د. سائر بصمه جي
لا يكاد يمر يوم على أحدنا إلا وينظر إلى مرآة قريبة منه مستخدماً إياها لأغراض عدة، أهمها الحصول على المنظر الملائم والهيئة المناسبة. وتطورت تلك المرايا بمرور الزمن لتستخدم في مجالات كثيرة؛ فصارت مرايا محرقة تستخدم سلاحاً فعالاً في بعض الأزمنة، وأخذت حديثاً تستخدم في الطهي وتوليد الطاقة الكهربائية النظيفة.
بدايات ظهور المرايا
مع بزوغ الألف الثالث ق.م، كان الإنسان يعرف النحاس النقي الذي لا يشوبه أي خليط. وكان ذلك المعدن يأتي من عُمان، ومن الهضاب الإيرانية والأناضول. أما المرآة الزجاجية التي يرسب عليها معدن فقد ظهرت في القرن الثاني للميلاد في سورية، وكذلك المرآة المكبرة التي تكون بشكل كرة مملوءة بالماء. لذلك فإن القول بأن أولى المرايا الزجاجية صنعها الفينسيون Venetian نحو القرن 13م ليس دقيقاً. وفي عام 283 ق.م، وفي حكم بطلميوس سوتر، أنجز بناء أول منارة عرفها التاريخ في مدينة الإسكندرية المصرية. فقد رفع المهندس المعماري سوستراتوس الكنيدي برجاً بارتفاع 85 متراً، يتراجع كل من طوابقه عن الآخر، أما النور فكان عبارة عن نار جمر كبيرة ومرآة هائلة تعكسها حتى أبعد من 55 كم في البحر. واختفت تلك المنارة في القرن الرابع عشر الميلادي بسبب زلزال أصاب المنطقة. ولا يمكننا التأكد من احتمال استخدامها حرارة النار لإحراق السفن، وإنما المؤكد أنها استخدمت لإرشاد السفن؛ فالتقنية المصممة بها تختلف عن تلك التي استخدمها أرخميدس، كما سنجد ذلك لاحقاً.
المرايا المحرقة عند اليونانيين
منذ القدم، أدرك الإنسان أهمية الشمس كمصدر للضوء والحرارة، وكانت هناك محاولات عديدة لتركيز هذه الأشعة منها المرايا والعدسة المكبرة، التي تعمل على تجميع أشعة الشمس وتجعل منها قوةً محرقة. وعثر على مثل هذه العدسات في آثار نينوى بالعراق، وقدّر بأنها تعود إلى القرن السابع ق.م.
ربما يكون أقدم أثر مكتوب عن المرايا المحرقة موجوداً في مسرحية كتبها اليوناني أريستوفان بعنوان (السحاب)، حيث نجد شخصاً يتحدث عن توجيه إحدى العدسات المجمعة لضوء الشمس إلى لوحٍ من الشمع بغية محو شهادةٍ كُتبت عليه.
يروى أن أرخميدس قام خلال حصار سيراكوزا (نحو 214 ــ 212 ق.م.) بإشعال النار في أسطول مارسيلوس الروماني عندما هاجم سيراكوزا. وورد في كتاب (الأمزجة De Temperamentis) أول ذكرٍ لعمل أرخميدس هذا بقول مؤلفه: «لقد أحرق سفن الأعداء بمرايا محرقة بالقرب من سيراكوزا». إلا أن المؤرخين ليفي وبلوتارخوس لم يذكرا شيئاً عن استعمال الطاقة الشمسية هذه، مع أنهما ذكرا الأسلحة المعقدة الأخرى التي استخدمها أرخميدس لقهر جيش مارسيلوس. ومع ذلك فقد تمكن الأخير من محاصرة سيراكوزا، ثم الاستيلاء عليها، ومن ثم أسر أرخميدس وقتله.
وبقيت هذه الحادثة منسية إلى أن أعاد ذكرها في القرن الثاني عشر للميلاد المؤلف جونيس تزيتزي، حين قدم وصفاً مسهباً للأسطول الذي أحرقه أرخميدس بسلاحه العجيب قائلاً: «أضرم أرخميدس النار في أسطول مارسيلوس بوساطة مرآة محرقة كبيرة تتألف من مرايا صغيرة مربعة، تتحرك على مفاصل بكل الاتجاهات، فتستطيع أن توجه أشعة الشمس وتركزها على الأسطول الروماني، فتقلبه إلى رماد وهو على بعد مرمى السهم منهم». وفي القرن نفسه، وصف يوان زوناراس في كتابه (الوقائع Chronicon) حصار بروكلس الأخير للقسطنطينية، فقال إن بروكلس استعمل مرايا محرقة لإضرام النار في أسطول فيتيليوس، وعلق على ذلك بقوله إنها شبيهة بالمرايا التي اخترعها أرخميدس.
أجريت عدة تصاميم للتحقق من فعالية السلاح الذي صممه أرخميدس باستخدام المرايا المحرقة، فقد كتب المعماري أنثرميوس في القرن السادس للميلاد وصفاً لاختراع أرخميدس في كتابه (تناقضات ميكانيكية Mechanical paradoxes)، وأجرى حسابات تبين أن 24 مرآة من حجم معين، تستطيع أن تحقق ما صنعه أرخميدس إذا نظمت تنظيماً مناسباً.
وفي القرن الثامن عشر نجح الفرنسي ج. ل. بيوفون (1788-1707م) في إشعال خشبة على مسافة 50كم، بعد أن عكس أشعة الشمس بوساطة عدة مرايا مسطحة غير كبيرة الحجم وتوجيه بؤرها إلى نقطة محددة من الخشبة. وفي عام 1973 كرر المهندس اليوناني ي. ساكاس تجربة بيوفون، ولكن بحسب رواية أخرى تقول بأن أرخميدس استخدم تروس الجنود النحاسية المصقولة بدلاً من المرايا وأحرق قارباً على بعد 50 متراً من الشاطئ بعد أن صفّ على الشاطئ عشرات من الجنود الحاملين لمرايا مسطحة بقياس (91×50سم) وتوجيه أشعة الشمس نحو الهدف المطلوب.
وفي عام 2005م أنجز مجموعة من الطلاب من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تجربة مماثلة باستخدام أكثر من 130 لوح مرآة عاكساً لتركيز أشعة الشمس على هيكل خشبي مشابه لسفينة قديمة يقع على بُعدِ 100م من ألواح المرايا. وقد نجحت التجربة حين كانت السماء صافية والسفينة ثابتة في مكانها، وقامت بعملية الإحراق فعلاً.
ولسنا متأكدين من أن أقليدس (القرن 4 ق.م) قد ألف فعلاً كتاباً في (علم انعكاس الضوء)، إلا أنه اتبع نظرية فيثاغورث حول الأشعة المنبثقة عن العين، وهو لم يخرج عن إطار الرسم الهندسي، فقد كان شعاعه الضوئي عبارة عن خط مستقيم. وأثناء دراسته تعرّف إلى أمور ربما عرفها قبله التقنيون أو استخدموها مثل: الظلال لقياس الارتفاعات، وقواعد الانعكاس على المساحات المسطّحة وإمكانية إشعال النار بوساطة مرآة. لقد عرف إقليدس المرايا الجامعة، ووصفها، ولنا أن نتساءل: هل كان من الممكن تحقيق ما وصفه إقليدس هندسياً مع وسائل الصقل التي كانت تُستخدم في ذلك الوقت؟.
دور عربي
ويدين العلم للعلماء العرب في حفظ رسالة ديوقليس (240 – 180ق.م) Diocles (حول المرايا المحرقة) باللغة العربية، والتي تعتبر أول شرح رياضياتي للمرايا المحرقة التي اخترعها أرخميدس، والتي بإمكاننا اعتبارها الجواب عن السؤال الذي كان قد طرحه أرخميدس على نفسه وهو: كيف يمكن للمرايا أن تحرق؟
أما في الصين، فقد أشار الخيميائي الصيني الطاوي (كو هونغ Ko Hung) في القرن الرابع للميلاد في (كتاب معلم المحافظة على التضامن) إلى المرايا المحرقة فقال: «أما عن فن التغير فما من شيء يتعذر عليه إنجازه: فجسم الإنسان مثلاً من الميسور رؤيته بصورة طبيعية، لكن هناك طرائق لجعله خفياً؛ والأشباح والأرواح خفية بطبيعتها، لكن هناك طرائق يمكن جعلها تظهر عن طريقها. وهذه أشياء حدثت مراراً وتكراراً. والماء والنار اللذان في السماوات يمكن الحصول عليهما باستخدام المرآة المحرقة ومرآة الندى…».
في الحضارة الإسلامية
أفرد العلماء العرب للمرايا المحرقة علماً خاصاً بها (بمعنى له تعريف محدد وقواعد يلتزم بها)، فقد عرّفه الحاجي خليفة بقوله: «هو علم يتعرف منه أحوال الخطوط الشعاعية المنعطفة والمنكسرة والمنعكسة ومواقعها وزواياها ومراجعها وكيفية عمل المرايا المحرقة بانعكاس أشعة الشمس عنها ونصبها ومحاذاتها، ومنفعته بليغة في محاصرات المدن والقلاع». وقد اعتمد تصنيف طاش كبري زادة صاحب كتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم) لهذا العلم بأنه يدرج تحت العلوم الهندسية. والواقع أن كلاً منهما أخذ هذا التعريف عن كتاب ابن الأكفاني (ت749هـ/1348م) (إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد) الذي يكمل التعريف السابق بقوله: «وقد كانت القدماء تعملُ هذه المرايا من أسطحة مستوية، وبعضهم يعملها مقعّر كرةٍ بحسب القطع المكافئ فإنها تكون في نهاية القوة والإحراق. وكتاب أبي علي بن الهيثم في المرايا المحرقة على هذا الرأي».
أما عن بدايات اهتمامهم بهذا العلم فيذكر لنا الفهرست لابن النديم أن ليعقوب بن إسحاق الكندي رسالة بعنوان (كلام في المرايا التي تحرق)، ولقسطا بن لوقا البعلبكي (كتاب في المرايا المحرقة)، ولعطارد بن محمد الحاسب المنجم (ت206 ه / 821 م) (كتاب المرايا المحرقة).
إلا أن أفضل وأكثر من فصل في دراستها كان الحسن بن الهيثم؛ إذْ إضافةً إلى إدراكه لطبيعة الضوء والآثار التي يمكنه أن يحدثها، فقد تميز على من سبقه بقدرته على البرهان الهندسي بأنّ المرايا ذات القطع المكافئ هي أفضل الأشكال التي يمكنها أن تعطي نقطة محرقة بعد تجميع الأشعة الشمسية عنها، كما أنه قدم لنا طريقة عملية دقيقة لكيفية صنعها.
وقد برهن هندسياً على قدرة المرآة الدائرية على الإحراق، وهي تماثل من حيث القدرة، قدرة المرآة الكروية المقعرة التي تتجمع الأشعة المنعكسة عنها في نقطة واحدة.
الأوروبيون والمرايا المحرقة
ترجمت مقالة ابن الهيثم عن المرايا المحرقة بوساطة القطع المكافئ منذ زمن بعيد من العربية إلى اللاتينية. وتعرّف الباحث هايبرغ في مقالة مخطوطة وجدت في روما إلى تلك الترجمة من قبل فيلهلم فون موربك، وهي نفسها موجودة في مجموعة من المقالات المتأخرة في مكتبات مختلفة من أوروبا. لكن من الأهمية بمكان أن نذكر أن فيلهلم فون موربك هو صديق مقرّب لعالم البصريات فيتلو Vitello الذي تكلم عن علمه بالبصريات، حيث يدعى هناك في النسخة المطبوعة غويليلموس دي موربيتا G. de Morbeta.
ويذكر المؤرخون أن فيتلو اغترف القسم الأكبر من معلوماته في علم البصريات عن ابن الهيثم، وقد جعلتنا الأبحاث الدقيقة والجديدة عن ابن الهيثم نعرف الأقسام الأخرى التي نشأت عن مقالته وعلى كل حال تحت التأثير العربي. وقد وجد من خلال مقارنة الترجمة اللاتينية لمقالة ابن الهيثم عن المرايا المقعرة الكروية بالأصل العربي وجود تطابقٍ تام بينهما. هذه الترجمة مازالت تحمل بعض الآثار لأصلها العربي، فقد سمى القطع المكافئ بــ «المكافئ Mukefi»، كما جاء غير ذلك من الكلمات العربية. وتم ذكر واستخدام مقالة ابن الهيثم عدة مرات في العصر الوسيط، فقد تكلم مطران كانتربوري يوهانس بيكهام (1291-1228) عن المرايا التي صُنعت بحسب الطريقة المقدمة في الكتاب عن المرايا المحرقة، وأن جميع الأشعة تتجمع في نقطة واحدة.
وعالج روجر بيكون المرايا المقعرة ذات القطع المكافئ بشكل أكثر تفصيلاً في مقالته (المرايا De speculis)، والتي تعتمد على مصادر عربية. ويدل منشأ كلمة «المكافئ Mukefi» على المنشأ العربي لصناعة المرايا. كذلك فإن بيكون – مثل العرب – يصف تلك المرايا المتشكلة من قطع مكافئ وحلقات. وبمقارنة مقالة بيكون يرى المرء تشابهها مع سلفها العربي، وعلى بيكون اعتمد الباحثون الأوروبيون اللاحقون.
يقول المستشرق الألماني إيلهارد فيدمان: «لقد خدمت أعمال ابن الهيثم في المرايا المحرقة المكافئية والمرايا الكروية بلاد الغرب بحيث إنهم ارتكزوا عليها. لانعلم عن وجود ترجمة لمقالته عن المرايا المقعرة الكروية، لكننا نرى في كل مكان تأثيرها البارز». ورفض الفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت (القرن 17م) القصة التي حيكت عن مرايا أرخميدس، وافترض بأنه إما أن تكون مضخمة جداً، أو أن القصة أسطورة لا أساس لها من الصحة.
أما عن استخدام مبدأ وفكرة المرايا المحرقة في توليد الكهرباء النظيفة، فقد بدأ في ثمانينيات القرن العشرين عندما تم إنشاء حقلين كبيرين من أرتال المرايا المحرقة المكافئية على بعد 160 ميلاً جنوب غرب مدينة لاس فيغاس الأمريكية. ثم تلاها سبع منشآت مجاورة في منطقة كريمر جانكشن وبجانب بحيرة هاربر التي تخلو من الماء. ومازالت هذه المنشآت تعمل بمجموع مراياها المحرقة التي يبلغ عددها مليوناً تنتشر فوق مساحة قدرها (1600 أكر) وتوفر طاقةً يبلغ إجماليها 354 ميغاواط.