د. أبو بكر خالد سعد الله
من يا ترى سمع بالمقهى الاسكتلندي من جمهور القراء؟ لا نعتقد أن عدد هؤلاء كبير، على الرغم من أن لهذا المقهى تاريخاً ناصعاً سجلته فيه مجموعة من علماء رياضيات القرن العشرين، وفي مقدمتهم ستيفن بناخ Stefan Banach (1892-1945). وهذا المقهى لا يقع في اسكتلندا ولا ضواحيها، بل يقع في مدينة لفيف Leviv، ويسمى بالبولندية كفيارنيا شكوكا Kawiarnia Szkocka.
في الماضي كانت مدينة لفيف تسمى لفوف L’vov بالروسية، وتكتب بالبولندية Lwów. وقبل ذلك سميت ليوبوليس Leopolis أي مدينة الأسود. ثمَّ أطلق عليها الألمان اسم لمبرغ Lemberg، حيث شهدت المدينة تعاقب حضارات عديدة منذ نشأتها خلال القرن 13 للميلاد. إنَّها أكبر مدينة في الجهة الغربية من أوكرانيا، وكان الإقليم يعتبر منطقة بولندية، ثم أصبحت المدينة نمساوية؛ وهي توجد داخل التراب الأوكراني على بعد 70 كلم من الحدود الحالية لبولندا. وقد أعلنت لفيف عام 1918 عاصمة الجمهورية الشعبية لأوكرانيا الغربية. لكن البولنديين استولوا عليها بعد أيام وضُمت إلى بولندا حتى بداية الحرب العالمية الثانية وعرفت باسمها البولندي لفوف. وخلال الحرب العالمية الثانية غزاها الألمان عام 1941، ثم سيطر عليها السوفييت عام 1944 وإلى جمهورية أوكرانيا. هذه الحروب جعلت عددا كبيرا من السكان البولنديين ينزحون عن مدينتهم. وقد أدت المدينة دورا بارزا في استقلال أوكرانيا عام 1991.
الكتاب الاسكتلندي
عُرف المقهى الاسكتلندي ببنائه الباروكي، وكان يقصده طلبة الجامعة، واشتهر خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين حين كان يجتمع فيه هؤلاء الطلبة المنتسبون إلى كلية الرياضيات، وكانوا يقضون سهراتهم هناك في مناقشة المسائل الرياضية لا سيما في ما يعرف بحقل التحليل الدالي functional analysis.
كانت طاولات المقهى مصنوعة من الرخام، وكانت نخبة من طلبة الرياضيات يكتبون فوقها المسائل بقلم الرصاص. وحتى لا تضيع هذه الكتابات التي كانت تحمل الكثير من المسائل العويصة والحلول والتعقيبات قامت زوجة أحد الرياضيين وهو ستيفن بناخ Banach بشراء سجل وُضع عند صاحب المقهى، عرف فيما بعد بـ«الكتاب الاسكتلندي».
ويحتوي هذا الكتاب على مجموعة من المسائل المحلولة وغير المحلولة، وأخرى غير قابلة للبت فيها، بمعنى أنها مسائل رياضية إذا انطلقت من صحتها استطعت البرهان على خطئها، والعكس بالعكس، إذا افترضت أنها خاطئة تمكنت من إثبات صحتها.
كان بإمكان كل واحد من هؤلاء الطلبة تسلم الكتاب من صاحب المقهى وتدوين ما يشاء فيه؛ أسئلة أو أجوبة أو تعقيبات. وكانت المجموعة تمنح لصاحب حلول المسائل العويصة جائزة متواضعة.
مقصد كبار العلماء
شهدت بولندا في مجال الرياضيات نهضة لا مثيل لها في العالم خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وبرزت فيها إبان تلك الحقبة ثلاث مجموعات من علماء الرياضيات في ثلاث مدن عريقة تتنافس وتتعاون فيما بينها، وهي مدن العاصمة وارسو حيث ركزت البحوث على موضوع المنطق والطبولوجيا، وكراكوف (التحليل والمعادلات التفاضلية)، ولفيف (التحليل الدالي).
ويحتوي (الكتاب الاسكتلندي) على 193 مسألة، وآخر من حرّر مسألة فيه هو هوغو شتاينهاوس عام 1941. وترجم أولام في عام 1957 الكتاب إلى الإنكليزية، ونشره في مختبر لوس ألاموس بالولايات المتحدة.
وقد عاد المقهى الاسكتلندي وفتح أبوابه عام 2014 في الفندق الفاخر (أطلس) بعد أن تحوّل في عهد سابق إلى بنك، والآن استرجع المقهى اسمه الأول، وتمكن صاحبه من استرجاع «الكتاب الاسكتلندي»، وهو يعرضه للزوار ويدعوهم إلى إضافة شيء من الرياضيات على صفحاته.
الفذ ستيفن بناخ
ولد بناخ يوم 30 مارس عام 1892 في مدينة كراكوف البولندية التي كانت آنذاك تابعة لأمبراطورية النمسا. والاسم بناخ ليس اسم أبيه بل اسم سيدة تولت رعايته بعد أن هجرته أمه في سن مبكرة، وبعد أن احتضنته في بداية الأمر جدته، علماً أن أباه ظل يعطف عليه.
عاش بناخ في بؤس شديد، ودخل المدرسة الثانوية لكنه كان في الواقع عصامياً لا يهتم إلا بالرياضيات. وكان يتصور أن الرياضيات بلغت منتهاها في التطور، ولا يمكن أن تزدهر وتتجدد إذا لم نجد لها منافذ أصيلة. وعندما دخل كلية التقنيات المتعددة عام 1910 دون مورد مالي كان عليه العمل لكسب مال يكفل له الدراسة. لذا لم يتمكن من الدراسة في هذه الكلية سوى سنتين جامعيتين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1916 التقى بناخ الرياضي الشهير هوغو شتاينهاوس، ويروى أن هذا الأخير كان يتفسح ذات يوم في حديقة عمومية فسمع أحدهم يتحدث عن قياس لوبيغ Lebesgue. وهنري لوبيغ (-1875 1941) رياضي فرنسي شهير وضع أسس القياس ونظرية المكاملة المعمول بها حتى الآن، وكان في ذلك الوقت مفهوماً جديداً.
وأدى الفضول بشتاينهاوس للتعرف إلى الشخصين اللذين كانا يدردشان حول قياس لوبيغ، وكان أحدهما بناخ، بعد ذلك طرح شتاينهاوس على بناخ مسألة استعصت عليه. ولم تمر أيام حتى جاءه بناخ بحلها فتفاجأ شتاينهاوس بذلك، ونشرت دراسة المسألة المطروحة باسم الرجلين. ومن ثمّ دخل بناخ حقل الرياضيات من بابه الواسع، فكانت تلك بداية تعاون مثمر مع شتاينهاوس.
جمعية الرياضيات البولندية
وعادت المؤسسات البولندية تدريجياً إلى ما كانت عليه من نشاط بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
وقد أسس بناخ عام 1919 مع مجموعة من علماء الرياضيات جمعية الرياضيات لمدينة كراكوف التي أصبحت بعد سنة تسمى جمعية الرياضيات البولندية. وصار بناخ ينشر بحوثاً عميقة في الرياضيات جعلته يجذب أنظار أسرة الباحثين في الرياضيات عبر العالم.
وفي عام 1920 أصبح أستاذاً مساعداً في الجامعة، وناقش أطروحة الدكتوراه في السنة نفسها باستثناء خاص؛ إذ لم يقض، كما أسلفنا، سوى سنتين دراسيتين في الجامعة، بل لم يحصل حتى على البكالوريوس. والعجيب أن أطروحته هذه كانت تحتوي على نظرية تعرف بنظرية (النقطة الصامدة) لبناخ، وقد أرست أسس نوع جديد من التحليل الرياضي يسمى (التحليل الدالي). ولا تزال هذه النظرية التي تشهد تطوراً مطرداً تُستعمل في جل البراهين ذات الصلة بالتحليل الرياضي.
والغريب أيضاً أن بناخ لم يحرر أطروحته بقلمه لأنه كان ينزعج من الكتابة، بل كان يملي محتواها على أحد زملائه في أحد المقاهي حتى تم تحريرها. ثم حصل على درجة التأهيل عام 1922، ورقّي إلى درجة أستاذ «فوق العادة». وحتى يسدد ديونه لجأ إلى تأليف كتابين مدرسيين نُشرا عام 1929 و 1930، وهذا بالموازاة مع نشر البحوث المرموقة، بعضها بالتعاون مع زملائه.
وانتخب بعد ذلك عضواً في أكاديمية العلوم البولندية. ومن الذين تعاون معهم بصفة مستمرة أستاذه الذي أشرف على أطروحته شتاينهاوس، إذ نشرا معاً العديد من الأعمال، فكانا من وراء نشأة مدرسة رياضيات حقيقية في البلاد ركزت على حقل التحليل الدالي وتطبيقاته المختلفة، وأصدرا عام 1928 مجلة متخصصة في الرياضيات باسم Studia mathematica (دراسات رياضية) لا تزال تصدر حتى الآن. وفي عدد صادر عام 1929 نشر بناخ مبرهنة أساسية في التحليل عرفت باسم نظرية بناخ-شتاينهاوس قلّ من لم يستخدمها في بحوثه حول التحليل الدالي.
إلى مسقط رأسه
وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية عرض على بناخ الانتقال إلى الولايات المتحدة لكنه آثر البقاء في بولندا. وفي عام 1939 صارت المدينة تحت حكم السوفييت، ثم حكمها الألمان بعد سنتين إلى أن حررها الجيش الأحمر عام 1944. وعند انتهاء الحرب قضت الاتفاقيات الدولية بأن تُضَم مدينة لفيف إلى الاتحاد السوفييتي. لذا قرّر بناخ مغادرتها للعودة إلى مسقط رأسه، وشغل هناك منصب أستاذ كرسي في جامعة كراكوف إلى أن توفي بسرطان الرئة في 31 أغسطس عام 1945.
وتخليداً لذكراه، أسست أكاديمية العلوم البولندية عام 1992 جائزة باسمه، كما أن هناك جائزة مماثلة تمنحها جمعية الرياضيات البولندية. فضلاً عن ذلك، تم تشييد مركز دولي للرياضيات ذاع صيته في بولندا يحمل اسم بناخ. ولم تنس إدارة البريد البولندي إصدار طوابع بريدية تحمل صورته في الذكرى المئوية لميلاده.