم والمسافات الآمنة التزامًا بالتباعد الاجتماعي ومعايير السلامة، بالقدر نفسه الذي أصاب قطاعا عريضا من الأطفال بخوف إلى حد الهلع من عدو غامض ليس فقط بالنسبة لهم ولأعمارهم، وإنما للمحيطين بهم من الكبار، ومن هنا جاءت أهمية التواصل العلمي المبسط والسهل مع هذه الشريحة المهمة في المجتمعات العربية.
بودكاست ويوتيوب علمي
لم يقتصر المنتدى على الجلسات والحلقات النقاشية بل قدم خبرات عملية تدريبية متنوعة للمهتمين بالإعلام العلمي، منها ورشة عن أساسيات إنتاج بودكاست يغطي الموضوعات العلمية وأهميته والأدوات المستخدمة فيه. كما قدم عدد من المتخصصين في اليوتيوب تجاربهم الخاصة في إنتاج محتوى علمي مرئي ومسموع عبر تلك المنصة الإلكترونية.
وقدمت سامية عايش زميلة التدريب في مبادرة غوغل للأخبار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ورشة تدريبية عن كيفية استخدام أدوات غوغل للأخبار في كتابة وإنتاج الموضوعات المختلفة ومنها الموضوعات العلمية، كما قدمت ورشة أخرى عن أبرز الأفكار والاستخدامات المختلفة للذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، وطرق بناء نماذج لتعلم الآلة من بيانات جاهزة. وقدم مصطفى أبو مسلم، محرر الإعلام الاجتماعي في سبرنجر نيتشر تدريبًا مكثفًا حول الإعلام الاجتماعي الذي يمكن أن يخدم أهداف أي مشروع علمي، ويمكن الإعلاميين من تحديد مقاييس النجاح، والاستفادة من النتائج التي يحصل عليها في إعادة إنتاج المحتوى، ورسم شخصية الجمهور الحالي والمستهدف.
المرأة في العلوم
وجاءت الجلسة الختامية للمنتدى تحت عنوان “المرأة في الصحافة العلمية: تجارب رئيسات التحرير”، واستعرضت وصول المرأة إلى مستويات إدارية عليا في مجال العلوم، والتحديات التي تواجه النساء في رئاسة تحرير المجلات والمنصات العلمية. واتصالا بالجلسة نفسها شهد المنتدى دراسة بحثية قيمة حول النساء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وتطرقت جلسات أخرى في المؤتمر إلى موضوعات متنوعة منها التحديات والصعوبات التي تواجه الإعلام العلمي في عدد من الدول العربية، ودور المعلّم والمحتوى الرقمي العربي والتحوّل من سياسة الاستجابة الإغاثية لأزمات التعليم إلى سياسات تعتمد على التحديث وجودة التعليم والابتكار من منظور العدالة الاجتماعية، وصعوبات الحصول على المعلومات والتقارير والوصول إلى المصادر المتخصصة، وصعوبات تبسيط العلوم ولغتها وندرة المعلومات العلمية أو فوضى كثرتها واختلاط العلم بالخرافة، وندرة الإعلاميين العلميين المتخصصين، وصعوبات تحري الدقة والترجمة العلمية، وحرية الحركة في البلاد المضطربة وصعوبات السفر والتنقل، وغيرها من التحديات التي أعاقت جهود وضع العلوم في دائرة الضوء.
تجارب واعدة
وحفل المنتدى بتجارب ناجحة وواعدة للإعلام العلمي في الدول العربية منها تجربة الصحافي اليمني هاشم الغيلي بعنوان “رحلتي مع التواصل العلمي”، وتجربة فارس بوخمسين، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة السعودي العلمي، التي تعد أول مؤسسة مختصة بالتواصل العلمي الاحترافي في السعودية، في حين طرح عماد سعد، مؤسس ورئيس تحرير شبكة بيئة أبو ظبي، تجربته الإعلامية غير الربحية المتخصصة في توطين المعرفة باللغة العربية في مجال البيئة والتنمية المستدامة، من خلال تلك الشبكة التي فازت بست جوائز دولية على مستوى المنطقة العربية.
واستعرض المنتدى تجارب المبادرات الشبابية في الإعلام والتواصل العلمي في العالم العربي، مع التركيز على الجهود التي بذلتها تلك المبادرات من أجل النهوض بالمجال، والتحديات التي واجهتها والدروس المستفادة منها، كتجربة محمد حسين المدير التنفيذي لفريق المبتكرين الصغار، ولطيفة الغزال، رائدة الأعمال والأستاذة الجامعية، ويوسف ورصاص رئيس مبادرة Space Curiosities.
وتطرقت إحدى الجلسات إلى قصة نجاح نمو الجمهور العلمي لمنصة العلوم للعموم، التي هدفت إلى تحديد العناصر التي تشكل المنظومة المتكاملة لقطاع التواصل العلمي، وكيفية إيجاد وتفعيل العناصر المفقودة في العالم العربي، والتحديات التي يواجهها قطاع التواصل العلمي، والحلول المقترحة للتغلب عليها.
الإعلام العلمي يفتح الآفاق واسعةً أمام المجتمعات، لذا تُموِل الكثير من الدول وحتى البرامج الدولية هذا النوع من الإعلام نظرا لأهميته في نشر المعرفة. وقد أكد المنتدى أن الإعلام العلمي يعني التخصص والمسؤولية والبحث الدائم، وهذا هو السبيل لإعادة العلوم والتقنية إلى دائرة الضوء والإقرار بدورها في تقدم الأمم وحل مشكلاتها والتصدي الواعي للتحديات التي تواجهها.