حســني عبـد الحافــظ
هي مادة ليست بجديدة، لكن بفضل ما أدخِل عليها من تطوير صارت مادة فريدة، لها صفات وخصائص غير مسبوقة، تؤهلها لأن تكون مادة المُستقبل، لتنوع استخداماتها في مجالات عدة. إنها مادة الدخان المُتجمد، أو الإيروجيل Aero Gel، والتي يُطلِق عليها البعض اسم «الهلام الهوائي». فماذا عن هذه المادة الفريدة؟ وما أبرز صفاتها وخواصها؟ وفي أي المجالات يُمكن استخدامها؟
تعرّف هذه المادة بأنها مادة هُلامية مُنخفضة الكثافة، تبلغ كثافتها نحو 0.9 مليغرام لكل سنتيمتر مُربع، استُعيض فيها من المُحتوى السائل بالغاز.
مسيرة تاريخية
في أواخر العشرينيات من القرن الماضي تجادل عالمان أمريكيان، هما تشارلز ليرند وصمويل ستيفنس كيستلر، حول طبيعة «هُلام السليكا»، وهل يأخذ صورته هذه كونه ذا طبيعة سائلة، أم لكون هيكله يتألَّف من شبكة مسام ميكروسكوبية؟ أجرى كيستلر سِلسلة تجارب في كاليفورنيا من أجل إثبات إمكانية الاستعاضة عن السائل في الجيل بالغاز، من دون أن يتأثر الهيكل الهلامي. وقد نجح في ذلك، ونشر نتائج تجاربه في مجلة Nature عام 1931 . لم يلجأ حينها إلى تبخير السائل؛ لأن من شأن ذلك انكماش الهيكل، لكن اتجه إلى تجفيفه، فقام أوَّلاً بإحلال السائل المُذاب بالكحول، وعن طريق الضغط والتسخين، لما بعد النُقطة الحرجة (RSCE)، تبدأ مرحلة التحوُّل إلى غاز، وبرفع الضغط عن الهلام، مع الاستمرار في درجة الحرارة فوق الحرجة يتزايد تحرر الجُزيئات على هيئة غاز. وبتبريد الهيكل، لا يتبقى من الكحول سوى جُزء ضئيل جدًا، لا يُمكنه التكاثف ليكون سائلا من جديد، بل يتحوَّل إلى غاز. وكُل ذلك يتم دون إحداث أي تغيير في الهيكل الشبكي، ومن ثم يصبح لدينا مادة صلبة، على الرغم من أن فراغاتها النانوية مملوءة بالهواء.
تطوير المادة
تواصلت الأبحاث والتجارب على هذه المادة لتطويرها وإكسابها صِفات وخصائص جديدة. وفي أواخر عام 1985 توصَّل كيميائيون في مُختبر لورنس بركلي بكاليفورنيا إلى طريقة جديدة لإنتاج الأيروجيل، وذلك بإحلال ثاني أكسيد الكربون السائل بدلاً من الكحول في عمليَّة التجفيف فوق الحرجة. وهذه الطريقة آمنة لكن تكلفتها مرتفعة. وقبيل أفول عقد الثمانينات، نجح الكيميائي الأمريكي ريك بيكالا في تطوير نوع من الأيروجيل، ذي أصول عضوية، يُمكن تحويله إلى كربون نقي، إلاَّ أن التكلفة لم تتدن بشكل كبير.
وفي عام 1992م، نجح فريق مُشترك من عُلماء بجامعة نيومكسيكو وعُلماء بالمُختبر القومي الأمريكي في سانديا، في إيجاد طريقة جديدة لإنتاج الأيروجيل، من دون الحاجة إلى التجفيف فيما فوق النقطة الحرجة. وكان هذا تحوّلا كبيرا في إنتاج الأيروجيلات ذات التكلفة المُنخفضة.
وفي مارس 1995 ، أُنتج نحو 45 طنا من الأيروجيل، غير أنه لم يكن بالصلابة التي تتطلَّبها كثير من الصناعات. وفي العام التالي حدث تطور زاد من أهمية مادة الأيروجيل، وتوسيع دائرة استخداماتها.
وفي تجربة فريدة، أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) 260 من مكعبات الأيروجيل، على متن المركبة ستارد دوست المُتجهة إلى مذنب ويلد، بغرض جمع الغُبار الكوني وأخذ عيِّنات من المذنب. و قطعت المركبة نحو 4.8 بليون كيلومتر، وتمكَّنت مُكعبات الأيروجيل من التقاط الغُبار بنجاح. وفي عام 2006 عادت المركبة إلى الأرض دون أن تفقد أي مكعب منها.
نوع جديد
كان العالم الكوري الأصل الدكتور لي كانغ بيك قد أعلن في عام 2003م اكتشافه نوعا جديدا يتميَّز بالمرونة والصلابة في آن واحد. ولإنتاج وتسويق هذا المُنتج شارك في تأسيس شركة تحمل اسم «أسبين أيروجيل».
وفي 2011 أعلن فريق من العُلماء الأمريكيين نجاحهم في تطوير آخر للأيروجيل بخواص غير مسبوقة، تجعل منه المادة المُنتظَرة لصناعات المُستقبل .
خصائص ومزايا
قطع العُلماء شوطـًا طويلاً في رحلة تطوير مادة الأيروجيل، وصارت تمتلك مزايا كثيرة، أهمها:
> مُعدَّل الكثافة قليل جدًا، إذ تقل عن كثافة الزجاج بنحو 1000 مرَّة .
> تتميَّز بقُدرة كبيرة على العزل الحراري، كونها تلغي ثلاثة من النواقل الحرارية (تيارات الحمل ــ التوصيل ــ الإشعاع) .
> ذات طبيعة شِبه شفافة وملمسها شبيه بالرغوة، لكنها مادة جافة، ولا تُشبه الجيل في خصائصها الفيزيائية.
> يبدو للوهلة الأولى أنها عُرضة للتحطُّم، بيد أنها قوية جدًا هيكليـًا؛ إذ إن البنية الحاملة لها ذات قُدرات كبيرة، ويعبر عنها بالهيكل الميكروي ذي التغصنات، الذي هو جُزيئات ميكروية بحجم مُتوسط يراوح بين 2 و 5 نانومترات، تنصهر معـًا لتُشكِّل بنية ثُلاثية الأبعاد، وقُطر المسام أقل من 100 نانومتر، ومن ثم فإن مُكعبــًا منها بطول ورقة الدولار يُمكنه حمل وزن يزيد على نصف طن من دون أن يتهاوى أو يتضرر. وهي تمتلك سطحا تفاعليا كبيرا؛ إذ إن مساحة سطح 0.5 غرام منها تعادل سطحاً مساحته 250 مترًا مربعــًا .
> خفيفة جداً، وقد نُعِتت بأنها المادة الصلبة الأخف في العالم لأن المتر المكعب منها لا يتجاوز وزنه 160 غراما.
> عازلة للصوت وللرطوبة والبرودة.
> إذا خُلِطت بمواد بلاستيكية، تُصبح ذات مرونة كبيرة جدا، وكأنها زنبرك، بحيث يُمكن مدّها آلاف المرات، إلى حد أن مقدارًا صغيراً من المادة كفيل بتغطية ملعب كُرة قدم.
> صار بالإمكان إنتاج أنواع مُختلفة منها بواسطة الطباعة الثلاثية الأبعاد، باستخدام البوليمرات والسيليكا ومركبات الكربون .